أحمد بن صالح 6
http://www.alarab.com.qa/d
أحمد بن صالح (6)
طارق الكحلاوي
2009-08-30
رغم تاريخه النقابي الوجيز ولكن البارز في تمثيل «اتحاد الشغل» دوليا وشغل موقع «الكتابة العامة» في ظرفية حساسة أي الانتقال من وضع الاحتلال إلى وضع دولة الاستقلال، رغم ذلك تبقى صورة بن صالح في ذاكرة التونسيين هي صورة رجل الدولة. إذ فيها برز وصنع تاريخه السياسي الأبرز. لكن من الصعب الفصل بين دوره النقابي ودوره السياسي. فحتى من خلال موقعه النقابي في منظمة مثل «اتحاد الشغل»، كانت جزءاً لا يتجزأ من طيف الحركة الوطنية، وعلاقتها الوثيقة بالحزب الرئيسي في هذه الحركة يصعب تمثل دور بن صالح النقابي بعيدا عن دور السياسي. وهذا مجرد مثال صغير على الإشكالية العامة الخاصة بـ «استقلالية» الاتحاد عن الحزب.
يذكر بن صالح حادثة أساسية بمعزل عن مدى دقتها تشير إلى الانتقال من دور النقابي إلى دور السياسي أو رجل الدولة، ولكن بما يعكس ثقل دوره النقابي في اقتلاعه لدوره السياسي الجديد. وتعكس أيضا تخوف بورقيبة من الثقل السياسي للمنظمة النقابية ومحاولاته احتواء قياداتها. ينقل بن صالح أنه مباشرة غداة الاستقلال في 20 مارس 1956 وبوصفه «النائب الأول لرئيس المجلس التأسيسي» أي البرلمان الوليد اقترح بشكل «غير رسمي» تجنب تنصيب زعيم الحركة الوطنية، الحبيب بورقيبة، على رأس الحكومة حتى يبقى في وضع الحكم الذي يساهم في المجهود الدولي للدولة الناشئة ولا يغرق كثيرا في تفاصيل وصراعات الوضع الداخلي. في الغد دعا الباهي الأدغم، «الكاتب العام» الجديد للحزب خلفا لصالح بن يوسف والذي كان الأخير لا يكنّ له حسب بن صالح الكثير من الاحترام خاصة عندما رافقه في المفاوضات مع فرنسا، إلى اجتماع حضره بعض قيادات «الاتحاد» وبقية «المنظمات القومية» مع قيادات للحزب طرح فيه الأدغم موضوع مستقبل بورقيبة السياسي مع التركيز على ضرورة منحه موقع رئيس الحكومة المقبل. يذكر بن صالح في هذا السياق اندلاع جدال بينه وبين الباهي الادغم خاصة عندما أشار الأخير إلى تجربة الهند وتقلد نهرو منصب رئاسة الحكومة، حينها رد بن صالح: «نهرو مش غاندي» (نهرو ليس غاندي).
يواصل بن صالح روايته لهذه الحادثة حيث يشير إلى دعوة بورقيبة إلى اجتماع «الديوان السياسي الموسع» للحزب في منزله من الغد والذي دعي إليه إضافة إلى أعضاء «الديوان السياسي» ممثلو «المنظمات القومية» بما في ذلك أحمد بن صالح. عند دخول الأخير نادى بورقيبة: «هاو سي أحمد جا.. إيه إيجي اقعد بحذاية» («هاهو السيد أحمد جاء.. تفضل اجلس بجانبي») أمام أنظار قيادات «الديوان السياسي» القديمة و «الأكبر سنا» مثلما يشير بن صالح بما يعنيه ذلك من إحراج. واصل بورقيبة حسب بن صالح الكلام في الاجتماع: «يقولولي أنا متاع حكومة ولبسة وهدرة.. لكن إذا لزموني تحصل معناها إيش بيه» («يقولون لي أني أصلح لمنصب رئيس الحكومة لكن لا أرتاح لكل هذه البروتوكولات من لباس وغيره... ولكن إذا لزم الأمر لم لا»). ثم ينهي بورقيبة حديثه بالفرنسية: «بورقيبة من جهة وبن صالح من جهة أخرى سيكون الأمر جيدا للغاية» («Bourguiba d’un cote et Ben Saleh de l’autre ca va etre formidable»). بن صالح يقول إنه أصابته الدهشة من هذه الحظوة الخاصة والتجأ للبحث عن «تفسير» إلى أحد القيادات التاريخية لـ «اتحاد الشغل» محمد الري الذي كان كاتبا عاما لعمال نقابة «عمال الرصيف» والذي يصفه بن صالح بأنه كان في مقام «والده». محمد الري علق بكلمتين حسب بن صالح: «كلام يوغر الصدور».
يواصل بن صالح روايته لهذه المرحلة الانتقالية الحساسة فيشير إلى أنه إثر حوالي 48 ساعة من اجتماع «الديوان السياسي الموسع» تلقى مكالمة هاتفية تخبره بقدوم سيارة الأمين باي، والذي كان حتى ذلك الوقت وقبل إعلان الجمهورية وتنحيته أعلى سلطة في البلاد، إلى «المجلس التأسيسي» ليستقلها بوصفه «النائب الأول» للمجلس ويرافق فيها حسب البروتوكول المرشح لموقع رئيس الحكومة ليقدم أوراق اعتماده إلى الباي. البروتوكول يقضي بأن الراكب على اليمين في سيارة الباي هو أكثر رفعة وكان على بن صالح أن يجلس على اليمين في السيارة لأن بورقيبة موجود فيها كمرشح فحسب ولم يتقلد موقع رئيس الحكومة بعد. يذكر بن صالح أن المدة القصيرة التي تمت فيها رحلة السيارة من «المجلس التأسيسي» إلى قصر الباي كانت صعبة إذ خلالها، وخلالها فقط طيلة حياة الرجلين، كان بن صالح بروتوكوليا في موقع أرفع من بورقيبة. وهنا يشير بن صالح أن بورقيبة لم يكن مرتاحا بتاتا إلى هذه الوضعية المؤقتة والشكلية. عند الوصول إلى القصر تقدم بن صالح بورقيبة واستقبلهما الباي بعيدا عن عرشه بما يعكس حفاوته الشكلية بالقادمين، وينقل بن صالح هنا أنهما في طريقهما إلى الجلسة الرسمية التفت الأمين باي إلى بورقيبة وطلب منه مشيرا إلى بن صالح «لازم تحطوا معاك في القصعة» («يجب أن تضعوه معكم في مركز السلطة أي الحكومة»).
لكن أفعال بورقيبة حينها خاصة إثر تشكيله حكومته الأولى في 29 يوليو سنة 1957 لا تشير إلى منح بن صالح موقعا تنفيذيا كبيرا، إذ عيّنه في موقع «كاتب الدولة للصحة» («وزير الصحة»). ولكن من الواضح أن المجموعة التي كانت مقربة من بن صالح خاصة بعض أعضاء الفريق الذي ذكر أنه شكله لإعداد «التقرير الاقتصادي والاجتماعي» عندما كان زعيما للمنظمة النقابية أخذوا أيضا مواقع متقدمة في هذه الحكومة مثل عز الدين العباسي («كاتب الدولة للصناعة والتجارة»)، ومصطفى الفيلالي («كاتب الدولة للفلاحة»). وإذ نظرنا بشكل رجعي فإن في هذه الحكومة مؤشرا أوليا على ميل بورقيبة إلى منح الملف الاقتصادي والاجتماعي للقيادات القادمة من «اتحاد الشغل» خاصة بناءً على دورهم المفترض في إعداد أول برنامج اقتصادي واجتماعي لتونس ما بعد الاستقلال.
ويشير بن صالح في سياق حديثه إلى نوع من الاتفاق غير واضح المعالم بتسليم الملف الاقتصادي والاجتماعي إلى قيادات من الاتحاد من خلال منحهم مواقع متقدمة في الحكومة. كما يشير إلى أنه رفض تقلد أي منصب حكومي إلا بعد وضع شروطه. يشير مثلاً في وقت لاحق عن «مفاوضات لمدة ساعة من الزمن» خاضها مع بورقيبة لتقلد منصب «وزير المالية» على أساس قبول «الديوان السياسي» ببرنامج مبني على «التقرير الاقتصادي والاجتماعي».
بن صالح يركز هنا على موضوع الداعي لتركيزه على الملف الاقتصادي والاجتماعي عوض التركيز على ملفات أخرى بما فيها السياسي وموضوع المشاركة السياسية والديمقراطية. يشير إلى زياراته إلى الجنوب الغربي التونسي منذ كان قيادياً في «اتحاد الشغل»، وهو الأمر الذي تأكدت منه من مصادر نقابية أخرى من هذه الجهة، ومشاهد الفقر المدقع فيها خاصة الصور المؤلمة لوجوه الأطفال «لاصقة بالذبان» («ملآنة بالذباب»). ينتقد هنا «النخبة الإفرنجية» (ويعني هنا تحديدا المتفرنسة) التي كانت تركز على الديمقراطية حينها في وضع يفتقد أساسيات الحاجات الاقتصادية والاجتماعية في دولة ما بعد الاستقلال. بن صالح الذي بدا كأنه يرد على الانتقادات التي اعتبرته داعما لـ «الدكتاتورية البورقيبية» يؤكد على ضرورة التفريق بين مطلب «الحريات» ومطلب «الديمقراطية» في ظل الوضع الهش لما بعد الاحتلال. طبعا هذا الموقف المثير للجدال يصعب تبريره لكني أفهم جيدا الانتقادات التي يوجهها بن صالح إلى نخبة «فرنكفولية» (Francophile) وليس فرنكفونية فحسب (وذلك أمر لا يستحق الاستهجان) في دولة ما بعد الاستقلال تستنسخ فهمها وحلولها للواقع التونسي بمنظار فرنسي غير قادر حتى على الانفتاح على تجارب غربية أخرى، ولا يزال بعضها للأسف في موقع بارز حتى الآن.
في جميع الأحوال سيتقلد بن صالح بشكل تدريجي عددا قياسيا من الوزارات، وسيصبح بحلول أواسط الستينيات الوزير الأكثر أهمية في البلاد والرجل الثاني فيها بدون منازع. وهنا تبدأ روايته للمرحلة الأكثر جدالا وبروزا في حياته السياسية، «تجربة التعاضد».