المصدر: موقع إسلام أون لاين (الدوحة – القاهرة) بتاريخ 18 جانفي 2010
http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1262372432384&pagename=Zone-Arabic-News/NWALayoutالكحلاوي: مصير إدارة أوباما أشبه بمصير إدارة كارتر
حوار - هادي يحمد
اعتبر الخبير الإستراتيجي الدكتور طارق الكحلاوي، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة روتجرز الأمريكية، في حوار خاص مع شبكة إسلام أون لاين. نت، أن العام الأول لتولي بارك أوباما رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن موفقا تماما في الملفات الثلاثة الخارجية الكبرى للولايات المتحدة، وهي الملف الأفغاني، والعراقي، والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
وأكد الكحلاوي أن الوعود الانتخابية التي أطلقها أوباما قبل وصوله إلى البيت الأبيض اصطدمت بتعقيدات الواقع، وبتركة الرئيس السابق، وبسياسات الولايات الأمريكية المتعاقبة؛ حيث بدا أن أقصى طموحات إدارة أوباما في العام الأول أن تركز على تثبيت الوضع القائم في بعض الملفات مثل الوضع في العراق ومواجهة إيران وحل الصراع في الشرق الأوسط، بينما بدا الملف الأفغاني الذي وعد أوباما بتغيير كبير فيه من أكثر الملفات التي لم تحقق فيها الإدارة، سياسيا وعسكريا، أي اختراق يذكر حتى الآن.
وفي تفسير ذلك يرى الكحلاوي أنه في مختلف ملفات الخارج التي تمثل أولوية لإدارة أوباما، كان هناك تكرار لنفس المعضلة، وهي رغبة الإدارة في إمساك العصا من المنتصف، الأمر الذي عكس ترددها في حسم ملفات خارجية ترى أنه يمكن تأجيلها مع احتمال تعثر معالجة الملفات الداخلية.
ورأى الكحلاوي أنه بمضي الوقت سوف تعمد إدارة أوباما إلى اتباع نهج إدارة كلينتون الذي أجل ملف الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي إلى نهاية عهدته الرئاسية، كما أن الوضع العراقي لم يتغير كثيرا، ومن الأرجح أنه سيتفاقم لاحقا، رغم بعض الإنجازات المحدودة التي تعود أصلا للإدارة السابقة، بينما الملف الأفغاني - الباكستاني سيبقى على ذات العقدة المستعصية، أما إيران فإنها ربما تحدد مستقبلا مصير الإدارة الحالية وبقاء أوباما والديمقراطيين في سدة الحكم من عدمه.
وبالنظر إلى تزايد فرص فشل أوباما في معالجة كافة هذه الملفات، يلفت الكحلاوي النظر إلى ما نبه إليه بعض المراقبين الأمريكيين من أن الإدارة الأمريكية تواجه مصيرا أقرب لإدارة كارتر التي لم تنجح في أواخر السبعينيات من القرن العشرين في الحد من تفاقم الصعوبات الاقتصادية مقابل الأخطاء الكبيرة في معالجة الشأن الخارجي، وخصوصا أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران في أعقاب قيام الثورة الإسلامية.
وفيما يلي الحوار كاملا:
* بداية كيف تقيمون أداء الرئيس أوباما في تعاطيه مع ملف الصراع العربي – الإسرائيلي، خاصة أن هناك آراء في العالم العربي تذهب إلى أن الوعود التي أطلقها قبيل وصوله للرئاسة والطموحات الكبيرة بحل عادل اصطدمت في النهاية بالواقع وبالتعنت الإسرائيلي؟.
من الضروري في البداية أن نتذكر أنه برغم حالة التفاؤل العامة التي عمت المنطقة باعتلاء أوباما سدة الرئاسة، إلا أن رؤية فريق الإدارة الجديدة لهذا الملف بالتحديد كانت غامضة في أحسن الحالات، وكنت قلت على صفحات "إسلام أون لاين. نت" قبل حوالي عام أن هذا الملف لا يوجد على رأس أولويات الإدارة الأمريكية في رؤيتها لـ"الأمن القومي" بمعزل عن كل الإشارات الخطابية في هذا الصدد.
والحقيقة فإن كل المؤشرات التي أرسلتها هذه الإدارة خلال العام المنصرم أكدت تحديدا هذا التوجه، وبمعنى آخر يبدو لي أن أهم ما يميز أداء إدارة أوباما إزاء هذا الملف هو غياب الرغبة في التغيير لأجل الحفاظ على الوضع القائم مثلما وجدته مع انتهاء الحرب على غزة. وعموما نجح المكلف الرئيسي بهذا الملف، أي مبعوث الإدارة إلى المنطقة جورج ميتشيل، في القيام بهذه المهمة.
وهذا لا يعني بالضرورة أن ذلك هو الهدف النهائي لهذه الإدارة، لكنه بدون شك الهدف الذي تم رسمه في المرحلة الحالية؛ فنحن هنا لسنا بصدد فشل في تحقيق مشروع محدد، بل بصدد غياب الرغبة في تحقيق أي مشروع وفي ذلك "حل الدولتين".
يشير البعض إلى إصرار الإدارة حتى أشهر قليلة ماضية على "وقف الاستيطان" كأحد شروط إحياء "عملية السلام" مقابل رفض حكومة نتنياهو لذلك، غير أن ذلك لا يعني أن فريق أوباما حاول تفعيل مشروع ما اصطدم في المقابل بـ"تعنت إسرائيلي".
إن ما يجري على الأغلب عمليات استكشاف لأوضاع بديلة، لكن لم تكن مرفقة -خاصة في علاقته بإسرائيل- بأي مؤشرات على رغبة جدية في الضغط، وما بدا أنه "تراجع" للإدارة عن مبدأ وقف الاستيطان هو في نهاية الأمر وقف لإحدى المناورات التي تستهدف إشغال مختلف الأطراف بحالة من الحراك الظاهري، في حين أن الهدف الفعلي يبدو الحفاظ على الوضع القائم، بل وتدعيمه، خاصة في الجانب الفلسطيني.
وإذا تابعنا ممارسات الإدارة الأمريكية، خاصة في الأشهر الأخيرة، تتكشف بشكل أكثر وضوحا أنها اتجهت بالأساس للحفاظ على وضع دعم سلطة "رام الله" من خلال تقوية خطة الجنرال دايتون الأمنية، مقابل الحفاظ على وضع عزل "الحكومة المقالة" في غزة، من خلال الموازنة بين دعم "وضع الهدنة" ودعم سياسة العزل في ذات الوقت.
وفي هذا السياق قامت إدارة أوباما بتنفيذ الاتفاق الذي التزمت به الإدارة السابقة مع الطرف الإسرائيلي إثر الحرب على غزة، أي إحكام الحصار عبر البحر، والآن عبر تمويل والمساعدة في بناء "الجدار الفولاذي" على الجبهة المصرية... الأنباء التي وردت في بعض المنابر حول عمل ميتشيل خلال الأسابيع الأخيرة على منع اتفاقية تبادل الأسرى تتضمن أسماء كبيرة من مختلف أطراف المشهد السياسي الفلسطيني مثل مروان البرغوثي وأحمد سعدات -بما يمكن أن يدعم موقف "حماس"- يجب أن لا يكون مفاجئا، إذ هو أيضا تعبير عن نفس الرغبة في الحفاظ على الوضع القائم خاصة من الجانب الفلسطيني.
وفي هذا الإطار من الواضح أن مبدأ "الحوار مع الأعداء" الذي تصدر -بلاغيا- إستراتيجية الرئيس أوباما لم يشمل "حماس"، إذ لا يزال مشروطا بقبول حماس بـ"شروط الرباعية".
في المقابل وكما يجب أن يكون متوقعا، لا يبدو أن هناك ذات الحزم مع الجانب الإسرائيلي، خاصة مع تواصل بناء المستوطنات بدون قيام إدارة أوباما بأية مبادرة عملية تعكس جديتها في خصوص رفضها تواصل الاستيطان.
* هل يعني ذلك أنه لن توجد تغييرات في السياسة الأمريكية في هذا الملف؟
باستثناء الملفات المتعلقة بعمليات عسكرية فورية تستلزم قرارات آنية، فإن ملف الصراع العربي - الإسرائيلي مثل غيره من ملفات السياسة الخارجية هو رهين تفرغ أكبر من الإدارة الأمريكية من تركيزها على الملفات الداخلية. "المهلة" التي يتم الترويج لها من قبل الإدارة الأمريكية منذ أسابيع والتي تصل حسب بعض التسريبات إلى ثلاثين شهرا تعني أننا إزاء "مهلة" ليس للأطرف المعنية في المنطقة، بل "مهلة" للإدارة تسمح لها بالسباحة عبر المستنقعات الصعبة للملفات الداخلية، وبما يسمح لها الموازنة بين إشغال الأطراف الإقليمية عن أية مبادرات تحدث تغييرات دراماتيكية وعدم القيام بأي أخطاء كبيرة تؤثر على حظوظ الرئيس أوباما في الانتخابات الرئاسية القادمة.
هنا أصبح من الصعب في الحقيقة ألا نأخذ بجدية التكهنات المتزايدة التي تتحدث عن عزم أوباما اتباع ما قام به الرئيس كلينتون عندما أجل أي تدخل جدي في هذا الملف حتى نهاية عهدته الثانية؛ وهو الأمر الذي يجب أن لا يكون مستغربا؛ بسبب الثقل الخاص للموظفين السابقين في إدارة كلينتون في الإدارة الحالية، وفي ذلك في الشئون الخارجية.
لكن أسباب قيام أوباما بمثل هذا التأجيل لن تكون بهذه البساطة؛ إذ إن الثقل الكبير للملفات الداخلية، سواء الاقتصادية أو الأمنية، يجعل سياسة تأجيل النظر في ملف الصراع العربي - الإسرائيلي سياسة منتظرة إلا إذا حدثت تطورات وسلسلة ردود أفعال تخرج عن السيطرة تؤثر على التوازنات العامة في المنطقة.
في المقابل هناك بعض المؤشرات على بدء الإدارة الجديدة في تغيير الظروف العامة للعلاقات الأمريكية - الإسرائيلية في اتجاه كسب وسائل ضغط على الطرف الإسرائيلي منها: أن تلميح ميتشيل الأخير باحتمال استعمال سلاح نزع "ضمانات القروض" لم يكن اعتباطيا، وهو تعبير عن العقلية الأخرى التي نجدها في إدارة أوباما المتأثرة بسياسة الرئيس بوش الأب، والذي سبق له استخدام نفس أسلوب الضغط، لكن أهم مؤشر على رغبة الإدارة في خلق ظروف جديدة تسمح لها بضغط أكبر على تل أبيب نجده في الثقل الذي ساهمت فيه لصياغة لوبي إسرائيلي بديل في واشنطن عن اللوبي التقليدي "إيباك".
التطرف الإسرائيلي.. عقبة رئيسية أمام أوباما
لقد كانت الظروف المحيطة بتأسيس "جاي-ستريت"، تعبيرا عن الصراع داخل مجموعة بدت أنها "كتلة صماء" تدافع بدون تمييز عن السياسيات الإسرائيلية. مواقف "جاي ستريت"، وهي منظمة متكونة أساسا من يهود أمريكيين ذوي ميول ديمقراطية وأيضا ميول جمهورية معتدلة ليست "ثورية"، ولا تقطع مع بديهيات إسرائيلية من نوع "الدولة اليهودية".. لكنها في ذات الوقت تتخطى خطا أحمر عادة في السياق الأمريكي هو الدعوة لضرورة التفريق بين "اللاسامية" ونقد السياسات الإسرائيلية وفي ذلك محاولات الالتفاف على "حل الدولتين".
وفي هذا الإطار يأتي تأكيد المنظمة على موقف وقف الاستيطان في انسجام مع خطاب الإدارة الحالية، وكان حضور الجنرال جيمس جونس، مستشار أوباما للأمن القومي، الجلسة التأسيسية للمنظمة في أكتوبر 2009 رسالة واضحة لأهمية هذه المنظمة في أجندة الإدارة الحالية، وذلك رغم الضغوطات الكبيرة التي مارستها "إيباك" لتهميش الحدث ومقاطعة الهيئات الرسمية الإسرائيلية للحفل.
وقد أخذ الموضوع بعدا إعلاميا واسعا عند حدوث الصدام بين حنا روزنتال المشرفة على "محاربة اللاسامية" في إدارة أوباما والعضوة السابقة في "جاي-ستريت" مع السفير الإسرائيلي في واشنطن حول أهداف المنظمة.
هناك أيضا مؤشرات أخرى تخص محيط الإدارة والأجواء العامة المحيطة بها، وعلى سبيل المثال لو تمعنا في أداء المؤسسات البحثية الأكثر قربا من الإدارة الحالية مثل "مركز الأمن الأمريكي الجديد" (The Center for New American Security) نلاحظ استيعابه لوجوه برزت في السنوات الأخيرة بتعبيرها عن رؤية بديلة للوضع في المنطقة، وفي ذلك معرفة دقيقة بأوضاعها ونقدها الروتيني للسياسات الإسرائيلية مثل الأستاذ في جامعة جورج تاون مارك لينش، والذي لم يكن من الممكن قبل سنوات قليلة أن نتخيل وجوده في مثل هذه المراكز البحثية القريبة من صنع القرار.
من اللافت أيضا تغير لهجة بعض الوجوه التي اتسمت بلغة محافظة عادة في هذه الأوساط مثل الباحث في نفس المركز روبرت كابلان في شهر أغسطس الماضي (مجلة "الأتلنتيك" 3 أغسطس 2009) عندما عدد الأسباب التي تشير إلى ضرورة تغير العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية، خاصة التخلي عن النظر إلى إسرائيل على أنها ذات موقع "عاطفي" وإستراتيجي خاص في الرؤية الأمريكية للمنطقة، تستوجب الانحياز اللامشروط لسياساتها.
* ننتقل إلى الملف الأفغاني، خاصة أنه كان جوهر الحملة الانتخابية في مقاومة الإرهاب بالنسبة لأوباما.. كيف ترون محصلة عام، لاسيما أن عدد الجنود الأمريكيين القتلى وصل إلى أعلى مستوياته منذ بداية الحرب في عام 2001؟.
الملف الأفغاني يجب مقاربته في الحقيقة بوصفه الملف "الأفغاني-الباكستاني"، والذي أصبح يتم الحديث عنه بمختصر "أف-باك"، خاصة على خلفية تداخل تنظيمي "طالبان" أفغانستان و"طالبان" باكستان وانتشار تنظيم "القاعدة" بين ضفتي الحدود الباكستانية - الأفغانية على مدى "التخوم" الشفافة (بشريا وجغرافيا) بين البلدين.
ومثلما ذكرت على صفحات هذا الموقع منذ حوالي عام، فإن هذا الملف على رأس أولويات الملفات الخارجية للإدارة الحالية، فهو مؤشر حقيقي عن موقع السياسة الخارجية بالنسبة لاختيارات هذه الإدارة، إذ على أهميته الاستثنائية بما أنه ملف عسكري يستوجب قرارات حاسمة وواضحة، وليس مجرد ملف سياسي؛ فقد استغرق الرئيس في مشاورات طويلة نسبيا في مختلف الاتجاهات حتى يمكن له التسويق الداخلي لزيادة في عدد القوات لا يمكن وصفها بأنها ضخمة، وهو ما يعكس الحساسية الكبيرة التي توليها الإدارة للوضع الداخلي وردود الأفعال المحلية.
وعموما انقسم هذا العام إلى مرحلة أولى تمثلت في استكشاف الوضع "الأفغاني-الباكستاني"، خاصة المساهمة في إعادة ترتيب التوازنات السياسية الداخلية في كل منهما والتشاور حول الخطة البديلة، ثم في مرحلة ثانية، وهي متواصلة الآن، أي تنفيذ الخطة البديلة (نفس الخطة التي تم تطبيقها في العراق مع تغييرات طفيفة)، والمتمثلة في الترفيع من وجود القوات وتكثيف حركتها خارج قواعدها، سواء في عمليات عسكرية أو في التواجد بين الأهالي.
ويشار هنا إلى أن وضع سقف زمني لتنفيذ الخطة، حتى في سياق الحديث على أنه عمليا سقف زمني مرتهن بنجاح الخطة، وليس حدا جامدا، إنما يعكس مرة أخرى الحساسية الكبيرة التي توليها هذه الإدارة لردود الفعل الداخلية، خاصة أننا على أبواب الانتخابات التشريعية في الولايات المتحدة.
من الواضح أن التطورات الأخيرة لا تشير إلى بداية ناجحة للخطة الجديدة، خاصة بعد عملية "خوست"، وتكرار سقوط جنود أمريكيين في المواجهات مع "طالبان"، ولو أن القيادات العسكرية الأمريكية تؤكد أن الخطة في بداية تنفيذها، وأن زيادة القوات التدريجية لم تكتمل بعد، بما يمكن اختبارها بشكل جدي، لكن هناك أيضا معطيات أخرى -إضافة للتطورات الميدانية- تجعل الإستراتيجية الجديدة محل تساؤل.. مثلا يقول الجنرال جيمس جونس إن عناصر "القاعدة" الناشطين في أفغانستان لا يتعدون المائة شخص، وهو ما يطرح تساؤلات جدية حول جدوى الزيادة في القوات كوسيلة ناجعة لضرب الطرف الأساسي الذي يبرر الوجود الأمريكي هناك.
وكذلك ثمة عدم واقعية في بعض أهداف خطة الزيادة في القوات مثل رفع عدد الجنود الأفغان إلى 240 ألف جندي بدلا من العدد الحالي الذي لا يتعدى 90 ألفا.. المشكل الأساسي هنا هو أن العماد الأساسي للجيش الأفغاني يتمثل في الأقلية الطاجيكية (25% من عدد السكان) التي تمثل 41% من عدد الجنود.. والأهم أنها تشكل حوالي 70% من قيادات الألوية، وفي المقابل فإن الجزء الرئيسي من التركيبة السكانية الأفغانية (أي قبائل البشتون) ليسوا ممثلين بشكل متناسب في الجيش، وهذا يعني أن الاعتماد على جيش طاجيكي بالأساس في حرب تدور أساسا في مناطق بشتونية المساهمة في دفع البشتون للاصطفاف أكثر مع "طالبان" على أسس عرقية وليس أيديولوجية بحتة.. هذا إضافة إلى أن حكم أفغانستان كان تاريخيا يتم بتوازن دقيق بين مختلف مكوناته وأطرافه، وليس من قبل حكومة مركزية، خاصة إذا كانت تعتمد على مكون عرقي أكثر من بقية المكونات.
هناك إشكال آخر كبير أيضا يقف عائقا أمام نجاح خطة الإدارة الجديدة، وهو أن "طالبان" ليست كتلة صماء؛ مما يجعل أي شراكة أمريكية-باكستانية تقف على أرض غير صلبة؛ إذ إن الحكومة الباكستانية ليست في حرب مع كل "طالبان" باكستان، بل مع بعض أجنحتها، خاصة تلك المتركزة في جنوب وزيرستان (بقيادة آل محسود)، في حين تتجه تصريحات قيادة "طالبان" أفغانستان بقيادة الملا عمر بأن "العدو الرئيس" الذي تواجهه هو الوجود الأمريكي، وأنها ليست مستعدة للانخراط في صراع مع الحكومة الباكستانية.. وهذا يعني عمليا أن فرص عقد الباكستانيين لصفقات مع "طالبان" كبيرة، خاصة في سياق تاريخ العلاقات الوطيدة بين الطرفين، في حين أن مختلف أجنحة "طالبان" تبدو على عداء مع الوجود الأمريكي.
* في الجهة العراقية.. ومع تجدد أعمال العنف في العراق والعمليات الانتحارية.. كيف تقيمون عمل الإدارة الأمريكية مع أوباما حتى الآن في خصوص هذا الملف؟.
الأرقام عموما في العراق لم تتغير كثيرا في عام 2009 مقارنة بعام 2008.. مثلا حسب آخر المعطيات التي قدمها "مؤشر العراق" (Iraq Index) التابع لمؤسسة "بروكينجز"، فإن رقم الضحايا المدنيين من العراقيين جراء التفجيرات كل شهر بقي في نهاية سنة 2009 في نفس مستواه مع نهاية سنة 2008 (أي بين 250 و350 قتيلا). لكن هذا طبعا رقم مرتفع، ولا يعكس "حالة من السلم"، لكنه أيضا لا يقارن بما كان عليه الوضع مثلا سنة 2007 عندما كان هذا الرقم يتجاوز بشكل روتيني الألفي ضحية.
أما الأرقام المتعلقة بالهجمات المعلنة ضد القوات الأمريكية وحلفائها بدت حتى أقل بعض الشيء مما كان عليه الوضع عام 2008؛ إذ تتراوح بين 150 و200 عملية في الأسبوع.. ومرة أخرى لسنا هنا بصدد "حالة سلم"، لكن لا يمكن مقارنة ذلك أيضا بما كان عليه الوضع في السنوات السابقة بما في ذلك سنة 2008.
والأرقام الخاصة بعدد القتلى من الجيش والشرطة العراقيين انخفضت بشكل ملحوظ مقارنة حتى بسنة 2008؛ إذ كانت عموما بمعدل 40 قتيلا شهريا.. لكن ذلك أيضا يعني أن الوضع ليس "مستتبا".
إن كل هذه الأرقام تشير إلى نقطة أساسية، وهي أن تراجع حدة المواجهة العسكرية لا يمكن أن يعني انتفاءها بسبب تواصل وجود وضع احتلال مرفوض من قبل قطاعات مؤثرة في صفوف الشعب العراقي.
وفي اعتقادي يجب بداية محاولة القيام بتقييم دقيق للوضع العراقي.. هناك ثلاث مسائل لا يمكن تجاهلها: الأولى انحدار وضع "القاعدة" في العراق، والثانية محدودية انخراط التحالف العربي السني في العملية السياسية التي ترعاها الولايات المتحدة، والثالثة تأثير الصراع داخل التحالف الشيعي التقليدي على التركيبة السياسية التي تم إرساؤها في ظل الاحتلال. والمسألتان الأخيرتان ستحسمان ما ستئول إليه الانتخابات التشريعية المقررة هذا العام.
بالنسبة للمسألة الأولى هناك ما يكفي من المعطيات الآن، وفي ذلك ما نشر من الوثائق الداخلية لـ"القاعدة" في العراق، من أن هذا التنظيم لم يعد يقدر على أن يكون رقما صعبا في المعادلات العراقية؛ إذ إنه -وبمعزل عن قيمة التأثير العسكري الأمريكي- فإن الوضع الذي آلت إليه "القاعدة" كان نتيجة بالأساس لقرار الأخيرة تقويض شرط وجودها العراقي، أي أسس التحالف الواعية أو الضمنية مع تحالف واسع فيما بين العرب السنة، من خلال التعالي على أسباب انخراط هؤلاء في الصراع ضد الاحتلال، وعلى تركيبتهم القبلية المعقدة، والتوهم أن "القاعدة" يمكن أن تملي على الجميع شروطها؛ وبالتالي كان عام 2009 بالنسبة لإدارة أوباما خال من "القاعدة" في العراق، وربما كانت تلك إحدى المزايا النادرة التي خلفتها الإدارة السابقة للإدارة الحالية.
غير أن عام 2009 بالنسبة للإدارة الأمريكية في العراق هو عام بداية تخلخل التحالف العربي السني الذي كان يمكن أن ينخرط في العملية السياسية بعد أن رفع الغطاء عن "القاعدة"، وربما تجسد ذلك حتى من خلال احتمال عودة بعض ممن كانوا يعملون مع القوات الأمريكية تحت تسمية "قوات الصحوة" إلى صفوف العمل المسلح ضدها خاصة إثر استهدافهم من قبل المؤسسات الأمنية التابعة لحكومة المالكي التي تسيطر عليها غالبية شيعية وترفض إدماج هؤلاء ضمن القوات الحكومية.
وعلى الأرجح فإن القرار الأمريكي بـ"الانسحاب" أو ما يعرف بـ"اتفاقية وضع القوات" (SOFA) لم يكن كافيا، ولم يلب الانتظارات السياسية للفصائل العراقية المعادية للاحتلال، خاصة ضمن المجال العربي السني؛ إذ إن تغيير تسمية قوة هائلة من الجنود يمكن أن تصل حتى 50 ألفا بعد "نهاية الانسحاب" بحلول نهاية عام 2011 بأنها "قوات للاستشارة والمساعدة" لم يكن يعني على الأغلب "انسحابا" بالنسبة لهذه الفصائل.. وهذا في حالة تم الالتزام بجدول الانسحاب مع العلم أن عدد القوات الآن لا يزال يفوق مائة ألف، هذا عدا عن الصمت حول وضع ودور القوات المتضخمة للشركات الأمنية المثيرة للجدل، والتي تجاوزت 130 ألف عنصر، وفي ذلك أكثر من 30 ألفا يحملون الجنسية الأمريكية، وكذلك هناك غموض حول وضع القواعد الأمريكية داخل العراق، والتي يتجاوز عددها 280 قاعدة، والتي بصدد التوسع في المجالات الريفية بعيدا عن المدن منذ إعلان "اتفاقية وضع القوات".
هل يتراجع أوباما عن الانسحاب؟
وفي هذه السياقات الغامضة من غير المفاجئ أن يتراجع القادة العسكريون الأمريكيون عن الانسحاب وفق الجدول المحدد مثلا في شهر مايو 2009 من إحدى القواعد الكبرى في بغداد من خلال إعادة تعريف المجال الجغرافي للقاعدة، واعتبار أنها لا توجد ضمن بغداد.
وعموما فإن هناك مزاجا عاما يجمع العرب السنة والشيعة في رفض استمرار وجود القوات الأمريكية في العراق، ولا يبدو ذلك غائبا عن صانع القرار الأمريكي؛ إذ عبر أكثر من 70% من العراقيين (في عينة تعكس التنوع المذهبي والعرقي العراقي) في آخر استطلاع رأي تم إنجازه من قبل مؤسسات إعلامية أمريكية على رأسها شبكة "أي بي سي" (في فبراير 2008) عن رفضهم لوجود هذه القوات.
ومن الواضح أن جهود حكومة المالكي الناجحة لتأجيل الاستفتاء حول "اتفاقية وضع القوات"، والذي كان مزمعا إجراؤه في يوليو 2009 يعكس شعورا بأن غالبية عراقية ترغب في اتفاق واضح يضمن انسحابا مبكرا يختلف عن الاتفاق الذي تم توقيعه.
وبرغم هذا التأجيل فإن الصراعات المتفاقمة في المشهد السياسي العراقي خاصة ضمن التحالف الشيعي التقليدي تعكس هشاشة العملية السياسية الراهنة لا غير، وتزداد كلما اقترب موعد الانتخابات التشريعية في مارس 2010، و أيضا كلما زاد الاضطراب في الداخل الإيراني الذي يترك تأثيره بالضرورة على وحدة المشهد الشيعي العراقي.
عموما وبشكل يشبه ما يحدث في علاقة إدارة أوباما بملف الصراع العربي – الإسرائيلي، فإن الرؤية الأمريكية للوضع في العراق تتجه للحفاظ على الوضع القائم، وتأجيل كل ما يمكن أن يؤدي إلى تفاقم التعقيدات الحالية، برغم أن هذا التوجه تحديدا سيؤدي في النهاية إلى تفاقمها بالفعل.
إذن يمكن القول إن إدارة أوباما لم تتمكن في عامها الأول من إنجاز تقدم يلحظ في أي من الملفات السابقة، بل إنها تعمد لتكتيك تأجيل حسم هذه الملفات لا أكثر..؟
في مختلف هذه الملفات السابقة لدينا تكرار لنفس المعضلة؛ إذ إن ثمة رغبة من الإدارة الحالية في أن تمسك العصا من الوسط، وهذا يعكس ترددها في حسم ملفات خارجية ترى أنه يمكن لها أن تؤجلها مع احتمال تعثر معالجة الملفات الداخلية (وفي ذلك ارتباطها من جهة الإنفاق المالي بالملفات الخارجية)، وتفاقم الملفات الخارجية يمكن أن يؤدي إلى التأثير على شعبية الإدارة الحالية وحظوظها في الحصول على عهدة رئاسية جديدة.
وقد نبه بعض المراقبين الأمريكيين الإدارة الأمريكية من هذا المصير، مشيرين بشكل خاص إلى ما حصل مع إدارة كارتر عندما لم تنجح في الحد من تفاقم الصعوبات الاقتصادية مقابل الأخطاء الكبيرة في معالجة الشأن الخارجي، وفي ذلك قضية "الرهائن الأمريكيين" في السفارة الأمريكية في طهران آنذاك إثر اندلاع الثورة الإيرانية.