في الحساسيات المغاربية - المصرية: محاولة للفهم بمناسبة المواجهة الكروية (2-2
http://www.alarab.com.qa/d
في الحساسيات المغاربية - المصرية: محاولة للفهم بمناسبة المواجهة الكروية (2-2)
طارق الكحلاوي
2009-11-29
أصبح الصراع المصري الجزائري مسألة شخصية في الأسابيع الأخيرة. طرح علي أحد الجزائريين "تحدياً" يتمثل في احتمال "إقناع أي مصري باتباع الحق وليس العصبية". بدا لي ذلك أمراً مغلوطاً. ليس من جهة التعميم التبسيطي فحسب أو الطهرانية الضمنية لكل ما هو جزائري. كان الخلل الأساسي هو التقسيم التبسيطي بين ما هو "مصري" وما هو "جزائري". اسم عائلتي "الكحلاوي" فحسب كافٍ لخلخلة هذا التقسيم التبسيطي، حيث للعائلة فروع مغاربية من تونس إلى المغرب مروراً طبعاً بالجزائر، وعائلة "الكحلاوي" المصرية أيضاً لا تحتاج التعريف، وهذا ليس أمراً استثنائياً إذ هي كثيرة العائلات والعشائر التي تتقاسم هذه "الأوطان" الملتبسة بخصائص "ما فوق قُطرية" تتركز في المفهوم الثقافي (وليس العرقي بكل تأكيد) المتمثل في الهوية العربية. إزاء هذه الانسيابية المتيسرة عبر التاريخ والجغرافيا تصبح هذه الهويات الجوهرانية ("مصري"، "جزائري"، "تونسي"...) الممتدة افتراضاً آلاف السنين تصورات وليست هويات مصفاة. كيف يمكن لـ"مصري" من قبائل بني سليم أن يكون أقرب للحضارة الفرعونية مثلاً من أمازيغي من شمال إفريقيا، يشترك مع الأخيرة في الأصل "الحاميّ" اللغوي؟ هل يكفي التواجد على أرض مصر أو الجزائر حتى نتحدث عن "أصل" و"انتساب" يخترق التاريخ بعيداً عن الثقافة؟ ثم هل من الصعب أن لا نرى البعد المسيّس خلف سرد الهوية هذا والذي من الصعب ألا نراه كأحد أركان الزاوية لـ"الدولة-الأمة" ("الأمة" بمعناها القُطري) المولودة إثر الكولونيالية؟ ومن ثم ركن الزاوية في الدولة التسلطية المؤسسة على فوضى المؤسسات؟
قبل وفاته حاجج الرئيس الراحل السادات في خطاب شهير أمام مجلس الشعب المصري إثر القطيعة مع النظام العربي الرسمي بأن "هؤلاء (بقية العرب) ينسبوننا (أي مصر) إليهم.. لكن لا! هم ينتسبون إلى مصر"، ليواصل السادات بنبرته المميزة والملأى بدراما مصطنعة وسط تصفيق حار من النواب الذين وصلوا إلى هناك عبر انتخابات "نزيهة" تماماً: "ألم تكن هاجر أم سيدنا إسماعيل أبي العرب مصرية؟". لم يكن الرئيس المصري الراحل وحده من يستسهل، عبر "حجج" مفحِمة وخارقة من هذا النوع، صناعةَ وتركيب وإعادة تركيب "الهوية الوطنية" في المرحلة ما بعد الكولونيالية مصرياً أو عربياً. كانت تلك ممارسة منتظمة ومؤسساتية. لكن من غير الممكن تجاهل عمق وتأثير هذا التصور. كنت حاججت في مقال بالإنجليزية (The Politics of Soccer: The Algerian-Egyptian Confrontation) قبل مباراة الخرطوم بأنه إلى جانب الظرف السياسي الراهن (وضع ما قبل التوريث) والشحن الإعلامي والتنافس الرياضي التقليدي فإن الأزمة الراهنة كشفت أمراً أساسياً يمس شعور قطاعات غير هيّنة من الجمهور من الجانبين. وأعتقد أن ما حدث بعد مقابلة الخرطوم يؤكد ذلك ولا ينفيه. ما أقترحه هو أن ننظر بجدية أكثر إلى تأثير عشرات السنين من "الإيديولوجيا الوطنية" (بمعناها القُطري) على مخيلات وتصورات شعوب المنطقة كأحد الأسباب التي يمكن أن نفهم منها الأزمة الراهنة، وهذا يعني ضرورة التخلص من الخطاب الخشبي الذي يمكن أن يبدر من قبل بعض الفصائل العروبية والذي يستسهل نفي تأثير ودور الخطاب "الوطني" بما هو في تنافس مع "القومي" وليس مكملاً له ضرورة.
إحدى أشهر الجمل "الوطنية" المصرية هي مقولة مصطفى كامل: "إذا لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً". طفت هذه الجملة، وليس ذلك مجرد مصادفة، في الأسابيع الأخيرة في المنابر المصرية. وهنا نحن إزاء وضع معقد، إذ كان التصريح بكل إمكانات التعصب والنرجسية المضمنة فيه تصريحاً ضرورياً ومصرُ تحت استعمارٍ يشكّك المصريين في حيازتهم على هوية مستقلة تقوّض الأساس التاريخي والثقافي للوجود الأجنبي البريطاني. وهو نفس الشعور "الوطني" المؤسس على رد الفعل المستهدِف لرفع الثقة أو استرجاعها الذي ميز كل نماذج الخطاب "الوطني" زمنَ الاحتلال على المدى العربي. وربما من المهم بالنسبة للكثير من المصريين أن يعرفوا أن تعريف مصر من خلال "ماضٍ فرعوني" تم تحديداً برعاية فرنسية وليس قبل بداية القرن العشرين في سياق ترسيخ الثقة بماضٍ "عظيم". لكن خطاب "الأمة المصرية"، و"الأمة الجزائرية"، و"الأمة التونسية"، في ظل ظروف قهرية من ذلك النوع هو غير نفس الخطاب في ظروف "الدولة الوطنية"، إذ مع الأخيرة يصبح إعادة إنتاج تصريح مصطفى كامل نوعاً من التغطية على مسيرة معقدة من النجاحات والإخفاقات ومن حالة نرى فيها قطاعات مهمة من الشباب العربي ترغب في الهجرة حتى في أحلك الظروف والانتساب إلى مجموعات سكانية وثقافية أخرى غير عربية. غير أنه سيكون من التضليل أن ندّعي أن "الإيديولوجيا الوطنية" بدأت تحديداً منذ عهد الاستقلالات، إذ يمكن أن نرى لها جذوراً حتى في عمق المرحلة الكلاسيكية العربية الإسلامية. يمكن استحضار أمثلة عديدة لكن سأقتصر عند إصرار بن خلدون "المغاربي" (ثقافة وجغرافيا وانتسابا) على التمسك بلباسه وخطه "المغربيين" وهو ما كان أحد مصادر تذمر نخبة القاهرة الدينية والحساسيات الناشئة بينهما. وعموماً لا يمكن لأحد أن يدّعي أن جغرافيات "الدولة الوطنية" في شمال إفريقيا (من مصر إلى المغرب) هي تعبير عن جغراسياسية مصطنعة من ألفها إلى يائها منذ الفترة الاستعمارية. وهذا ما يحتاج وحده تفصيلاً خاصة إزاء خطاب قومي مشرقي لا يدرك خصوصيات الجناح المغاربي-المصري ويسقط عليه المقولة التبسيطية "التجزئة صنيعة الاستعمار".
ملخص الأمر أن "الدولة الوطنية" شوهت "الهوية الوطنية" وسوغتها لخطابها التسلطي الذي يحشر جموع الرعايا خلف الحاكم لكنها لم تختلقها من فراغ. وفي الأسابيع الأخيرة بسبب القصور الإعلامي الجزائري واتساع المنظومة الإعلامية المصرية كان على الجمهور العربي المخترق لحدود "الدولة الوطنية" عبر الساتلايت الاطلاع على المباشر وبشكل مكثف على النسخة الأكثر قبحا وتعصبا للتسويق التسلطي للخطاب "الوطني" في الحالة المصرية. وبعد أسبوع من الردح الإعلامي الذي تجاوز كل الخطوط الأخلاقية الممكنة وتبعاً لأي معيار ممكن يمكن لنا أن نستنتج ما يلي:
أولاً، بدا من الواضح أنه بقدر ما هناك "عظمة" إعلامية مصرية من حيث الكم في أقل الأحوال فإن "الدولة الوطنية" المصرية وبالتحديد النظام التسلطي الذي قاد بشكل مباشر الحملة الإعلامية التعصبية (عبر رموزه أحيانا مثل الوريث المحتمل جمال مبارك و"شباب الحزب الوطني") غير قادر على ترجمة أي من تهديداته بـ"القصاص". ليس لضعف الحجج المصرية والتي لم يقدم عليها باعتراف صحف مصرية مستقلة ونزيهة أي دليل "مرئي" (فيديو أو غيره) برغم اتساع الآلة الإعلامية المصرية، بل بسبب محدودية وسائل النظام التسلطي والذي يبدو أنه في بعض لحظات الردح الإعلامي صدّق نفسه أكثر من اللازم. وكان على رؤساء الفضائيات المصرية الخاصة أن يقوموا آخر الأسبوع بالأمر الوحيد المتبقي لفضائياتهم أن تقوم به، تحميل مسؤولية الانحدار لمقدمي البرامج الإعلامية المصرية واتهامهم بالمبالغة.
ثانياً، بعيداً عن الخطاب الإعلامي السائد في الجانبين شاهدنا في الفضاء الإعلامي المصري والفضاء الافتراضي عموماً أصواتاً أكثر استقلالية. هناك عشرات المجموعات في شبكة "فيس بوك" اشترك فيها آلاف الجزائريين والمصريين تحت عناوين "المصالحة". كانت مناسبة العيد فرصة أخرى للمعايدة التي يقال إنها تمت على الهواتف بين مواطنين مصريين وآخرين جزائريين. وهذا دلالة في ذات الوقت على نبض شعبي مستقل عن الخطاب السلطوي وعلى استمرار الشعور بالهوية "ما فوق القُطرية" رغم قوة "الإيديولوجيا الوطنية".
ثالثاً: رغم استمرار النبض "ما فوق القُطري" والعربي أساساً فإنه من غير الممكن أن لا نرى في هذه الأزمة أولاً وأخيراً تعبيراً عن إخفاق "الدولة الوطنية". إخفاق في طموحاتها وفي نوع المعارك التي تنحشر فيها وتحشر فيها خلفها جموع الرعايا. وإخفاق في تركيبتها بما هي تركيبة غير مستقرة وغير مرتاحة شكلاً ومضموناً. تبدو عصبيتها كاريكاتورية على الرغم من واقعيتها. كاريكاتورية لأنها تصرفت مع "معركة المونديال" بجدية تضاهي التصرف مع معارك التنمية والتحرير ورفع الأمية. وتساوت في ذلك نخب الأنظمة التسلطية وجموع الرعايا "المقهورين" و"الفنانين" و"المثقفين" و"المحامين". ولم يعد من المبالغة بعد ما شاهدناه ورأيناه وضع كل هذه الفئات بين ظفرين. إذ أصبح المشهد تقريباً سوريالياً ويحتاج إلى إثبات.