المسرح الأفغاني الباكستاني والخطة الأميركية الجديدة
مقال صدر في صحيفة "الحياة" اللندنية السبت 30 ماي 2009
الرابط
طارق الكحلاوي
التكتم الذي يلف آفاق السياسة الأميركية في المنطقة لا ينبع فقط من الرغبة المعتادة على التكتم على ملفات الأمن القومي بل أيضا من استمرار الادارة الأميركية في حساب خياراتها. و من بين المسائل القليلة المطروحة بشكل واضح أولوية الملف الأفغاني-الباكستاني، و الذي يقع تقديمه بشكل متزايد إعلاميا كملف واحد تحت مختصر "أفباك" (Af-Pak)، خاصة على خلفية تداخل تنظيمي "طالبان" افغانستان و "طالبان" باكستان و انتشار تنظيم "القاعدة" بين ضفتي الحدود الباكستانية الافغانية على مدى "التخوم" الشفافة بين البلدين.
هناك طبعا بعض المؤشرات المساعدة على استقراء السياسة المحتملة تجاه هذا الملف في الاشهر القادمة خاصة بعد مرور فترة "المائة يوم" التجريبية في رئاسة أوباما. المؤشرات الصادرة عن الخطاب الرسمي للادارة الحالية لا تزال عموما في مرحلة التعبيرات الحذرة و غير الحاسمة. غير أنه مع حلول نهاية شهر مارس تم نشر "ورقة بيضاء" (white paper) في الموقع الرسمي على الانترنت لـ"البيت الأبيض" تعبر عن ملامح عامة للسياسة الرسمية في خصوص ملف "أفباك". الورقة كانت نتيجة لفريق عمل تم الاعلان عنه منذ 10فيفري الماضي من قبل الرئيس أوباما تحت اسم "مجموعة ما بين الوكالات للسياسات" (Interagency Policy Group) برئاسة كل من الضابط السابق في "وكالة الاستخبارات الاميركية" بروس ريدل (Bruce Riedel) و مبعوث الخارجية الأميركية لـ"أفباك" ريتشارد هولبروك (Richard Holbrooke) و مساعدة وزير الدفاع للسياسات ميشال فلورنوي (Michele Flournoy). و عملت هذه المجموعة تحت الاشراف المباشر لمستشار الأمن القومي جيم جونس ("واشنطن بوست" 10 فيفري). من المثير للانتباه أن في ذات اليوم تم الاعلان عن فريق عمل آخر مشترك بين الباكستان و الادارة الاميركية لمراجعة الوضع في المنطقة برئاسة وزير الخارجية الباكستانية و هولبروك. و بالرغم من أن ليس هناك ارتباطا مباشرا بين الفريقين لكن لن يكون أمرا مفاجئا إذا ما استفادت "الورقة البيضاء" من الافكار التي تم تداولها في سياق فريق العمل الاميركي الباكستاني. و عموما تشير هذه المجموعة المشتركة التي تم في اطارها كتابة "الورقة البيضاء" رغبة الرئيس الجديد في تداول أكثر ما يمكن من وجهات النظر حتى غير أميركية في صياغة السياسة الجديدة.
محتوى "الورقة البيضاء"، و التي لا تتجاوز الست صفحات، لخصه أحد معديها بروس ريدل في مؤتمر صحفي يوم 27 مارس. السؤال الرئيسي الذي بدى في أذهان الجميع هو ما إذا كانت منطقة "أفباك" فضاءا واحدا للعمليات العسكرية الاميركية و من ثمة تمديد مجال عمليات هذه القوات الى الاراضي الباكستانية. ريدل أشار آنذاك إلى أن: "سياستنا ترى افغانستان و الباكستان بلدين لكن كمسرح واحد لعملياتنا و ديبلوماسيتنا و كذلك كتحدي واحد لسياستنا بشكل عام". ريدل أضاف أن: "لدينا مقترحات ملموسة جدا لدعم المساعدة الاقتصادية لباكستان، و مقترحات سبق أن تم تقديمها من قبل الكونغرس". هولبروك وصف الحدود الباكستانية بـ"الخط الاحمر" أمام عمل القوات الأميركية المتمركزة في افغانستان. لكن ميشال فلورنوي التي شاركت في إعداد "الورقة البيضاء" أشارت في نفس المؤتمر إلى "من المؤكد أننا سنزيد من تركيزنا الاستخباري على هذه المنطقة و بالتوازي كلما سنحت الفرص سنزيد من عملياتنا أيضا".
لكن ماهي التداعيات العملية للخطوط العامة المعلنة في "الورقة البيضاء"؟ الخطاب الرسمي بقي محدودا. فقط في بداية شهر ماي بدأت تظهر النقاط التي سيتم التركيز عليها في منطقة "أفباك" من خلال حدث الاقالة المهينة لقائد القوات الاميركية في افغانستان الجنرال دايفيد ماكيرنان (David McKiernan) و الذي كان في موقعه على مدى 11 شهرا. معظم التقارير التي غطت الموضوع روجت بشكل متناسق لرسالة واضحة أرادت الادارة الراهنة تبليغها لمن يهمه الأمر: القادة العسكريين المتكونين ضمن الحروب النظامية الكلاسيكية لا يصلحون للمرحلة الحالية. الانتقادات التي تركزت على ماكيرنان كانت حول إصراره عدم التعلم من دروس "الحرب المضادة للتمرد" (Counterinsurgency War) في العراق. و لهذا تحديدا تم تعيين الجنرال ستانلي ماكريستال (Stanley McChrystal) في مكانه. و تعيين الأخير كرس ليس فقط سياسة جديدة في منطقة "أفباك" بل أكد أيضا الدور المحوري (الذي أشرت إليه سابقا) الذي يلعبه مركز بحث غير حكومي في صياغة سياسات الأمن القومي للادارة الجديدة. إذ غطت تعليقات بعض الباحثين في "مركز الأمن الأميركي الجديد" (The Center for New American Security) معظم التقارير التي تحدثت عن الجنرال ماكرسيتال بسبب علاقاتهم المهنية السابقة به.
أهمية "مركز الأمن الأميركي الجديد" في الإدارة الأميركية برزت من خلال حضور أسماء بارزة ضمن الفرق التي عينها الرئيس أوباما في الفترة الانتقالية (بين 4 نوفمبر و 20 جانفي) بالنسبة لملفات الشؤون الخارجية. من بين أبرز هذه الأسماء ميشال فلورنوي مساعدة وزير الدفاع حاليا و أحد معدي "الورقة البيضاء" التي أسست بمعية كورت كامبال "مركز الأمن الأميركي الجديد" منذ أكثر سنة. وهناك أيضا ويندي شيرمان، التي كلفت من قبل أوباما خلال المرحلة الانتقالية بمراجعة وضع وزارة الخارجية، وسوزان رايس ممثلة الولايات المتحدة في الامم المتحدة وعملت في الإدارة الانتقالية في ملف الأمن القومي وهما عضوان في مجلس إدارة المركز.
لكن من المثير للانتباه وجود خبراء في هذا المركز ممن عملوا ميدانيا كعسكريين في الحروب الأخيرة مثل جون ناغل الذي بدا طوال الحملة الانتخابية أحد أهم مستشاري أوباما في ملف أفغانستان، وخاصة موضوع "الحرب المضادة للتمرد"، إذ كان من بين أهم الخبراء الذين أعادوا صياغة خطط العسكرية الأميركية في هذا المجال، خاصة في العراق تحت إشراف الجنرال بتراوس. و يلعب الآن دورا متقدما في خطط الإدارة الجديدة فيما يخص الحرب في أفغانستان من خلال زيارات ميدانية إلى هناك. لكن ربما الخبير الأبرز من العسكريين السابقين الآن في هذا المركز و الذي يؤشر على طبقة من المستشارين العسكريين الذين يساهمون من مواقع غير حكومية في صناعة السياسة الاميركية في المنطقة أندرو أكسوم (Andrew Exum) الذي عمل سابقا تحت إشراف الجنرال ماكريستال و معروف بمدونته "أبو مقاومة". أكسوم كان مصدر رئيسي للتقارير الاخبارية التي تحدثت عن ماكريستال و النقطة الرئيسية التي ركز عليها هي الاتجاه لاستيراد تكتيكات "الحرب المضادة للتمرد" في العراق إلى افغانستان، إذ ماكريستال مع الجنرال باترايوس كانا من القيادات العسكرية الأساسية التي ركزت على أسلوب "التشارك" بين قوات أميركية و قوات من عناصر سابقة في المقاومة العراقية (ما يسمى بـ"قوات الصحوة") لمواجهة تنظيم "القاعدة". الخطة الأميركية في "أفباك"، إذا، وفق المعطيات الجديدة تتركز على إيجاد شرخ بين التركيبة القبلية و العشائرية البشتونية و القوى المرتبطة بشكل أساسي بمشروع تنظيم "القاعدة". و هنا تحديدا ستتصاعد محاولات زعزعة "طالبان" و إقناعها بالضغط من قوى محلية (السلطات الافغانية و الباكستانية) من جهة أولى و باستمالتها الى نوع من الحكم الذاتي المموه في مناطق نفوذها من جهة أخرى مقابل فك ارتباطها بمشروع تنظيم "القاعدة". لكن التعويل على ضغط الجيش الباكستاني تحديدا في هذه المقاربة سيكون محوريا. خاصة أن التدخل الاميركي المباشر في الباكستان سيكون، مثلما حدث في السابق، بالضرورة سريا و بالتالي محدودا. كما أنه لا توجد مؤشرات، مثلما حصل في المناطق السنية في العراق، على صراع بين القوى المحلية القبلية و مشروع "القاعدة". و هو ما يشير إلى مأزق محتمل للخطة الجديدة.