في حوار بين "ماهيفا" و بيني توصلنا الى التعبير عن رغبة في النقاش الهادئ و الجدي حول مسألة العلمانية . و قد كنت عبرت على وجهة نظري في الموضوع من خلال مقال بعنوان "السرديات الشمولية لعلاقة الدين و الدولة و تاريخانيتها" (صدر في مجلة الآداب عدد جويلية و أوت و سبتمبر 2007) و اقترحت على من يختلف معي في الرأي التوجه للنص و نقده و أنا على استعداد للتفاعل مع ذلك... "ماهيفا" من جهتها قامت بطرح مجموعة من الأسئلة حول المقال تعكس على الأرجح وجهة نظر خاصة و لازلت طبعا أتوقع طرحا أكثر اتساعا من قبلها من خلال طرح أجوبة على الأسئلة التي طرحتها... و لكن إزاء الدعوة التي قامت بها "ماهيفا" لم أر حقيقة كثيرا من الردود خاصة من الأطراف التي تردد بشكل مستمر عن اهتمامها بالموضوع... و لم ألحظ سوى وجود ردين (الأول في شكل تدوينة هنا و الثاني في شكل تعليق أنظر التعليق الخامس هنا)... سأتعرض لأولهما فيما يلي
الرد الأول كان من قبل مدون سبق أن أشرت الى عدم جديته في نقاش هذه المسائل.. و كان من المخيب للآمال استمراره في نفس الأسلوب بعد الدعوات المستمرة لنقاش هادئ... حيث علق بنفسه على رده بأنه رد "غير هادئ" (أنظر التعليق الرابع هنا) إصرار على ممارسة أسلوب استفزازي في النقاش... كما كان رده غير ناضج حسب رأيي و هو الأمر الذي سأبينه تباعا... و رغم ذلك و تعبيرا عن رغبتي في المساهمة في خلق نقاش هادئ و جدي سأقوم هنا بالتعليق على هذه التدوينة
يقوم المدون بمقدمة تفوق كما حجم ما كتبه في صلب الموضوع أي في الرد على مقالي... و بدت لي هذه المقدمة ليست خارجة عن الموضوع فحسب بل تحتوي على عدد من الملاحظات غير الدقيقة بل و المغالطات... و إذا تجاوزت عددا من المصادرات الإطلاقية و التي لا توحي بأننا إزاء كاتب يبحث و يفكر جيدا قبل تقرير مسلماته (من نوع "لأنّ النقاش والنزاعات الفكرية منبوذة في مجتمعاتنا والنقد جريمة قائمة الذات. وتاريخ مجتمعاتنا يقدم الدليل القاطع على ذلك. فالسمة المميزة لهذه المجتمعات تهميش الفكر والمفكرين .فقد أحرقت كتب ابن رشد واتلف كل ما كتبه المعتزلة"... و هنا بالمناسبة أي شخص يمحص في كلامه سيرى من الضروري أن يستفسر عما إذا كانت مؤلفات المعتزلة قد تم إتلافها فعلا أم لا قبل إطلاق مثل هذه المصادرات... فنظرة بسيطة على الدراسات الأكاديمية حول هذه الفرقة سيوضح كم المخطوطات المحفوظة من تأليف المعتزلة و التي يتم اكتشافها تباعا منها مثلا المجموعة المشهورة المحفوظة في اليمن... و هذا مجرد مثال على هذا النوع من المسلمات في هذه التدوينة و التي يتم اطلاقها بدون تروي أو تواضع علمي)... غير أنه عدى ذلك لفتت انتباهي ملاحظات أخرى في علاقة بالجدال الراهن في المدونات التونسية حول العلمانية... و علي سبيل المثال يقول المدون عن النزاع الذي جد على المدونات التونسية حول موضوع العلمانية بأنه صراع بين "اسلاميين" و "علمانيين ("جزء منهم يرى أن الخلاص يكمن في الدين وتحديدا الدين الإسلامي، والجزء الآخر يرى أن المشكلة في هذا الدين الذي ترى فيه المجموعة الأولى طوق النجاة") و على الرغم من هذه الحدية في تقييم مواقف المدونين التونسيين من خلال حصرهم في "فسطاطين" (إما أبيض و إما أسود) فإن هذا المدون لا يرى أي داعي لتقديم أمثلة للتدليل على هذا التقييم بالرغم من ترديده المستمر لتمسكه بالمنهج العقلاني (و من ثمة الاستدلالي)... و لا أرى حقيقة أين وجد هذا المدون فيما أكتب أو يكتبه مدونون يتبنون رؤية تقرب ربما من رؤيتي (مثلا "حاكم النورمال لاند" أو "فري رايس") أنها تعتبر "الخلاص يكمن في الدين و تحديدا في الدين الاسلامي". و ملاحظة مثل هذه تجعلني إما أشك في أن هذا المدون قد قرأ المقال أو هو يتعمد المغالطة من خلال تجاهل ما ورد في مقالي: حيث أن جزءا من الآراء التي أتوجه اليها بالنقد في مقالي هي تحديدا الرؤية الإسلامية. كما لا أرى في نفس الاتجاه أن أي علماني يرى ضرورة "أن المشكلة في هذا الدين". حيث هناك أمثلة لا حصر لها (و بعضها تعرضت له في مقالي) يتبنى الرؤية العلمانية من دون أن يعتبر "المشكلة في هذا الدين" و هو حسب رأيي موقف متوازن حيث لم يبلغ الى علمي أي تعريف رائج للعلمانية، في سياقها الغربي الكلاسيكي، يعتبر "المشكل في الدين" (أية دين) بل إن من أهم أسس العلمانية هو تحييد الدين و اعتباره جزءا من الحياة الخاصة و ليس بالضرورة "مشكلا" يجب القضاء عليه او استئصاله... طبعا هذا باستثناء المرحلة اليعقوبية الوجيزة في الثورة الفرنسية و بعض الطروحات "الماركسية" خاصة في بعض مراحل الفترة الستالينية حيث وقع اعتبار "المشكل في الدين" عند إقامة العلمانية.... و هي الطروحات التي ربما تأثر بها هذا المدون
أنتقل الآن للملاحظات التي وردت في هذه التدوينة و التي تعرضت لنص مقالي بهذه الدرجة أو تلك و التي سأعلق عليها تباعا
يقول هذا المدون
"الآداب اللبنانية التي قبل طرحها موضوع العلمانية طرحت موضوع الطائفية في الوطن العربي. وتناولته بالبحث في أربعة أعداد متتالية. وقد توجهت المجلة ـ_المجلة هي التي توجهت لهؤلاء وبمقابل مالي وهذا مذكور بالمجلة ذاتها- إلى عديد المختصين في عديد البلدان العربية ليكتبوا لها عن الطائفي... فجدّية مقاله يستمدها من كونه ظهر بمجلة الآداب متجاهلا أن مجلة الآداب تستمدّ جدّيتها من الكتـّاب الذين تتوجه لهم بالدعوة إلى الكتابة لها. فهو قد سعى بنفسه إلى الكتابة بهذه المجلة التي كان يجهل ما إذا كانت المجلة شهرية أم تصدر كلّ شهرين أم كل ثلاثة أشهر كما كان يجهل حتى ما إذا كان سماح إدريس رئيس تحريرها رجلا أم امرأة، ثم و بقدرة قادر، أصبح صديقه الذي أعطاه وعدا بنشر مقال له قبل شهرين من صدور العدد، و ذلك قبل الاطّـلاع على موضوع المقال"
بالرغم من أني لا أرى أية علاقة مباشرة بين نص مقالي و هذه الملاحظات إلا أني أعرضها هنا لكي أشير الى الأسلوب المستفز و المشخصن في هذه التدوينة... و أود في هذا الاطار طرح الملاحظات التالية: أولا، لنفترض جدلا أن كل ما ورد في هذه الفقرة صحيح ما علاقة ذلك بنص مقالي و محتوى الأفكار التي وردت فيه؟ ثانيا، بالنسبة لعلاقتي بسماح إدريس فقد كنت صريحا في الحديث عنها... و ليس أدل على ذلك من إشارتي في وقت سابق أني فعلا لم أكن أعرف ما إذا كان "سماح" إمرأة أو رجلا... و لم أرى في ذلك أي فارق عند قرائتي مقالاته سابقا.. و سأسوق هنا بعض الملاحظات عن علاقتي بسماح إدريس و التي ربما تشبع النزعة الفضولية (غير البريئة) لهذا المدون بالرغم من الطابع الشخصي الذي ليس من المفترض أن يهم أحدا غيري و غير سماح إدريس.... ففي وقت سابق يفوق العام (و ليس الأشهر) كنت اتصلت بسماح للاستفسار عن إمكانية نشر الآداب لمقالات في الفن الإسلامي و حينها كان التعارف خاصة بعد أن علمنا أن لزوجته (التي تحصلت على رسالة الدكتوراة في جامعة برنستون) أصدقاء مشتركين معي... حيث أخذت العلاقة حينها بعدا حميميا (بالمناسبة سماح إدريس ليس غريبا عن الأجواء الاكاديمية الأمريكية حيث تحصل على دكتوراه في جامعة كلومبيا و ساهم ذلك في التقارب بيننا)... على كل تواصلت العلاقة على هذا النحو حتى أتى موضوع العلمانية... و قد سبق اختيار الآداب للعلمانية كأحد موضوعاتها بأشهر قليلة ندوة وقع تنظيمها في شهر ماي 2007 من قبل المركز الثقافي الدانماركي في دمشق تحت عنوان "العلمانية في المشرق العربي" (أشغال الندوة صدرت في كتاب فيما بعد و بعض مقالاتها وقع تضمينها في العدد الأول من الآداب حول العلمانية) أثارت ضجة في الأوساط الثقافية السورية و اللبنانية و وصل صداها لي عبر رسائل الكترونية.... و هو الأمر الذي تزامن مع رغبة قديمة لدى هيئة تحرير الآداب لتخصيص ملف حول الموضوع يلي موضوع الطائفية.... على كل حال اهتمامي بالموضوع كان في هذا الإطار الزمني... و فعلا أرسلت مختصر مقال (ملخص مقال يحمل أفكار أساسية) لسماح للاطلاع عليها... و هو ما توافق تحديدا و بشكل متصادف تماما مع الرؤية التي رغبت هيئة تحرير الآداب في طرحها و التي كانت رؤية مخالفة لما هو سائد في الساحة الثقافية.... و هذه نقطة محورية سأعود اليها فيما بعد لعلاقتها المباشرة بالرؤية التي طرحتها في مقالي و مقارنتها ببقية المقالات الواردة في عدد الآداب حول العلمانية... لكن سأتوقف هنا عند مسألة أخرى و هي استكتاب الآداب للكتاب في ملفات محددة... و الحقيقة أن هناك، مثلما هو الحال في أي دورية أكاديمية محترمة، طريقتين للنشر... إما إرسال دعوة استكتاب من قبل المجلة لعدد من الكتاب خاصة إذا تعلق الأمر بملف معين أو تقديم كتاب مقالات للنشر و هنا تخصع المقالات لرأي هئية التحرير التي تقرر أي المقالات تستحق النشر... ما تم في هذه الحالة أن المقال الذي أردت نشره و من ثمة عرضت ملخصا منه لهيئة التحرير (و لم أكن حينها على علم بوجود ملف حول العلمانية) صادف أن رؤيته متطابقة مع الرؤية التي يرغب فيها القائمون على المجلة و على ملف العلمانية تحديدا (ياسين الحاج صالح و سماح إدريس)... و الحقيقة لا أرى كيف يكون عرض مقالي لمجلة لكي تنشرها أمرا معيبا أو يبعث على العار... فهل يعرف هذا المدون كيفيات النشر في الدوريات الأكاديمية حتى يسمح لنفسه في التوغل نحو تأويلات تنم على الجهل من هذا النوع؟... و هنا توجد نقطة يجب الاشارة اليها: و هي أن مجلة الآداب لا تقدم عموما (إلا في حالات استثنائية جدا) خاصة في ظروفها الحالية مقابلا ماديا على المقالات المنشورة فيها... و ذلك لسبب بسيط، حيث تعاني المجلة منذ سنوات (عندما قاربت سنة 2001 على التوقف) و حتى الآن من مصاعب مادية كبيرة تواجه مثيلاتها من المنابر الثقافية العربية التي تعاني من الفاقة رغم قيمتها الكبيرة (ينطبق ذلك أيضا على مركز دراسات الوحدة العربية و مجلة المستقبل العربي).... على كل أورد هذه الملاحظات للتعليق على الأسلوب الصبياني الذي يميز الفقرة أعلاه و التي أوردت مجموعة من التأويلات المشخصنة التي ليس لها علاقة مباشرة بنص مقالي و التي كان يمكن لكاتبها الاستفسار عنها مني شخصيا لو كان يتصرف بحسن النية المفترض من كل من يرغب في حوار جدي و ناضج
يقول هذا المدون في تعليق عام على ما كتبته
"فكل من الذين كتبوا في هذا الملف ( الطرابيشي، العظمة، قرم، الصابغ، غليون) تناولوا وضع العلمانية ودورها في معالجة الأوضاع الراهنة. فدون عناء يذكر قد يستطيع كل قارئ اكتشاف سلاسة الأفكار و وضوحها وكيفية إقامة الحجج والبراهين للدفاع عن مقارباتهم
فما موقع مقال الباحث التونسي طارق الكحلاوي المعنون بالسرديات الشمولية لعلاقة الدين بالدولة و تاريخانيتها من هذا الوضوح في الرؤية؟ و ما هي الحجج المساقة للدفاع عن رؤيته؟ إن قراءة المقال المذكور للوصول لمقاربة أو موقف معلل بحجج وبراهين أمر مستحيل"
و قبل التطرق الى "البراهين" التي ساقها هذا المدون للتدليل على خلو مقالي من "مقاربة أو موقف معلل بحجج و براهين" يجب أن أشير هنا الى مسألة مضمنة في هذه التدوينة تعبر بالتحديد عن السبب الأساسي من كتابتي مقالي بل و كذلك عن السبب الأساسي وراء تخصيص مجلة الآداب لعددين خاصين حول العلمانية. حيث من يقرأ هذه التعليقات و خاصة التي تهم بعض المقالات الأخرى المضمنة في عددي ملف العلمانية سيلاحظ إهتمام هذا المدون بـ"الموقف" و "الوضوح" و هو ما يساوي عمليا "دور العلمانية في معالجة الأوضاع الراهنة"... و الحقيقة هناك فرق هنا بين "الموقف" و ما يعنيه من رؤية بشكل عام لا تدعي ضرورة الإطلاقية و بين "الموقف المطلق" و ما يعنيه من ثقة لا تتناسب ضرورة مع الوقائع.. و بين "المقاربة" و ما تعنيه من معالجة للمنهج و ليس للنتائج و بين "الموقف" و ما يعنيه من توصل لنتائج... حيث كان المغزى من مقالي التفريق تحديدا بين هذه المستويات... حيث كان الهدف من مقالي بالتحديد تقديم مقاربة لواقع المقاربات الراهنة... و كانت النقد الأساسي في مقاربتي تجاه هذه المقاربات الراهنة هو تحديدا استهداف بنيهتها الاطلاقية التي تقدم أجوبة مجردة بمعزل عن معطيات الواقع الراهن في مستوياته المتجاوزة للبنى الفكرية.... فالمشكل حسب رأيي ليس في تقديم "أجوبة واضحة و سلسة" (إقرأ هنا إطلاقية و مجردة) حيث تمتلئ الساحة الثقافية العربية بمثل هذه الإجابات الجاهزة التي تحمل طابعا سجاليا (عوض الطابع التحليلي) بمعنى أنها تنطلق من مواقف ايديولوجية جاهزة و تقدم في هذا الإطار "البراهين" التي تنتقيها أحيانا بعناية (و أحيانا بدون عناية) للتدليل على ذلك الموقف... و من بين أهم هذه الدلائل المستعملة هي الدلائل التاريخية... و من هنا كان تركيزي على المنهج التاريخاني ليس لسرد وقائع تاريخية بمعزل عن معناها بالنسبة للواقع الراهن بل لمساءلة الأجوبة الراهنة.... ما أريد أن أضيفه هنا أن المقاربة المضمنة في مقالي ليست أمرا استثنائيا أو يدعو للاستغراب حيث أنه مشابه لآراء أخرى متصاعدة ملت من مستوى الجدال الراهن... و بهذا المعنى ليس من المصادفة أن تكون متطابقة مع أهداف هيئة تحرير مجلة الآداب من تخصيصها عددين لموضوع العلمانية... و لو قرأ هذا المدون تقديم ياسين الحاج صالح لملف الآداب عن العلمانية فإنه سيكتشف ما يلي: "في توجهنا الأولي لإعداد الملف، و في مراسلاتنا مع بعض كتابنا المساهمين فيه تمنينا أن نتمكن من تجاوز الطرح المبدئي و المجرد للعلمانية، و هو الطرح الذي يبشر بها و يدافع عن شرعيتها و يؤكد أنها الحل نحو طرح أكثر تاريخية و اجتماعية" و أعتقد أنه كان مصيبا عندما قال في تعليقه على غالبية المقالات (و التي أعجب بوضوحها المدون أعلاه) بما يلي "قد لا تستجيب أكثر المواد في هذا الملف لهذا التوجه". و هكذا كانت اهتمامي بالموضوع و بدفع تحديدا من اهتماماتي الأكاديمية (المتركزة على التاريخ الإسلامي الوسيط و الحديث المبكر) في تقاطع مع الملل عند البعض (الذي أشعر به شخصيا) من "التبشير بالعلمانية" بمعزل عن السياقات التاريخية و من ثمة الواقعية... و في هذا الاتجاه تأتي عنونة الملف بـ"العلمانية في السياق العربي الاسلامي". و هو الأمر الذي كنت أكدت عليه في تعليقي على صدور العدد الثاني من المجلة الذي تعرض لملف العلمانية
الآن بعد كل هذا اللغط الخارج عن الموضوع و التي تشير الى قلة نضج كاتب التدوينة سأتعرض للفقرات النادرة التي يتعرض فيها هذا المدون بشكل مباشر لنص مقالي... سأبدأ بالـ"براهين" التي قدمها و التي تشير الى خلو مقالي من "مقاربة أو موقف معلل بحجج و براهين"... يقول
"إن قراءة المقال المذكور للوصول لمقاربة أو موقف معلل بحجج وبراهين أمر مستحيل فالمقال يبدأ بمناطحة خصم من صناعة الباحث الشاب فصناعة هذا الخصم سهلة وتمكنه من الانتصار عليه. إذ يقول "يحاجج تيار من أنصار الدولة العلمانية على غياب الدولة الدينية عبر التاريخ الإسلامي…" لعل المقالات الصادرة حول العلمانية بنفس العدد لا تتعـرّض لهذا الأمر باعتبار أن دعاة الدولة العلمانية يطالبون بها كضرورة لمعالجة أوضاع تعيق هذه المجتمعات التي تغرق كل يوم في مزيد من الحروب المذهبية والطائفية وسيطرة العشائر والقبائل على أجهزة الدول. فالعلمانيون الواعون بما يقولون، والخمس مقالات التي ظهرت تطرح العلمانية كسبيل للخلاص في مواجهة "الإسلام هو الحل" وذلك بمعزل عن هل أن الدولة في الماضي كانت دينية أم لا. يعني أن العلمانيين يطرحون العلمانية كحل لقضايا فعلية راهنة وكنقد وتجاوز لتاريخ تحكمه الصراعات الدينية سواءا كانت في ما بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى أو فيما بين المسلمين (شيعة ـ سنة) الذين يصرّحون بأنفسهم بأن الفتنة نائمة ويلعنون من يوقظها ولكن في فضائياتهم وبرامجهم التعليمية يهيئون لها وينمّونها وذلك منذ أن اختلف الأنصار والمهاجرون ثم الأنصار فيما بينهم. ومقال جورج طرابيشي قدم الدليل الكافي على ذلك "
طبعا كنت تعرضت أعلاه للسبب الذي يجعلني أو يجعل ناشري مجلة الآداب مهتمين بالسياقات التاريخية في طرح موضوع العلمانية و التي لم يجدها هذا المدون في بقية المقالات... و الحقيقة أن تقييمه هذا غير دقيق و ناتج على الأرجح عن قراءة انتقائية لهذه المقالات... حيث أن مقال جورج طرابيشي (و الذي يقدم أحيانا سردا مبالغا فيه للوقائع التاريخية خاصة من خلال النقل عن ابن الأثير عوض التركيز على الدراسات الأكاديمية التي تعرضت للموضوع و التي قامت بمقاربات نقدية للمصادر التاريخية بما في ذلك ابن الأثير... و لكن ذلك أمر طبيعي حيث أن طرابيشي ليس له تكوين أكاديمي معمق في التاريخ الوسيط) يطرح مقاربة مماثلة من حيث المنهج لمقاربتي و بالتالي متماثلة مع هدف ملف العلمانية كما طرحه ناشرو الآداب... كما أن بعض المقالات الأخرى تتضمن على الأقل النية لطرح الموضوع من زاوية تاريخانية و لو أن ذلك لم يتجسم في كثير من الأحيان في مقاربة تاريخانية فعلية (ربما من أجل التماثل الشكلي فحسب مع أهداف الملف حسبما طرحه ناشرو الآداب)... و مثلما وضحت في تعليقي على الجزء الثاني من ملف العلمانية أن ذلك ينطبق مثلا على جورج قرم الذي أكد في بداية مقاله على "وضع الاشكالية ضمن سياقها التاريخي"... و كذلك برهان غليون الذي أعلن في البداية اهتمامه بدراسة العلمانية "كظاهرة تاريخية" و لو أنه للأسف لم يقم بذلك في مقاله.... لكن آتي الآن للبرهان الذي قدمه هذا المدون للتدليل على خلو مقالي من التعليل و الاستدلال... حيث اعتبر أني اصطنعت خصما سهلا يمكن لي مناطحته (طبعا سأتجاوز مستوى هذه العبارات الذي يذكرني برحبة الأكباش)... فما هو هذا "الخصم المصطنع" و الذي خلقته من لاشيئ: "يحاجج تيار من أنصار الدولة العلمانية على غياب الدولة الدينية عبر التاريخ الإسلامي"... فهل من يقرأ مقالي بجدية (و بنضج) يمكن له أن يصل الى أني "اختلقت" هذا "الخصم"؟... في الواقع كنت أقدم تباعا أمثلة واضحة و من خلال الاعتماد على مراجع محددة (رقم الصفحات و أحيانا تقديم استشهادات) للإشارة لمختلف الآراء التي تعرضت اليها بالنقد و هي الطريقة التي تعودت عليها عند كتابة أي مقال للنشر عموما و كلما سنح الناشرون بذلك حتى في مقالاتي المنشورة في منابر صحفية (حيث لا يمكن القيام بذلك إلا بعد عناء في بعض الصحف و هذا أمر طبيعي)... و على سبيل المثال بالنسبة للرؤية أعلاه ("يحاجج تيار من أنصار الدولة العلمانية على غياب الدولة الدينية عبر التاريخ الإسلامي") فسأعرضها كما هي مع مراجعها فيما يلي
"يحاجج تيارٌ من أنصار "الدولة العلمانية" على غياب "الدولة الدينية" عبر التاريخ الإسلامي، مستخدمين منهجًا مقارنًا يرغب في أن يصوغ صورةً كونيةً متجانسة، ولاسيما في علاقة التجربة الإسلامية بالتجربة الغربية الأوروبية "اللادينية" على مستوى ممارسة الحكم. ويتم إعلانُ هذه النتائج بكثيرٍ من الثقة وقليلٍ من التقصِّي الجدّي للمعطيات التاريخية ــ ــ وهو ما يمكن إرجاعُه إلى خلفية كثير من أصحاب هذه الرؤية الوافدين على المنابر "الإصلاحية" من صفوفٍ "يسارية" لم يبقَ لها من الخيارات سوى التشبُّث برؤًى فوقية حتى في قراءاتها التراثية الطارئة والمتعجِّلة. وهذا ما يفسِّر عدمَ تجاوز أصحاب هذه الرؤية لقراءاتٍ غيرِ ناضجة، وشديدةِ الاختصار، مَرَّ عليها زمنٌ طويلٌ نسبيّاً، مثل مؤلَّف علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم (1925): فقد شدَّد عبد الرازق على مقولات عمومية، وأضاف إليها سردًا تاريخيّاً مختصرًا وساذجًا لا يمكن أن يَقْبله معظمُ المؤرِّخين المعاصرين، بما في ذلك دفاعُه عن أطروحة إنكار أيّة ممارسة للحكم في عصر النبوّة (ملاحظة رقم 1 في الهامش: من بين المقولات الإطلاقية والتعميمية لدى عبد الرازق أنّ "كلّ ما جاء به الإسلامُ من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات فإنما هو شرعٌ ديني خالصٌ لله تعالى ولمصلحة البشر الدينية لا غير،" وأنّ "الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما... وإنما تلك كلُّها خططٌ سياسيةٌ صرفة لا شأن للدين بها." علي عبد الرازق، الإسلام و أصول الحكم (القاهرة: 1966)، ص 171، و صص 95-105، و ص 201). والمثير للانتباه أنّ المحاولات المعاصرة التي تقتفي أثرَ عبد الرازق لكونه "مفكِّرًا كبيرًا،" وفي إطار رغبتها في تحقق تاريخٍ نقيّ في كونيته، تفترض مرورَ المسار المستقيم لانفصال الدولة عن الدين بمرحلةٍ يُشْرف فيها جهازُ الحكم على الممارسة الدينية، وذلك بإحداث "سلطةٍ" إسلامية مشابهةٍ للمؤسسة الكنسية تنمِّط الخطابَ الديني وتَسْمح بإيجاد سلطة حداثوية عليه من خلال قوة الدولة (ملاحظة رقم 2 في الهامش: من بين المحاولات الأحدث في تبنِّي موقف عبد الرازق، واتِّباعِ منهجيته المغرقة في العموميات وشبه المتجرِّدة من الإسهامات التاريخية، رؤيةُ التونسي محمد الشرفي، وهو رجلُ قانون مثل عبد الرازق. يحاول الشرفي أن يستبق الردودَ المتوقَّعةَ على اقتراحه إحداثَ "سلطةٍ رابعة" أو "مجلسٍ إسلامي أعلى" بالقول إنّ ذلك لا يمكن أن يكون مشابهًا للتجربة الكنسية بدعوى أنّ الإسلام يقتضي "علاقة مباشرة بين الله والمؤمن" ــ ــ وذلك صحيحٌ تمامًا، ولهذا لا يمكن إقامةُ "سلطة" دينية تحتكر حقَّ القول الديني في الإسلام. أنظر: محمد الشرفي، الإسلام والحرية، الالتباس التاريخي (الدار البيضاء: دار الفنك، 2000)، ص 157 ــ 165 وص 186 ــ 391.)"
من المفترض بالنسبة لمن يرغب في نقد علمي و جدي و ناضج لما كتبته أعلاه أن يدلل مثلا من خلال الرجوع الى هذه المؤلفات و الصفحات (و هي ليست مؤلفات لكتاب نكرة بل لأقطاب معروفين في الجدال القديم و المتجدد حول العلمانية) على أنها لا تعتمد في محاججتها على ضرورة العلمانية على "عدم وجود الدولة الدينية عبر التاريخ الاسلامي".... حيث أن نقدا مماصلا سيدخلنا ضمن مستوى عالي من النقاش... أما الرد على ذلك بأنها (أولا) رؤية "مختلقة" و "مصطنعة" من دون حتى عناء التثبت من المراجع التي قدمتها أو حتى الاشارة اليها، و (ثانيا) أن المقالات الأخرى في عدد الآداب لم تتعرض الى التاريخ و الى وجود "الدولة الدينية عبر التاريخ الاسلامي" (كأن هذه المقالات هي كل ما كتب في الموضوع منذ عشرات السنين و كأن تلك حجة مضادة في الوقت الذي أشرت فيه الى أني أتعرض الى "تيار" و قدمت أسماء معروفة منه أي عبد الرازق و الشرفي)... إذا الرد بهذه الطريقة يكشف عن رغبة في السجال و "المناطحة" للمناطحة عوض النقاش الهادئ و الناضج.
بعد ذلك و وقوفا في هذه الفقرة (التي أعتقد أنها كانت من الفقرات القليلة التي قرأها في المقال بسبب تركز معظم ملاحظاته حولها) يقول هذا المدون ما يلي
" من جهة أخرى سعى جاهدا لتأثيث هذا المقال التاريخي بأن فلان قال والآخر قال بغرض توزيع شهائد التحقير أو الاستحسان ونذكر من ذلك هذه الشهادة لعلي عبد الرازق "…مقولات عمومية" وأضاف إليها تجريدا تاريخيا مختصرا وساذجا "لا يمكن أن يقبل به معظم المؤرخين المعاصرين" فلقد أصبح الباحث الشاب ناطقا باسم المؤرخين المعاصرين. و ضم صوته لصوت محمد عمارة الذي نكـّل بعلي عبد الرزاق و وقفت جامعة الأزهر في 94 ضدّ إعادة نشر كتاب عبد الرازق صيانة للذوق العام و حمايته من السذاجة. ثمّ مباشرة يلحق الشرفي بعبد الرازق و هو "الذي اتبع نفس المنهجية المغرقة في العموميات …""
هنا حقيقة أشعر بالاحباط... و ذلك لسبب بسيط حيث أن هذا المدون الذي يرغب في نقاش ناضج لا يبدو أن له أي تمرس في قراءة (عدى كتابة) النصوص الأكاديمية بل يحقر من أساليب بديهية في الكتابة العلمية و هي أساليب الاستشهاد و الاعتماد على بيبلوغرافيا واسعة عند دراسة أية موضوع... حيث يصف وجود المراجع و الهوامش بأن ذلك "تأثيث هذا المقال التاريخي بأن فلان قال و الآخر قال بغرض توزيع شهائد التحقير أو الاستحسان "؟؟!!... هل يمكن لأي شخص يحترم نفسه أن يتجرأ على المبادرة لنقد مقال أكاديمي في الوقت الذي يتحلى فيه بهذا القدر من الفراغ المنهجي؟! و في الحقيقة حرصت على "تأثيث مقالي بأن فلان قال و الآخر قال" و ذلك لعدة أسباب لا تحتاج الشرح إلا لشخص على غير معرفة ببديهيات أكاديمية منها: أولا، أنا مجرد كاتب يكتب بعدما قام المئات غيري ببحوث متخصصة في هذا الموضوع فمن الطبيعي الاستشهاد بغيري عند الكتابة... تلك هي أحد شروط الكتابة العلمية: الاعتراف بالتراكم المعرفي و أنه لا يوجد في هذا العالم فلتات أو أنبياء معرفة معزولين عما سبقهم من الباحثين و الكتاب، ثانيا، أنا لا أوزع شهائد "الاحتقار" عندما أصف رؤية ما بالـ"عمومية" و "السذاجة" فتلك بالمناسبة مصطلحات مستعملة بل رائجة في النقد الأكاديمي و هي تصف أفكار تتصف من الناحية التاريخية بذلك و هو ما لا يجعلني "ناطقا" باسم أحد بل ببساطة أنقل نقطة عليها الاجماع أكاديميا و هو الأمر الذي يمكن لي التجرؤ على التعبير عنه بفعل اختصاصي: مثلا أي مقال موسوعي و مبسط في التاريخ الاسلامي المبكر (كما توصلت الى ذلك حالة الدراسات الراهنة) سيحاجج على وجود دولة في عصر الرسول (أنظر مثلا الموسوعة الرئيسية في هذا المجال "موسوعة الإسلام"-طبعة ليدن)... تلك ببساطة مسألة محسومة بين الأوساط الأكاديمية و هي بديهية بمكان أني لا أحتاج على تقديم أي مراجع حولها... لأن كل المراجع الأكاديمية المعاصرة متفقة تجاهها... و إذا كان هذا المدون يعترض على هذا الاطمئنان المعرفي و يرغب في نقضه أرجو، عوض ممارسة اللغظ و الاستعراض الكلامي الفارغ، أن ينكب على الدراسات الأكاديمية و يقدم لي أي جدال حول هذا الموضوع يؤكد عكس ما قلته.... ثم هل أن نقدي للآراء الشمولية و الاطلاقية و الساذجة علميا لعبد الرازق يعني ميكانيكيا "ضم صوتي لصوت محمد عمارة" و حملته من أجل عدم إعادة نشر كتاب عبد الرازق "صونا للذوق العام"؟! أليست هذه استنتاجات صبيانية تنم عن قلة نضج فادح؟! أتساءل حقا هل قام هذا المدون الذي يصدر نفسه لنقاش مسائل عويصة مثل العلمانية بقراءة حتى هذه المؤلفات المعروفة (مؤلف عبد الرازق و الشرفي)؟ و لن أسأل هنا هل قرأ أيا من الكتب و المقالات التي أشرت اليها في مقالي...
لأبقى في التاريخ و أشير هنا الى ما يقوله هذا المدون
"فجوهر مقال الباحث من تونس يتعرض من جهة لموقع الخليفة أو الأمير في الحكم الإسلامي ومدى تأثير الفقهاء أو رجال الدين عموما في تسيير شؤون البلاد الإسلامية وهي معلومات مدرسية مدرجة ببرامج التعليم الثانوي إلى حد هذا اليوم "
سأتجاوز هنا الأسلوب الاستعلائي و الذي للمفارقة يصدر من قبل شخص من الواضح أنه يملك فعلا معطيات مدرسية و ربما حتى أقل عن تاريخه... و ليس لدي تعليق طويل هنا... فقط ملاحظتين: هناك فعلا عدد من المعطيات التي تعرضت اليها هي فعلا "معلومات مدرسية مدرجة ببرامج التعليم الثانوي"... و بالمناسبة من بين هذه "المعلومات المدرسية" التي يشير اليها المدون هي وجود دولة في عصر الرسول (و هنا من الواضح أننا إزاء شخص لديه معلومات ما تحت مدرسية)... و لكن المسألة ليس في الاشارة اليها بل في وضعها ضمن سياق إشكال الدولة و الدين و تحديدا عدم القدرة على ممارسة الانتقاء تجاه هذه المعطيات... و هذه الاشكالية (أي علاقة الدين بالدولة في السياق التاريخي) لا يتم تدريسها (علي أن أقول للأسف) في برامج التعليم الثانوي و سأكون سعيدا لو تم القيام بذلك... من جهة ثانية توجد (أيضا للأسف) معلومات و الأهم من ذلك إشكاليات أخرى غير مدرجة في برامج التعليم الثانوي... منها مثلا تلك المنبثقة عن دراسات لمؤرخين معروفين (أشعر بالفخر أني تتلمذت على يدي عدد منهم) تعتبر علامات فارقة في الدراسات الأكاديمية: تطور مؤسسة المفتي (دراسة ريتشارد بولييت) و مسألة الفتنة و تنشأة الدولة الامبراطورية الأموية (كتاب جعيط عن الفتنة)، و علاقة فقيه السياسة بالأمير (دراسات باتريشيا كرون و مونتقومري وات في هذا المجال)... و يمكن للقارئ الجاد الرجوع الى غيرها في ثنايا المقال....
ثم يمضي للتعليق على موضوع آخر... نقدي للاستعمال الراهن لمنهج و رؤى الاقتصادي و عامل الاجتماع الألماني ماكس فيبير
"وفي موقع آخر يشن هجوما كاسحا عن القيبرية فيقول"تتم عادة تركيب شذرات الملاحظات الفيبرية حول الإسلام (القائلة بأن) بنيته الفقهية غير قادرة بعد على تقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان أو العقلانية السياسية " داحضا المقولة بقوله "في النهاية يبدو الاستنتاج ميكانيكا" فهو يعفي نفسه من البرهنة عن أي شي ويعتقد أنه بمجرد التصريح بأنه يدرس بأحسن الجامعات التي بها أحسن الأساتذة هي حجة لإقناع الآخرين. لنتصور للحظة أن مهندسا يستعمل حجة أنه كان من طلبة أنشتاين لإقناع محاوريه بصحة موقفه."
في الحقيقة أفضل تعليق على هذه الملاحظة هو إعادة وضع الفقرة التي وردت فيها هذه الملاحظة... و لأي قارئ جاد و ناضج و لا يتحلى بالصبيانية أن يرى إن كنت "أشن هجوما كاسحا على الفيبيرية" (لا أفهم استخدام مثل هذه العبارات الحربية) عند قولي "في النهاية يبدو الاستنتاج ميكانيكيا" تم من دون برهنة بل من خلال "التصريح بأني أدرس بأحسن الجامعات"
" غير أنّه يَغْلب على المدافعين عن هذه الرؤية، شأنَ الموقف المناقض أعلاه، دارسون يتجنّبون التركيزَ على المعطيات التاريخية مقابل الرغبة في صياغة صورة شمولية. ومن بين كتاباتهم نجد المساهمةَ الأكثرَ راديكاليةً والتي تعلن، على غرار النظرة "الأصولية،" ما تسمِّيه "استثناءً إسلاميّاً" (Islamic Exceptionalism) (ملاحظة رقم 4 في الهامش: يدافع عن موقف "الاستثناء الإسلامي" مفكِّرون من تيارات مختلفة، وفي ظرفيات سياسية محددة (نهاية الحرب الباردة، بعيْد احتلال العراق سنة 2003). غير أنّ ذلك يتم عادةً بالارتباط مع إشكالية علاقة الإسلام بالديموقراطية، وليس ضرورةً بمفاهيم "العلمنة." أنظرْ مثلاً:
Sanford Lakoff, "The Reality of Muslim Exceptionalism," Journal of Democracy, 15, 4, 2004, pp. 133-139.
ومن بين الأمثلة الأخيرة التي تم فيها تجريبُ نظرية "الاستثناء الإسلامي" على علاقة الدين بالدولة في الإسلام بشكل شامل ويدّعي فيها الكاتبُ أنّه يلامس المعطيات التاريخية، أنظر:
Hamadi Redissi, L’Exception Islamique (Paris: éd. Seuil, 2004).). وفي هذا الإطار تتم إعادةُ تركيب شذرات الملاحظات الفيبيرية حول الإسلام للاستدلال على أنّ بنيته الفقهية تضعه في منزلة بين الديانات الآسيوية والمسيحية: فالإسلام، بحسب ذلك، يحثّ على الكسب المالي والحياة المرفَّهة، ومن ثمة يمكن أن يتقبّل المنظومةَ الرأسمالية أو "العقلانيةَ الاقتصادية،" ولكنّ بنيته الفقهية غير قادرة بعد على تقبُّل الديموقراطية وحقوقِ الإنسان أو "العقلانيةِ السياسية." في النهاية يبدو الاستنتاجُ ميكانيكيّاً في هذه الحالة، إذ إنّ الهدف الوحيد الذي يمكن أن يتحقّق هو إقامةُ "دولٍ مستقرّة،" وهذا بدوره غيرُ ممكن من دون إقامة ميثاق اجتماعي يستبعد تحديدًا تدخُّلَ الدين (ملاحظة رقم 5 في الهامش: Jan-Erik Lane and Hamadi Redissi, Religion and Politics, Islam and Muslim Civilisation (Aldershot and Burlington: Ashgate, 2004), pp. 35-50, and pp. 145-155.
كما تم ترويجُ هذه الرؤية بشكلٍ أكثرَ شعبويةً لجمهور فرنسي يرغب في سماع كاتب عربي يعلن عناوينَ تعميميةً وإطلاقيةً من نوع "عدم تلاؤم الإسلام مع قيم الديموقراطية." أنظرْ:
Hamadi Redissi, “Une Inadéquation Entre l’Islam et les Valeurs de la Démocratie,” L’Express, Paris, 22 septembre 2005.)... على أنّ أطراف الجدال الراهن، أيّاً كانت اختلافاتُها، تبدو متموقعةً ضمن نسق عقائد "مقدّس" عند تقييم التجربة المسيحية الأوروبية بناءً على "نظرية العلمنة." (ملاحظة رقم 6 في الهامش: انتقدتْ دراساتٌ عديدة، وبخاصة على يد علماء اجتماع أنكلوسكسونيين، بنيةَ "نظرية العلمنة" في صياغتها الفيبيرية من خلال تأكيد طابعها العقائدي تحديدًا واتخاذِها جوهرًا مقدَّسًا ــ وهو المعنى الذي تمّ تكثيفُه في مقولة إنّ "فكرة العلمنة أصبحتْ مقدّسةً." أنظرْ تلخيصًا لتشكِّل "نظرية العلمنة" وتلك الرؤى النقدية في:
William Swatos and Kevin Christiano, "Secularization Theory: The Course of a Concept," Sociology of Religion, 60, Autumn, 1999, pp. 209-228.) ومن الواضح أنّ النظام الفكري الفيبيري هو من أكثر الرؤى الشمولية التي تحتضن المقارباتِ الراهنةَ في هذا السياق، ولكنْ لم يعد مفهومًا استمرارُ البعض في التعامل معه ككتلة منهجية لا تحتاج مصادراتُها التاريخيةُ إلى المراجعة النقدية؛ فقد تعرّضت الروايةُ الفيبيرية لتاريخ البروتستانتية إلى محاكمات صارمة من قِبل المؤرِّخين، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن جدواها عند استقراء التجربة الإسلامية التي كانت أصلاً على هامش اهتمامات فيبير (ملاحظة رقم 7 في الهامش: تبقى دراسةُ المؤرِّخ الاقتصادي السويدي كورت صامويلصون، التي أنجزها سنةَ 1957، هي العمل النقدي الرئيس للسرد التاريخي المضمَّن في النظام الفيبيري والذي يقترح تحديدًا ولادةَ البروتستانية للرأسمالية. هنا ينتقد صامويلصون "الانتقائيةَ" التاريخيةَ لفيبير، ويقدّم صورةً أكثرَ انضباطًا للمعطيات التاريخية بحيث تصبح البروتستانيةُ بطهريتها البالغة طاردةً للرأسمالية. كما يَعْرض ما يكفي من المعطيات المشيرة إلى أسبقية الأخيرة تاريخيّاً على الظاهرة البروتستانية الإصلاحية، مقابلَ تضمُّن استعدادات احتضان الرأسمالية في المسيحية "المعاكسة للإصلاح" خاصةً الكاثولوكية الفرنسية. أنظر:
Kurt Samuelsson, Religion and Economic Action: The Protestant Ethic, the Rise of Capitalism, and the Abuses of Scholarship (Toronto: University of Toronto Press, 1993), pp. 32-59.)"
المصيبة هنا في عدة مستويات كلها تكشف عن مغالطة عند نقل ما كتبته و جهل (الحقيقة لا أملك أي تعبير أكثر لباقة) فادح من قبل هذا المدون في علاقة بمراجع و رؤى فكرية مختلفة لها علاقة بالفقرة أعلاه و التي على الرغم من ذلك يقوم هذا بتصدر نقدها من موقع استعلائي مفرغ من أي قدرة معرفية على المحاججة:
أولا، لم أقل في أي موقع في مقالي الجملة التالية التي تم وضعها بين ظفرين" الملاحظات الفيبرية حول الإسلام (القائلة بأن) بنيته الفقهية غير قادرة بعد على تقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان أو العقلانية السياسية "... و في الواقع مثلما كنت أشرت و مثلما يعرف أتباع المنهج الفيبيري أن ذلك غير ممكن ببساطة لأن فيبير لم يقل ("القائلة بأن" يضيف هذا المدون عند الاستشهاد بما أقول) لم يتوصل الى هذا المستوى التعميمي من الاستنتاجات حيث كان أكثر حذرا من الوقوع في مسلمات ساذجة من هذا النوع. و هذا طبيعي تحديدا لأنه، مثلما هو واضح من الفقرة الأصلية التي كتبتها (و ليس التي أعاد كتابتها أو اختلقها باسمي هذا المدون) فإن فيبير لم يقم بدراسة خاصة عن الاسلام... بل كانت ملاحظاته متناثرة و غير متناسقة حول هذا الموضوع.
ثانيا، الذي قام بـ"الاستنتاج الميكانيكي" ليس فيبير بل من يعتبرون أنفسهم أتباع منهجه التحليلي (و ذكرت هنا المراجع مع الصفحات التي تشير الى هذه الرؤية)... و سميته "استنتاجا ميكانيكيا" تحديدا لأنه يعتمد على تقديرات انطباعية عابرة لفيبير تم إيصالها من قبل هؤلاء الى مستوى الحقائق المسلم بها و بنوا عليها استنتاجا عاما... هذا طبعا عوض قيام هؤلاء بمجهود مماثل للمجهود الفيبيري عندما قام بدراسته الشهيرة للبروتستاتتية في سياقها التاريخي
ثالثا، الرؤية المنهجية الفيبيرية تتجسم بالتحديد على مستوى ما أصبح يعرف الآن بـ"نظرية العلمنة" و هي مبنية على رؤية استقرائية لتاريخ البروتستانتية مفادها تضمن المسيحية ذاتها على ما كان مدخلا لولادة العلمانية... و هنا لم أقم بهجوم "كاسح" انفرادي مبني على "التصريح بأني أدرس بأحسن الجامعات" (لا أدري أين يمكن لأي قارئ أن يرى ذلك إلا إذا كان يعاني من عقدة نقص على المستوى الأكاديمي تؤدي به للخروج عن النص و الانغماس في تخيلات مماثلة)... بل قمت ببساطة بالاعتماد على رؤى اقتنعت بصوابها و هي دراسات باحثين متخصصين في نقاش الرؤى الفيبيرية سواء من ناحية تاريخ البروتستانتية أو من حيث الاسس المنهجية لنظرية العلمنة ذاتها... و من يريد نقد هذا المتن النقدي عليه أن يقرأ قبلا هذه الدراسات و يقدم ما يجعله غير موافق عليها.. و ليس الالتجاء الى ملاحظات سطحية من النوع الذي كتبه هذا المدون
يمر الأخير الى نقد خلاصة المقال... فيقول
"سيتذكـّر الباحث الشاب أنه بصدد الكتابة عن العلمانية في السطور الأخيرة وفي ما أطلق عليها أنها خلاصة لترديد الفكرة الشائعة لدى رجال الدين وكل خصوم العلمانية بدءا من السيد قطب إلى القرضاوي بالقول بأن العلمانيين يريدون استنساخ التجربة الأوربية المسيحية.ولابد من إضافة مسيحية لتكون وطأة العلمانية أشد على المسلمين والمتأسلمين. فهؤلاء منزعجون من استنساخ التجربة الديمقراطية لكنهم لا ينزعجون من استنساخ الحروب الدينية التي مرت بها أوربا.فكل شئ مقبول من الغرب وهو مصدر اعتزاز للباحث (بكونه بأحسن جامعات ويدرسه أشهر الاساتذة ا)فقط علمانيتها مرفوضة.كل شئ يقع استنسخه من برامج تعليم من طرقات من شكل المساكن ونمط العيش وشكل السيارة ولايتذكرون المسيح المقيت .يتذكرونه فقط حين يقع الحديث عن أسلوب الحكم"
أولا، عندما يقول هذا المدون بأني تذكرت أني "بصدد الكتابة عن العلمانية في السطور الأخيرة"، فإن ذلك يعني أنه إما لم يقرأه أو أنه يقوم عمدا بالمغالطة: حيث أن جزءا هاما منه (أربع صفحات على عشر صفحات من الصفحة 15 الى 18) مخصص للحديث عن الجدال حول العلمانية في سياقها الغربي فحسب تاريخيا و في الواقع الراهن و بالاعتماد على آخر و أهم الدراسات في هذا المضمار.... هذا عدى أن موضوع المقال هو اشكالية علاقة الدين بالدولة بشكل عام قبل و بعد العلمانية
ثانيا، إن وصف التجربة التاريخية الغربية بأنها "أوروبية-مسيحية" ليس وصفا مستجدا من قبل "رجال الدين" بما في ذلك سيد قطب و القرضاوي. هذه ملاحظة تنم مرة أخرى عن جهل فادح بالدراسات الأكاديمية التاريخية خاصة تلك التي تتعامل مع موضوع علاقة الدين بالدولة من زاوية تاريخية و تصدر مرة أخرى بشكل استعلائي لا يليق إلا بمن يحهل فعلا مسائل ليست من اختصاصه.... فمصطلح "الاورو-مسيحية" مصطلح رائج بين مؤرخي الفترتين الوسيطة و الحديثة (حتى القرن 17) الأوروبية و لا يعكس رؤية تديينية مسقطة بل يعكس حقبة تاريخية كان فيها الدين المسيحي أهم الفاعلين السياسيين و الثقافيين.... و بهذا المعنى يعكس كتلة تاريخية تتميز ببعض التجانس الثقافي و حتى السياسي في مواجهة كتل أخرى في المتوسط منها "الاسلامية" و منها "آسيوية-مسيحية" أو غير مسيحية... الخ... و بالمناسبة هذه المصطلحات رائجة طبعا بين مؤرخين أوروبيين في أهم المنابر الأكاديمية في هذه الاختصاصات و أعتقد أن معظمهم ليس على علم حتى بوجود شخوص سيد قطب و القرضاوي
ثالثا، مرة أخرى يحشرني هذا المدون حيث هو يريد و ليس حيث أنا كما يعكس ذلك نصي: أين تحديدا أرفض العلمانية هكذا بإطلاق (طبعا مقابل قبول السيارة؟!!!)؟.. سأعيد هنا وضع هذه الخلاصة لمن يريد أن يقرأ النص الذي أمامه و ليس النص الجاهز الذي في رأسه
"إنّ المعطى الأساسي الذي تحيل عليه المؤشّراتُ التاريخيةُ أعلاه هو أننا إزاء صورة معقّدة تتجاوز الخطابَ التبسيطي السائد. فمن جهة أولى لا يمكن التغافلُ عن المؤشّرات القوية على وجود دولة "إسلامية" أو "دينية" عبر تجربة المسلمين التاريخية في الحكم. وهذا يعني تحديدًا أنّنا بصدد دولة تتبنّى وتحتكر التحكُّمَ في نفوذ مجموعات دينية ذات مرجعية إسلامية يمكن أن تتعدّد مذهبيّاً حسب الحاجة وحسب ميول الحاكم. غير أنّه من الواضح أيضًا أنّه لا يوجد توقُّعٌ بدهي من قِبل أيّ طرف كان بأنْ يتلقّى الحاكُم توجيهًا دينيّاً عند إدارة شؤون الحكم. ولهذا كان من النادر أن نعثر على أمراء يهتمون بشكل خاصّ بالمعرفة الفقهية، أو يستوزرون وزراءهم على أساسِ خلفيةٍ فقهيةٍ مميزة. وهذا لا يبدو مجرد مصادفةٍ أو تعبير عن نوع من "الفسوق" المستحكم في هؤلاء الحكّام، بل كان هناك على الأرجح نوع من الإجماع غير المعلن على خصوصية حاجات الدولة والتي كانت تقتضي سياسةً تستأنس ولكنها لا تهتدي بالسلطة الشرعية في الشؤون المدنية.
وهكذا، كانت الظرفية السياسية هي المحدِّدَ تاريخيّاً لتوازناتٍ شبهِ عفوية مماثلة، وهي كذلك المحدِّدة لطبيعة النقاش والجدال المرافق لذلك. ومن الطبيعي أن ينطبق ذلك على الوضع الراهن أيضًا: فالأطراف المهيمنة على النقاش في العالم الإسلامي هي بصدد التفاعل مع تجاذبات سياسية أكثرَ ممّا هي بصدد التفاعل مع بناءات تجريدية. وليس من الصعب الاستنتاج أنّ الظرفية السياسية الراهنة تجعل الأطرافَ السياسيةَ التي تتبنى المرجعية الإسلامية ذاتَ جاذبيةٍ انتخابية. وفي الواقع لا تبدو الحميّةُ العاليةُ لنخب "يسارية" سابقة، أضحت قضيتُها المركزية بشكلٍ فجائي "علمنةَ الدولة" بعد عشريات من الكفاح من أجل "دكتاتورية البروليتاريا،" مجردَ استجابةٍ لوازع الدفاع عن التحديث بالطريقة التي تراه فيها، ولكنّها أيضًا دفاعٌ عن وجودٍ سياسي بات مهدَّدًا.
وعليه، فإنّ تجنُّبَ غَالبية النقاش المعاصر لأسلوب الاستقراء التاريخاني، والتركيزَ على نقاش المصدر الشرعي بمعزل عن ظرفيته، وتبنّي أنظمةٍ فكريةٍ شمولية... كلُّها عناصرُ معطِّلة. وبالتأكيد لن تساهم في نجاح النقاش إجاباتٌ مسبّقةٌ ترى الخلاصَ في استنساخ تجربة أوروبية ــ مسيحية تحتاج بدورها إلى التأمل النقدي، أو لا ترى أيَّ إمكانٍ لتقاطع التجربتين"
و مثلما ذكرت في بداية المقال فإن التناقض بين "العلمانيين" في المجال العربي و "الاسلاميين" خاصة الراديكاليين منهم ليس تناقضا على مستوى المنهج بل في النتائج. منهجيا الجميع ينطلق من استنتاجات جاهزة يؤمنون في اطلاقية حلولها ثم يبحث بعد ذلك عن دلائل عليها... و هذا تحديدا كنه "الرؤية الشمولية"... غير أني أحاجج هنا بأن هناك طريقا ثالثا يسعى للتعلم مما مضى لتقديم إجابات نسبية و لكن أكثر نجاعة و واقعية
ربما يقول البعض أني أضيع وقتي بالرد على هذا المدون خاصة عند ملاحظة تعلقه النادر بمحتوى النص و تعمده المغالطة في نقل الأفكار و الواردة فيه و الاستعلاء دون القدرة على المحاججة المعرفية.... و لكن هذا هو مستوى النقاش المتاح في هذه اللحظة و بمعنى آخر لا يمكن خلق محاججين بل يجب التعامل مع المتاح منهم.. و سأكون بالتأكيد شاكرا لمن يقوم بالاسهام لرفعه درجات أخرى...
و هنا أختم بملاحظات حول تعليق ورد في آخر تدوينة "ماهيفا" باسم "بشير" (أنظر التعليق الخامس هنا)... و أريد أن أوجه لهذا المعلق دعوة لافتتاح مدونة خاصة به نظرا للمستوى المنضبط و العالي في كتابته... و بمزل عن أنه يوافق على ما كتبته فإني أعتبر أسلوب رده على الأسئلة التي طرحتها "ماهيفا" أكثر جلبا للاهتمام مما ورد في التدوينة التي علقت عليها أعلاه