المسيرة الكبرى
في بداية شهر أكتوبر من كل عام منذ سنة 1934 يحتفل الصينيون بواحد من أعظم الاحداث في تاريخهم القومي، و أيضا في تاريخ الانسانية: المسيرة الكبرى
في ذلك التاريخ بدأت وحدات من "الجيش الأحمر" (الذراع العسكرية للحزب الشيوعي الصيني) مجموعة من التحركات للتراجع من المناطق "المحررة" و المحاصرة من قبل الجيش الصيني (جيش تشيانغ كاي تشاك) في المناطق الجبلية جنوب شرقي الصين
تلك التحركات التي بدأت بشكل قسري و غير منظم ستتحول إلى عملية تراجع و مسيرة طويلة لمجمل ما تبقى من الجيش الأحمر.. مسيرة ستتواصل لعام كامل (انتهت في اكتوبر سنة 1935) و تمتد من الجنوب إلى الشمال (أكثر من 12 ألف كم) مخترقة معظم مناطق و مناخات الصين و عير جميع الحواجز الطبيعية الممكنة و هو ما كلف الصينيين حوالي 100 ألف جندي من الجيش الأحمر
الأرقام وحدها كفيلة للدلالة على عظمة الحدث.. غير أن أبعاده السياسية و العسكرية هي جوهر دلالته التاريخية.. إذ أن أهم نتائج المسيرة الكبرى كانت ليس فقط الحفاظ على نواة صلبة للجيش الاحمر و الحزب الشيوعي الصيني بل أيضا تحويل موازين القوى إلى مصلحتهم.. و في خضم كل ذلك برز (من سيسمى بشكل مستمر منذ ذلك الوقت) "الزعيم ماو" كأهم المخططين العسكريين للحزب و على رأس آلته الايديولوجية و السياسية
حدث المسيرة الكبرى يمثل بالنسبة لي حدثا نوستالجيا.. إذ رافقتني القصص الكرتونية المصورة التي روت جوانب مختلفة من المسيرة الكبرى مرحلة هامة من طفولتي.. و مع كل المراجعات التي مررت بها و الجروح اليديولوجية التي خلفتها لازلت أرى (مثلما يرى غالب المؤرخين لهذه الفترة) المسيرة الكبرى كحدث إنساني فريد من نوعه
رمزية الحدث هائلة... و شديدة الكثافة... و كذكلك دروسه... تحيل على معادلة أاساسية و هي القدرة الخلاقة على صناعة التاريخ من فتات من العوامل المساعدة.. لكن طبعا نجاح المسيرة و من بعدها الثورة الصينية لم يكن ليتحقق أيضا لولا العوامل الهيكلية المتعالية على الذكاء الخارق لماو و الاصرار الهائل لجنود الجيش الاحمر
ملاحظتين أخيرتين: أولا أسمع الآن من بعض المتحذلقين أن الصين تصارع و تجد من أجل مكان في العالم ببناء قوتها الاقتصادية و ليس بالحروب و الصراع العسكري.. و معادلات الابيض و الاسود التبسيطية هذه تثير حنقي... إذ لا يمكن أن نتخيل أي قدرة صينية على البناء الاقتصادي الراهن (بمعزل عن تقييمنا لهذا البناء الاقتصادي و هوية المستفيدين منه) من دون التاريخ السياسي و العسكري الصيني الذي وفر ما يكفي من استقللية الارادة السياسية حتى يمكن للصينيين أن يقرروا أي اقتصاد يريدون
ثانيا عندما قابل وفد من منظمة التحرير الفلسطينية أواخر الستينات ماو تسي تونغ و طلبوا منه النصح في كيفية تسيير "الثورة الفلسطينية" الناشئة قال لهم أنه هو شخصيا استلهم خططه العسكرية "من تاريخكم".. و اشار بشكل محدد إلى "الهجرة النبوية" من مكة إلى المدينة كنموذج استوحى منه خطة التراجع من أجل التقدم التي كانت جوهر خطته العسكرية طوال المسيرة الكبرى و التي أصبحت استراتيجية عسكرية ثابتة في خطط الجيش الاحمر الصيني حتى الوصول إلى السلطة
الشريط أعلاه جزء أول من ستة أجزاء تم بثها على قناة "هيستوري شانال" الامريكية.. بقية الحلقات هنا
http://www.youtube.com/wat