تقييم للوضع في إيران: تقرير إيلاف... و مقال عن حدود سلطة المرشد
لكن لم أعتقد أن الاجواء تغيرت إلى الحد الذي ولدت فيه حاجة لجموع مؤلفة من الايرانيين لمساءلة عبر الشارع و بمثابرة لبعض أساسيات النظام (و ليس النظام كله بعد)... عموما هناك ردود فعل حدية حتى في الشارع العربي (و من ثمة في فايسبوك) إما مع نجاد و تسفه بشكل كامل ما يجري على أنه خيانة و موالاة للغرب و إما مع موسوي و تشوه بشكل مطلق نجاد و خامنئي من ورائه و تقبل بدون مساءلة تهمة التزوير...
فيما كتبته خلال هذا الأسبوع اردت أن أشير إلى أن تعقيد الوضع الايراني يحتم علينا النأي عن الردود الحدية المتأثرة بالرغبة في التبرير السياسوي و ليس التحليل السياسي... إذ قبل تقديم رأي سياسي فيما يجري يجب حصر مجمل المعطيات القائمة و هذا ما لا أراه حقيقة في التقييمات السائدة... إذ قليلة هي التحليلات التي لا تمارس الانتقائية في معلوماتها... هناك أمر آخر في علاقتنا كتونسيين بما يجري... إذ من الطبيعي أن نتمنى ديناميكية سياسية و حيوية بالمستوى الإيراني و من الطبيعي أن نرى دعم إيران بعين إيجابية لفصائل مقاومة يتعاطف معها الوسط الشعبي التونسي و من الطبيعي في نفس الوقت أن هناك ريبة كبيرة للدور و الموقف المذهبيين الذين لعبتهما إيران في العراق... لكن كل تلك الدواعي السياسية لا يجب أن تمنعنا من محاولة رؤية ما هو قائم و موجود كما هو
هذا الأسبوع كتبت مجموعة من الملاحظات التي يجب أن أنقلها هنا بشكل جامع بما أنها مرتبطة ببعض... أولا ردا على أسئلة الصديق الصحفي اسماعيل دبارة في تقرير كتبه على موقع إيلاف استقصى فيه أيضا آراء الأخ عدنان منصر
الرابط
أنقل هنا الفقرات المنقولة عني في تقرير إيلاف
//
البداية كانت بسؤال حول افتراض أنّ قائد الاحتجاج "موسوي" أقرّ بهزيمته بسبب إعادة فرز النتائج أو بتدخّل من المرشد الأعلى للثورة ، وما يمكن أن يعنيه ذلك من خيبة أمل لدعاة الإصلاح في إيران وربما نهاية الحياة السياسية لوجوه إصلاحية بارزة.
الدكتور طارق الكحلاوي لا يعتقد مع هذا الافتراض أنه يمكن أن تنتهي الحياة السياسية لوجوه إصلاحية بارزة تحت أي ظرف إلا إذا تم إسقاط النظام برمته. إذ إنّ الصراع الراهن يحتوي على مفارقة أساسية فهو - من جهة أولى- تعبير عن أزمة هيكلية في النظام السياسي الإيراني بما في ذلك (و لكن ليس فقط) الصراع بين الهيئات المنتخبة و الهيئات غير المنتخبة، و من جهة ثانية هو ممكن فقط لأنه صراع بين أعمدة النظام ذاته. فالسيرة السياسية و الفكرية لمير حسين موسوي مثلا مثيرة للانتباه في هذا السياق. فهنا نحن بصدد أحد الممثلين البارزين للتيار الراديكالي الثوري الذي أتى للسلطة بعد إزاحة كل التيارات التي لم يستوعبها الإمام الخميني تحت عباءته في بداية الثمانينات. و طريق موسوي إلى التيار الإصلاحي كان متعثرا إذ إنّ مساندته القوية لخاتمي سنة 1997 لم تكن ناتجة في البداية من تلاقٍ فكري بل من تلاق سياسي إذ رغب "الراديكاليون" في المساهمة في توجيه ضربة انتقامية من "المحافظين" الذين أزاحوهم من السلطة بمجرد انتهاء الحرب الإيرانية-العراقية. فقط فيما بعد غيّر "موسوي" آراءه بشكل حاسم و تبنى بشكل واضح أطروحات التيار "الإصلاحي". و ليست هذه مسيرة استثنائية لدى رموز "إصلاحية" كثيرة و بالتالي فإن هناك ما يكفي من الديناميكية في الصراعات التي تشق النظام الإيراني حتى يمكن لأي وجه سياسي أن يحافظ على موقعه بتعديل دوره في سياق متغيرات التوازنات التي تشق إيران.
ويرى الخبير الاستراتيجيّ الكحلاويّ أنه لدينا " أمثلة على وجوه "إصلاحية" بارزة حافظت على موقعها رغم الهزات الكبيرة و الرئيس خاتمي مثال بارز على ذلك حيث ساهم بشكل مؤثر في حملة موسوي رغم فشله الواضح في تحقيق وعوده خلال تجربته الرئاسية الطويلة. أمّا رفسنجاني بوصفه وجها متحركا "براغماتيا" فيقف تارة مع "المحافظين" و تارة مع "الاصلاحيين" مثلما يفعل الآن يعكس أيضا قدرته على الحفاظ على موقعه المؤسساتي المفصلي رغم أنه يعتبر حسب الكثيرين "رجلا مكروها" في الشارع الإيراني بسبب تهم "الفساد".
.....
وقال خامنئي إن "النزال الدائر في الشارع خطأ، وأريده ان ينتهي"، مشددا على انه لن يرضخ للشارع". خامنئي رحّب بفوز نجّاد قبل حتى أن يصادق "مجلس صيانة الدستور" على النتيجة ، ثم قدم تنازلا للإصلاحيين بدعوته لإعادة فرز الأصوات ،ومع هذا خرج مئات الآلاف في المدن الإيرانية للاحتجاج ما اعتبره بعض المتابعين ، بداية لتمرّد ما على السلطة المطلقة للمرشد.
يقول الكحلاوي:" نعم ملاحظة رئيسة لكنها لا تعبر عن واقع جديد أو مُستجد بالأزمة الراهنة. علينا أن نرجع إلى الظروف التي حفت باختيار خامنئي لموقع "المرشد الأعلى" حتى نفهم الهوة النسبية بين سلطته المعنوية و الاسمية و سلطته الدستورية. إذا قارنا دوره بدور الإمام الخميني فإن الأخير أيضا لم يكن دائما مسموعا. مثال بارز على ذلك، يهم الخميني و خامنئي في الوقت نفسه، هو التصادم الذي حصل بين الاثنين عندما كان خامنئي رئيس الجمهورية سنة 1988 و تجاهل تعليمات الخميني في سياق رفضه لقرارات "مجلس صيانة الدستور". لكن من دون شك فإنه رغم امتلاك خامنئي الصلاحيات الدستورية السابقة نفسها للخميني فإن "المرشد" الحالي كان منذ البداية جزءا من الصراع الذي يشق أجنحة النظام و ليس مصدر سلطة معنوية تحتويها جميعا في لحظات تفجر الصراع مثلما كان الخميني. فاختيار خامنئي كان نتيجة ظروف متسرعة إثر قرار الخميني سحب دعمه لآية الله منتظري قبيل وفاته بسبب نقده لممارسات النظام. خامنئي لم يكن من بين أهم القيادات الدينية إذ رغم حيازته لقب "آية الله" إلا أنه لم يكن مرجعا دينيا متميزا له أتباع مثلا بالمستوى نفسه لمراجع إيرانية أخرى. و بشكل عام يتفق الدارسون للوضع الإيراني أن اختيار خامنئي كان مؤسسا على سيرته السياسية و حتى يمكن للقيادات الدينية أن تمارس عليه الضغط متى أرادت بناء على موقعها الديني المتميز.
ويتابع طارق الكحلاوي :"هذا الوضع أدى إلى أن شخص "المرشد" كان أقل أهمية من موقع "المرشد". و لم يكن ذلك سرا خاصة بين أعمدة النظام. و في هذا السياق لم يكن خطا أحمر مثلا أن يترشح رموز في النظام ضد المرشحين الذين يدعمهم بشكل واضح "المرشد". و هكذا فإن انتخاب خاتمي سنة 1997 كان في سياق صراع مكشوف ضد المرشح المعروف لـ"المرشد" لانتخابات الرئاسة آنذاك علي أكبر ناطق نوري و تحديا له خاصة أن ماكينة هائلة من داخل النظام عملت في اتجاه إنجاح خاتمي. و السيناريو نفسه تكرر في الانتخابات اللاحقة. فقد أصبح "المرشد" الممثل الرئيس لأحد تيارات النظام أي "المحافظين" خاصة بعد مساهمته المباشرة في تشكيل تنظيمات سياسية تابعة لهؤلاء. بل إن حتى سلطته في هذا الإطار غير مطلقة إذ هناك صراع شق "المحافظين" في السنوات الأخيرة كان محوره مجابهة تأثير "المرشد" و على سبيل المثال فإن تيار "المؤتلفة" المحافظ يأتي تحديدا في هذا السياق.
........
ولأن كشفت أزمة الانتخابات الإيرانية الأخيرة عن تصدّع كبير داخل كلّ من النظام السياسي و المؤسسة الدينية على حدّ سواء ، فإنها كشفت أيضا عن بوادر التململ الشعبي من نظام الثورة الذي لمسه مراقبون من خلال نزول الشباب إلى الشارع ورفع شعارات يندد بعضها بالثورة الإسلامية ورموزها وما خلفته من أوضاع متأزمة كما يقول الشباب الإيراني اليافع.
ولا يعتقد طارق الكحلاوي أن ما يجري الآن "هو صراع بين النظام و هامشه أو ضد فئات قررت إسقاط النظام. ويقول :"ما يجري هو من دون شك مشابه لما حدث بحلول أوساط الثمانينات في القرن الماضي في "المعسكر الاشتراكي" عندما انقسمت نظم سياسية على نفسها و ظهرت نخب ترغب في التغيير و الحفاظ على النظام في الوقت ذاته. لكن من الصعب أيضا أن لا يؤدي هذا الصراع آجلا أم عاجلا في إهتراء أو ربما تفكك النظام ذاته بمعزل عن نوايا الأطراف "الإصلاحية". و من دون الوقوع في مقارنات مبالغ فيها أعتقد أن هناك سيناريوهين لا ثالث لهما بالنسبة إلى مستقبل نظام "الجمهورية الإسلامية". الأول السيناريو "السوفياتي" و الثاني السيناريو الصيني. و عموما يتمثل السيناريو الأول في وجود قيادة "غلاسنوست" تعجز عن تحقيق برامجها لتسقط تحت الضغط الشعبي و لتصعد قيادة من أوساط النظام القائم و لتتحول في خضم تحولات سريعة إلى مواقف "راديكالية" تسعى وفقها لإنهاء النظام ذاته. كان هذا السيناريو ممكنا نظريا مع نهاية العهدين الرئاسيين لخاتمي و فشل تحقيق برامجه "الانفتاحية" لكن تم إجهاض هذا السيناريو عندما استطاع "المحافظون" ليس الالتفاف على سلطات خاتمي فقط بل تفعيل الآلية الانتخابية و الخطط الاقتصادية والاجتماعية في اتجاه تثبيت دورهم الرئيس في السلطة من خلال تغيير الأولويات و التأقلم مع الوضع الجديد. و في الواقع يميل الوضع الإيراني في السنوات العشر الأخيرة و حتى هذه اللحظة إلى السيناريو الصيني و الذي يتمثل في العمل على الحفاظ على السلطة "الاستبدادية" لنخبة سياسية من خلال تركيز شعاراتها و برامجها على محور "التنمية الاقتصادية". اللافت في هذا السياق أن النخبة "المحافظة" هي أكثر من استفاد من مرحلة الانتفاح الاقتصادي خلال حكم خاتمي إذ نجحوا في تحقيق تشابك للمصالح مع نخبة رجال الأعمال الصاعدة مقابل إمساكهم بملف الدور الاجتماعي للدولة و التركيز عليه في سياق تصوير خصومهم "الإصلاحيين" كمصدر أساسي لـ"الفساد" في البلاد. و عموما أصبح مصطلح "التنمية" و "القائمون بالتنمية" مصطلحا مركزيا في الخطاب السياسي لـ"المحافظين". و هذا يتيح استيعابا لشرائح اجتماعية مختلفة و ربما متناقضة أحيانا لكنها تقدر على ضمان قاعدة انتخابية قوية و فعالة.
و لهذا لا أعتقد أن النبرة التحليلية للتقارير التي سادت وسائل إعلام غربية في الأيام الأخيرة مصيبة عندما تعبر عن تفاجئها بنسبة التصويت الكبيرة لأحمدي نجاد. و من دون الدخول في تفاصيل موضوع سيبقى معقدا مثل موضوع تزوير الانتخابات الإيرانية فإلى حد الآن لم يشر "الإصلاحيون" إلى اختلالات في سير الانتخابات يمكن أن تؤثر بشكل حاسم في النتيجة النهائية. و هو ما ينطبق على اختلالات مثل نقص أوراق التصويت أو عدم تمديد توقيت التصويت بعد التمديد الذي حصل أصلا و هو في حدود الثلاث ساعات.
.........
من جهة أخرى تذهب معظم التحليلات على أنّ الأزمة الحالية التي تعيشها جمهورية إيران الإسلامية ستنعكس بشكل أو بآخر على مستقبل علاقات هذا البلد مع الكتلة الغربية وجيرانه العرب والسعي الإيرانيّ المحموم للظفر بدور إقليميّ بارز يُحسّن شروط التفاوض مع الولايات المتحدة وحلفائها في سياق عدد من الملفات المفتوحة على رأسها الملف النووي و دور إيران في العراق وملف سجلّ إيران السيئ في مجال الحريات وحقوق الإنسان.
ويلفت الدكتور طارق الكحلاوي النظر إلى ما سماه "الحذر الرسمي للإدارة الأميركية من الاصطفاف بشكل واضح مع "الإصلاحيين" و الاكتفاء بتعليقات حول "الشكوك" في النتائج. يتم تبرير ذلك أحيانا، حسب أحد تصريحات الرئيس أوباما مثلا، بأنه "لا فرق بين الطرفين". لكن الحقيقة أن هذا التوجه يندرج ضمن الفلسفة العامة للإدارة الجديدة و التي تملي عليها مرجعيتها "الواقعية" أخذ مسافة على الأقل رسمية من تطورات أي ساحة سياسية داخلية حتى إذا كانت "معادية" و خاصة إذا كان هناك رغبة في إجراء مفاوضات شاملة معها مثلما هو حال الرؤية الأميركية للعلاقة مع إيران. ردة الفعل الحذرة هذه بالتحديد تشير إلى الجدية الكبيرة التي توليها الإدارة الأميركية لموضوع العلاقة مع إيران. إذ هي حريصة على عدم التعويل على أي متغيرات ليست مؤكدة و يمكن أن تزيد من العراقيل في حالة إجراء مفاوضات مع طهران. و يأتي ذلك مختلفا بشكل واضح مع ما يمكن أن تقوم به إدارة بفلسفة مختلفة مثل الإدارة النيومحافظة السابقة. لكن من غير الوارد أن لا تحاول الولايات المتحدة التدخل بأشكال عملية لدعم طرف ضد آخر. و قد بعثت وزارة الخارجية إشارة في هذا الاتجاه عندما بعثت رسالة على شبكة "تويتر" تحث فيها على ضمان تواصل قدوم رسائل "تويتر" التي يبعثها "الاصطلاحيون" ومناصروهم من الداخل الإيراني في ظل التعتيم الإعلامي الداخلي. و لكن من الواضح أيضا أن الطرف الإيراني متيقظ لذلك و هو ما يفسّر الرسالة العلنية التي أرسلها إلى الإدارة الأميركية عبر القناة الدبلوماسية السويسرية ضد "التدخل في الشؤون الداخلية لإيران".
و عموما من الصعب أن لا تستفيد الإدارة الأميركية في أي مفاوضات قادمة من الوضع الراهن خاصة أن أحد الملفات الأساسية التي دار حولها الصراع في الانتخابات الإيرانية و لايزال هو موضوع "صورة إيران" في العالم و مدى إضرار الرئيس نجاد بالموقع الدولي لإيران. إذ بشكل عام ستفضل الإدارة الأميركية التفاوض مع "مرشد" يقع تحت ضغوط داخلية تخص طبيعة العلاقة مع الغرب على أن تفاوض "مرشدا" قويا يحظى بالإجماع.
///
إنتهي النقل عن تقرير إيلاف
في نفس السياق كتبت في مقالي الاسبوعي في "العرب" القطرية مركزا على موضوع سلطة المرشد
الرابط
طارق الكحلاوي
2009-06-21
أهم أسئلة الواقع السياسي المتأزم في إيران هو سؤال توازنات السلطة فيها، وبشكل خاص إلى أي مدى يملك «المرشد» علي خامنئي أوراق اللعبة السياسية ومن ورائه طبقة رجال الدين، إذ هناك توجه شائع يضعهم جميعا في سلة واحدة. لكن الوضع، كما هو دائما ولكن خاصة لأن الأمر يتعلق بوضع مثل الوضع الإيراني، أكثر تعقيدا من بعض التحليلات الشائعة.
تم تفصيل النظام الإيراني بإشراف مباشر من الإمام الخميني تحديدا لكي تتدخل النخبة الدينية خاصة في حالة وقوع أزمات مفصلية مثلما يمكن أن يحدث في سياق الوضع الراهن. لكن بالقدر الذي يعتمد هذا البناء على إيمان ضمني بتجانس رؤى هذه النخبة فإن الواقع لا يعكس بالضرورة ذلك. لا يمكن هنا أن نتوقف عند العموميات إذ الشبكة المؤسساتية التي يمارس عبرها رجال الدين الإيرانيون سلطتهم معقدة وليست بالتبسيط الذي يمكن أن يحيل على تجانسها وتشابهها في المطلق. بدءاً هناك نوعان من المؤسسات التي تقف في مفاصل رئيسية في السلطة والتي تم تشكيلها لتكون بدرجة أولى موقع ثقل حاسما للنخبة الدينية الإيرانية. هناك أولا المؤسسات غير المنتخبة من الشعب الإيراني بطريقة الاقتراع المباشر وهي ثلاث مؤسسات: أولا، مؤسسة «المرشد الأعلى» أو «الولي الفقيه» وهو المنصب الذي شغله آية الله الخميني ويشغله منذ وفاته سنة 1989 آية الله علي خامنئي. ثانيا «مجلس صيانة الدستور» برئاسة آية الله أحمد جنتي. وثالثا، مؤسسة «مجلس تشخيص مصلحة النظام» يرأسها هاشمي رفسنجاني والذي رغم أنه لا يتميز بموقع ديني متقدم فإنه تاريخيا وسياسيا محسوب على النخبة الدينية التي قادت الثورة. هذه المؤسسات غير المنتخبة متشابكة من حيث تركيبتها في حين يمكن لها أن تساهم بشكل حاسم في أي صراع على السلطة. فموقع «المرشد» تحتوي صلاحياته الإشراف على هيئات مالية وميزانيات حكومية خاصة بمؤسسات أمنية وعزل وتعيين أكبر المسؤولين في الدولة مثل قيادة القوات المسلحة والحرس الثوري ورئيس الإذاعة والتلفزيون ورئيس السلطة القضائية وأئمة المساجد، وحتى عزل هيئات منتخبة مثل رئيس الجمهورية ذاته. الهيئة التي تعين «المرشد» هي المؤسسة الاستشارية «مجلس تشخيص مصلحة النظام» والتي يعين معظم أعضائها «المرشد» ذاته. وهو الذي يعين معظم أعضاء «مجلس صيانة الدستور» وهو الهيئة التشريعية الأعلى في البلاد بما أن له حق الفيتو على مشاريع القوانين التي يصدرها البرلمان المنتخب (سبق له رفض حوالي نصف القوانين الصادرة عن البرلمان في العهدة الرئاسية الأولى لخاتمي). أي أنه مبدئياً هناك ثلاث مؤسسات يهيمن عليها رجال الدين تستمد شرعيتها بشكل متبادل وتمسك بالصلاحيات الأعلى للسلطة السياسية في البلاد وبالتالي قادرة دستوريا ونظريا حسم معظم الصراعات المؤسساتية في البلاد.
لكن من جهة أخرى هناك مؤسسة وحيدة رئيسية في السلطة خاصة برجال الدين تتشكل عبر الاقتراع المباشر وهي «مجلس خبراء القيادة» أو «مجلس الخبراء» وهي الهيئة الوحيدة التي يمكن أن يقرر فيها الشعب الإيراني شخوص رجال الدين الذين يمثلونه فيه (نظام انتخابي نسبي حسب عدد سكان كل محافظة). هذه مؤسسة حاسمة في صراعات السلطة بما أنها الوحيدة التي لديها صلاحية عزل «المرشد» ذاته. وبمعنى آخر فإن «مجلس الخبراء» هو الذي يمنح له الدستور الإيراني الصلاحية الأعلى في النظام السياسي. وبشكل عام فإن الصراع الذي يشق الساحة السياسية الإيرانية بين «محافظين» و «إصلاحيين» بمعزل عن دقة هذا التقسيم يشق أيضا الهيئات الأربع أعلاه. ورغم هيمنة المقربين من «المرشد» على «مجلس صيانة الدستور» و «مجلس تشخيص مصلحة النظام» إلا أن هناك رموزاً رئيسية في الصراع القائم الآن توجد في كليهما بما في ذلك -خاصة- هاشمي رفسنجاني الذي يساند بشكل علني ونشيط مير حسين موسوي. هذا إضافة إلى وجود عدد لا بأس به من المحسوبين على «الإصلاحيين» في «مجلس الخبراء» بما في ذلك رفسنجاني نفسه الذي يشغل خطة الرئيس في هذه المؤسسة. وهذا في ذاته يحيلنا على خاصية رئيسية للأزمة الراهنة وهي أنها ليست أزمة صراع بين النظام وهامشه بل هي أزمة صراع النظام مع ذاته والنخبة الدينية مع نفسها. ومن ثمة فإن تدخل رجال الدين لـ «حل الأزمة» هو من طبيعة وروح الدستور الإيراني غير أن ذلك لا يعني أنها ستتدخل بشكل منسجم. ولهذا بالتحديد فإن التدخل من أي طرف سيكون محسوبا في اتجاه عدم تعميق الأزمة وعدم تهديد وجود النظام ذاته خاصة أن الاحتجاجات الراهنة لا تستهدف حسب شعاراتها وشخوص قياداتها تقويض أسس «الجمهورية الإسلامية» بل تغيير بعض قواعد اللعبة ضمن أطرها التقليدية.
لكن النبرة التحليلية للتقارير التي سادت وسائل إعلام غربية في الأيام الأخيرة ليست مصيبة عندما تعبر عن تفاجُئِها بنسبة التصويت الكبيرة لأحمدي نجاد. وبدون الدخول في تفاصيل موضوع سيبقى معقدا مثل موضوع تزوير الانتخابات الإيرانية فإلى حد الآن لم يشر «الإصلاحيون» إلى اختلالات في سير الانتخابات يمكن أن تؤثر بشكل حاسم على النتيجة النهائية، وهو ما ينطبق على اختلالات مثل نقص أوراق التصويت أو عدم تمديد توقيت التصويت بعد التمديد الذي حصل أصلا وهو في حدود الثلاث ساعات. كما أن واحدا من الاستطلاعات غير المسيّسة النادرة والتي قام بها مركز استطلاعات أميركي (Terror Free Tomorrow) أشار قبل فترة قليلة من موعد الانتخاب إلى تفوق كبير لنجاد يصل حتى العشرين نقطة («الواشنطن بوست» 15 يونيو). هذا قبل المناظرات التلفزيونية والتي أشار الملاحظون إلى خروج نجاد منها بشكل أفضل من منافسيه خاصة بعد تركيزه على اتهامات «الفساد» لعرّاب التيار «الإصلاحي» الحالي أي رفسنجاني. ومثلما أشار بشكل صحيح فلينت ليفريت (Flynt Leverett)، الباحث في «مؤسسة أميركا الجديدة» (New America Foundation) المعروفة بتوجهها «الواقعي» والمقربة من الإدارة الحالية، فإن الحجج العامة التي تشير إلى «استحالة» خسارة موسوي ذي الأصل الأذري في محافظات أذرية تتجاهل الشعبية النسبية لنجاد في هذه المحافظات عندما كان يساهم في تسييرها كما أنها تتجاهل أن الداعم الرئيسي لنجاد أي «المرشد» هو أيضا من أصل أذري («بوليتيكو» 15 يونيو). ليفريت ذهب إلى حد التساؤل إذا كان «القائم بانقلاب» الآن هم الرافضون لنتائج الانتخابات وليس فريق «المحافظين». وهذه الخلفية «الواقعية» تحديداً وليس تقارير الشبكات الإخبارية الأميركية التي تمثل مصدر إلهام الإدارة الأميركية الراهنة والتي هي حذرة بشكل كبير حتى لا تصطف، بشكل علني على الأقل، إلى جانب «الإصلاحيين». ويبدو التقرير الذي أصدره ليفريت سنة 2006 عندما كان يعمل محللا في «الاستخبارات المركزية» والذي بقي في أرشيف «مجلس الأمن القومي» حول آفاق التفاوض مع إيران النص المثالي للإدارة الحالية وهو ما سنعود إليه في وقت لاحق.
لكن كل ذلك لا ينفي صدقية الاحتقان في بعض أوساط الشارع الإيراني وهي الأوساط التي خرجت في طهران والتي ليس من الصحيح بالمناسبة أنها تنتمي رئيسيا «لأوساط ثرية» كما يشير بعض المحللين المتعاطفين مع نجاد. إذ لا يمكن أن يوجد كل ذلك العدد من المئات المؤلفة من الإيرانيين في طهران من الأثرياء. وعموما من الصعب بالنسبة لأوساط «المحافظين» التأقلم مع هذا الضغط من أجل تغيير قواعد اللعبة السياسية من دون أن يذوبوا في نهاية الأمر الخصائص التي تشكل هويتهم. خاصة أن الوضع الاقتصادي الذي يشير إلى «بعض التحسن» (حسب التقديرات المستقبلية لـ «صندوق النقد الدولي» مثلاً) لا يشير في نهاية الأمر إلى نمو اقتصادي قياسي مثلما هو وضع «النموذج الصيني» الذي يرغب «المحافظون» في الاقتداء به. ومن الواضح أن التناقضات عميقة ولا يمكن أن تجاوزها عبر حلول توفيقية دائما.
بدت صورة الحضور في خطبة الجمعة الأخيرة خاصة غياب الرموز «الإصلاحية» عنها التعبير المركز على واقع قديم يتعلق بحدود سلطة «المرشد» ومن ورائه التيار «المحافظ» وتحوله إلى جزء من أطراف الصراع وليس موقع «الحكم» الذي افترضه الدستور. وذلك يعني أن قواعد اللعبة السياسية تغيرت أصلا والصراع الآن هو حول تقنين مستجداتها.