أحمد بن صالح (1)
هذا المقال الأول من سلسلة من المقالات تفاعلا مع لقاءات جمعتني و ستجمعني مع السيد أحمد بن صالح هذا الصيف
صدر في جريدة "العرب" القطرية 26 جويلية
http://www.alarab.com.qa/d
أحـمـد بـن صـالـح (1)
طارق الكحلاوي
2009-07-26
درجت في السنوات الأخيرة، عند قضاء العطلة في تونس، على أن أحاول الالتقاء بمن أعتبره "عميد السياسيين" و "عميد رموز الحركة الوطنية" التونسية، السيد أحمد بن صالح. شاءت الظروف منذ سنوات قليلة أن تشرفت، من موقعي المواطن و المؤرخ، بمجالسة هذه الشخصية غير العادية و الاستماع طيلة ساعات طوال إلى دفق ذاكرته الثاقبة و التي نادرا ما تنسى تفصيلا زمنيا رغم مرور عقود طويلة بتعرجاتها و تعقيداتها. الرجل الذي تجاوز سن الثمانين لايزال متقد الذهن بشكل مثير للاعجاب. في ظل التجاهل الذي عرفه طيلة عقود طويلة من قبل وسائل الاعلام الرسمية في بلده و إزاء الحملات الدعائية التي تركزت عليه بدون توقف حتى هذه اللحظة بدا لي أن ذاكرته المتقدة هي حصنه الأول و الأخير. هي أقوى و أفضل ما تبقى له، و هي تركته التي يهتم بتنظيمها و عرضها بنفسه. لم يبق الرجل منسيا تماما في بلده إذ اهتم به "مركز التميمي" المهتم بتجميع "الذاكرة الوطنية" و أجرى حوارات في بعض المجلات و الصحف غير الحكومية. غير أنك تشعر أنك بصدد "ثروة وطنية"، من حيث كم و نوع المعطيات التي يحملها، لكنها ثروة مهدورة خاصة إذا لم يقم مثلا أي تلفزيون عربي و بالخصوص "التلفزيون الوطني" التونسي بتسجيل هذه الذاكرة الاستثنائية. و لهذا السبب تحديدا ربما شعرت هذه المرة بالذنب عند مجالسته لعدم تحبيري في السابق لما يقوله الرجل.
هيبة بن صالح هي أول الانطباع الذي يمكن أن يحدثه على جليسه. لكنها هيبة المتواضع و ليس المتكبر. قصير القامة و يتحدث بدون تكلف و بكل حماس و لكن شعره الابيض الكثيف و سلاسة حديثه و السيجار الكوبي الذي يأخذ منه أحيانا قليلة بعض الأنفاس و طريقة جلوسه على الأريكة لساعات طوال بدون أي تغيير تفرض عليك إنجذابا مشهديا للرجل. و من الصعب تقديم تعريف كلاسيكي لبن صالح. طبعا يمكن عرض كل المعلومات المعروفة بشكل كرونولوجي حتى نفهم الموقع الهام الذي يقف فيه في تاريخ البلاد لكنه يبقى أكثر تعقيدا من أن نحكي سيرته من خلال جرد للأحداث.
يبدو لي أن تعريفه يتداخل مع تعريف الخطوط العامة للاتجاهات الحركية في تونس قبيل و ما بعد "الاستقلال". رغم حداثة سنه فرض بن صالح احتراما مبكرا في صفوف الحركة التحررية مما جعله يلعب أدوارا محورية مثل كونه حلقة الوصل بينها و بين ملك البلاد "المنصف باي" المنفي في باريس و قد تجاوز بالكاد العقد الثاني من عمره في النصف الثاني من أربعينات القرن. كان يتميز عن الكثيرين بأنه يضع ساقيه في المراكز القيادية للهيكلين الأكثر أهمية في تلك المرحلة أي "الحزب الحر الدستوري الجديد" و "الاتحاد العام التونسي للشغل"، أي الذراعين الأكثر طولا و نفوذا، الذراعين السياسية و الاجتماعية للحركة الوطنية التونسية. على عكس رموز أخرى بما في ذلك الحبيب بورقيبة و صالح بن يوسف التي تميزت بصفاتها السياسية و فرحات حشاد و أحمد التليلي و الحبيب عاشور التي تميزت بصفاتها النقابية، يبرز بن صالح بتلازم الصفتين. و رغم ذلك من غير الصعب أن يلحظ المرء كم يحز في نفسه نسيانه ليس فقط من السجل السياسي للحزب بل ربما الأهم من السجل الاحتفالي للحركة النقابية، إذ أن صورته هي الوحيدة التي لا تعلق في مقرات "اتحاد الشغل" إلي جانب بقية صور زعمائه التاريخيين.
كان ذلك محور بداية حديثه هذه المرة. إذ تزامن لقاؤنا مع نشر الصحيفة الرئيسية الممثلة للمنظمة النقابية التونسية لمقالات لعميد المحامين السابق و أحد المقربين من القيادي النقابي التاريخي الحبيب عاشور تركزت حول ما عرف بـ"أزمة سنة 1965" و التي انتهت بإقصاء عاشور من قيادة "اتحاد الشغل". بدا بن صالح مستعجبا من المعطيات التي أوردها كاتب المقال و التي تركزت حول عداء بن صالح لعاشور و عمله على الاطاحة به و الاهم بـ"استقلالية" الحركة النقابية إثر "مؤتمر بنزرت" للحزب الحاكم و الذي انتهى بتغيير أسم الحزب إلى "الحزب الاشتراكي الدستوري" و صعود بن صالح إلى "الديوان السياسي". رجع بي بن صالح إلى العلاقة الخاصة و المميزة التي جمعته بعاشور. ذكر مثلا لقاءه الحميمي به في المنفى الأوروبي قبيل الاستقلال عندما أشار عاشور إلى وصية مؤسس "اتحاد الشغل" و شهيد الحركة النقابية فرحات حشاد الذي قال لعاشور : "حافظوا على بن صالح". تذكر بن صالح أيضا لقاءه مع عاشور قبيل إنتهاء "هجرته الثانية" من البلاد (قبل 1988) عندما كان الرجلان يتقاسمان الاقصاء من قبل الرئيس الراحل بورقيبة في أوروبا و حين أكد عاشور لبن صالح عدم وجود خلافات بينهما. تذكر بن صالح أيضا مرحلة الستينات و ما سبق "أزمة سنة 1965" عندما كان يزوره عاشور في مقرات الوزارات الكثيرة التي كان يشغلها مرتين في الشهر للقاء و طلب المساعدة في مشاغل تخص المنظمة النقابية.
لكن الملف الأهم بدا تحديدا موضوع "استقلالية" الاتحاد عن سلطة ما بعد الاستقلال. يرفض بن صالح اتهامه بأنه كان يقود العمل على "تصفية" المنظمة النقابية كمنظمة مستقلة و دمجها بالسلطة. أشار بالتحديد إلى السياق العام و الذي كان فيه "إجماع" سياسي و نقابي على إعادة تعريف العلاقة بين المنظمتين السياسية و النقابية للحركة التحريرية. ذكر بشكل خاص بنقطتين: أولهما انتماء غالبية كبيرة من مؤسسي و اعضاء "اتحاد الشغل" إلى "حزب الدستور" و عضوية عاشور و التليلي في قيادة الحزب، و ثانيهما إقرار أعضاء قيادة الحزب بأن غياب برنامج اقتصادي و اجتماعي للحزب مقابل حيازة "اتحاد الشغل" على برنامج مماثل يجعل تمتين العلاقة بين المنظمتين مسألة محورية. كانت تداول هذه الأفكار سابقا عن الاستقلال ذاته. اشار بن صالح مثلا إلى موافقة و حماس رموز سياسية، اصبحت معادية له لاحقا، مثل عبد الله فرحات على هذا التوجه. أشار أيضا إلى موافقة كل قيادة الاتحاد بما في ذلك رموز بحجم عاشور و التليلي على هذه العلاقة و خاصة على جعل رؤى "اتحاد الشغل" المنبثقة على دراسات شارك في إعدادها بن صالح هي رؤى و برامج "الحزب". أشار بن صالح كذلك إلى التوافق الكبير بينه و بين صالح بن يوسف حول هذا الموضوع منذ ما قبل الاستقلال بما في ذلك في أحد اللقاءات في ستوكهولم حيث تم التركيز على العلاقة الوطيدة و المتداخلة في نماذج أحزاب اشتراكية ديمقراطية صاعدة آنذاك في أوروبا بين الحزب و النقابة.
بشكل عام ما يبدو أنه نقطة تتسحق الانتباه أن "استقلالية" المنظمة النقابية كانت ضعيفة خاصة بعد "مؤتمر صفاقس" الذي أنقذ التيار البورقيبي من خسارة قواعده الحزبية إزاء الصراع مع التيار اليوسفي. لكن مثلما يقول بن صالح كان القبول بالبرامج الاقتصادية و الاجتماعية و لـ"اتحاد الشغل" في اطار "تكاتيك" (تكتيكات) لحسم الصراع البورقيبي اليوسفي قبل أن يبدي بورقيبة رفضه في وقت لاحق لهذه الرؤية. الاندماج في الحزب، و الذي كان يرمز إليه إنتماء عاشور نفسه لـ"الديوان السياسي" للحزب بما في ذلك إثر "مؤتمر بنزرت" يحيل على صراع أكثر تعقيد و لا يتعلق بصراع بين "مستقلين" و "موالين" للحزب.