حول إمكان الديمقراطية... و حرية التعبير
طارق الكحلاوي
و أن الإنسان الأقهر لكل ما يناويه هو الأسعد... وأنه لا ينبغي أن يكون موازره مساويا له، بل مقهورا؛ مثل أن يكون أقواهم بدنا وسلاحا يقهر واحدا، حتى صار ذلك مقهورا له قهر به واحدا آخر أو نفرا، ثم يقهر بأولئك آخرين، حتى يجمع له موازرين على الترتيب. فإذا اجتمعوا له صيرهم آلات يستعملهم فيما فيه هواه... فاستعباد القاهر للمقهور هو أيضا من العدل. وأن يفعل المقهور ما هو الأنفع للقاهر هو أيضا عدل. فهذه كلها هو العدل الطبيعي، وهي الفضيلة
أبو نصر الفارابي عن "آراء المدينة الجاهلة". مقتطف من كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها" كتبه قبل منتصف القرن العاشر ميلادي
لا يعني التساؤل في إمكان الديمقراطية و بقية لازماتها بما في ذلك "حرية التعبير" التشكيك في حاجتنا لها. لكن من المؤكد أن التغافل عن طرح أسئلة موجعة من هذا النوع لن يساهم في تحقق الديمقراطية. أكثر من ذلك، لا يبدو أننا سنسدي خدمة حقيقية لمسار الدمقرطة في حالة ما إذا تهربنا من التفكير فيه. و هذا يعني تحديدا طرح أسئلة لا تقبل أجوبة قيمية أو إرادوية تخوض فيما نرغب فيه أكثر مما تخوض فيما هو ممكن. بمعنى آخر بمعزل عن رغبتنا في الديمقراطية فإنه لا يوجد ما يضمن أنها ستتحقق في هذا الجيل و حتى الأجيال التي تليه. حيث هناك عوامل أكبر من نوايا بعض "الديمقراطيين" و القيمة الإنسانية للديمقراطية حتى يمكن لها أن تتحقق. و في جميع الأحوال علينا أن نتذكر أن الشكل الحديث للديمقراطية هو تجربة محدودة للغاية زمنيا عند ملاحظة الحالة شبه الأزلية للمجتمع ما قبل الديمقراطي. و لذلك فهي تجربة هشة و بالرغم كل الضمانات "الجدلية" التي قدمتها الهيجلية بشكل متواتر و خاضة ضمانة "نهاية التاريخ" عند الليبرالية إلا أنه ليس هناك فعلا ما يضمن الرجوع الى الوراء. خاصة بعدما فهمنا أن الليبرالية الاقتصادية لا تحمل معها حتما لازمتها السياسية.
إجتماع القاهر و المقهور
تبدو الرؤى الجوهرانية (أي الرؤى التي تمنح جوهرا ثابتا لظاهرة محددة) فاشلة لأنها لا تستطيع تحمل الديناميكية التاريخية. و بمعنى تبسيطي لا يمكن مثلا للرؤية الجوهرانية التي سادت في حالات الاحتلال العسكري المباشر و التي صورت "العربي" ككسول جاهل لا يقوى على حكم نفسه بأي حال أن تتحمل الديناميكية التاريخية التي حملت الشعوب المستعمرة في منطقتنا نحو مرفأ الإستقلالات (بمعزل عما إذا كان مآل الاستقلالات هذه مثمرا للجميع أم لا).
و لكن بالرغم من الحدود البديهية للرؤى الجوهرانية فإنها ليست مستحيلة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بنى تاريخية "قصيرة" و هي بنى زمنية تستوعب أجيالا كاملة تبدو معطلة و خارج التاريخ. من بين الرؤى الجوهرانية التي تهمني هنا هي الرؤية التي ترى عدم قابلية شعب أو مجال جيوسياسي محدد لتحقيق الديمقراطية بما تعنيه من مؤسسات قيمية بما في ذلك حرية التعبير. و في الوهلة الأولى تبدو هذه الرؤية ليس فقط جوهرانية و من ثمة غير واقعية من الزاوية التاريخية بل أيضا شديدة القسوة و محبطة للآمال و حتى عنصرية. غير أنه من البلادة القفز لمثل هذه الاستنتاجات من دون الاعتراف أولا بأن "عدم القابلية للديمقراطية" هي أمر حقيقي و طبيعي طالما لم تتوفر ما يكفي من الأسباب حتى تتحقق. و هكذا هناك إمكان لأن يكون "جوهر ظاهرة ما ثابتا" حالما لم تتوفر العوامل الكافية لأن تعصف به الديناميكية التاريخية. فالأخيرة ليست أمرا إعتباطيا بقدر ما هي مشروطة و تتوقف ليس على فعل مانع الديمقراطية بل الأهم من ذلك على إستعداد المعني بتحققها. بمعنى آخر عدم تحقق الديمقراطية لا ينشأ عن عامل القهر غير الديمقراطي فحسب بل بالأساس عن عامل عدم إستعداد المقهور للتضحية بما هو عليه لكي يقتحم عالم غيرالمقهورين.
يتيح لنا ذلك أن نقارب موضوع إستدامة القهر زمنيا من جهة مختلفة عن الجهة الروتينية التي تضعنا أمام صراع (وهمي أحيانا كثيرة) بين القاهر و مقهوريه. حيث تبدو استدامة القهر ممكنة بالأساس و بالرغم من التضاد المصلحي بين القاهر و المقهور بفضل توفر بنية مشتركة بينهما، أساس واحد يجمع فيه الطرفين على "عدالة" و "وجاهة" إستدامة حالة القهر. يمكن إختزال هذه الظاهرة في "إجتماع القاهر و المقهور". و بالرغم من أن ذلك يبدو في غاية الغرابة و باعثا على الاحباط إلا أنه يمثل ظاهرة قديمة، ربما قدم الاجتماع البشري. و في الحقيقة لن نحتاج لاكتشافات منهجية حديثة حتى نتوغل في هذا الموضوع الشائك. سأقتطف هنا فقرات من أحد كتب أبو نصر الفارابي (توفي 339 هحري / 950 ميلادي) أعتقد أنها مازالت ذات جدوى حتى اليوم.
كتب الفارابي كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها" كواحد من تعليقاته المتواصلة على المقاربات النيو أفلاطونية التي إعترضته عبر احتكاكه مع ما تبقى من مدرسة الاسكندرية في الفلسفة اليونانية. و طرح الفارابي رؤيته بناءا على مبدأ جوهراني لمرحلة ما قبل المجتمع الديمقراطي (أو "الحديث") حيث "العدوان" مبدأ يتفوق على بقية "الخصائص الطبيعية" للشخصية البشرية و من ثمة تصبح آليات إقامة التوازن بين المعتدي و المعتدى عليه هي الصيغ الوحيدة الممكنة للتعايش الاجتماعي. و ضمن هذا التصور، الذي تمت إعادة إحيائه في المنظومة الخلدونية فيما بعد،[1] تمت مناقشة "مضادات المدينة الفاضلة" المتركزة في مفهوم جامع هو "المدينة الجاهلة". سأتوقف هنا تحديدا عند أحد وجوه الأخيرة وهي "مدينة التغلب" (و "المدينة الفاسقة" و"المدينة الضالة"من الوجوه الأخرى للـ "المدينة الجاهلة"). هنا تبدو كلمات اافارابي خارقة للعصور و مكتنزة لمعنى شديد الثبات و هو التعاون بين القاهر و المقهور لإعادة تشكيل معاني "العدل" و "الطبيعة" و "السعادة". أعرض هنا مقتطفات من كلام الفارابي و سأترك التعليق عليها لوقت آخر[2]:
-"فالأقهر منها لما سواه يكون أتم وجودا. والغالب أبدا إما أن يبطل بعضه بعضا، لأنه في طباعه أن وجود ذلك الشيء نقص ومضرة في وجوده هو، وإما أن يستخدم بعضا ويستعبده، لأنه يرى في ذلك الشيء أن وجوده لأجله هو.ويرى أشياء تجري على غير نظام، ويرى مراتب الموجودات غير محفوظة، ويرى أمورا تلحق كل واحد على غير استئصال منه لما يلحقه من وجوده لا وجود "لنفسها" قالوا: وهذا وشبهه هو الذي يظهر في الموجودات التي نشاهدها ونعرفها. فقال قوم بعد ذلك إن هذه الحال طبيعة الموجودات، وهذه فطرتها، والتي تفعلها الأجسام الطبيعية بطبائعها هي التي ينبغي أن تفعلها الحيوانات المختارة باختياراتها واراداتها، والمروية برويتها. ولذلك رأوا أن المدن ينبغي أن تكون متغالبة متهارجة، لا مراتب فيها ولا نظام، ولا استئهال يختص به أحد لكرامة أو لشيء آخر؛ وأن يكون كل إنسان متوحدا بكل خير هو له أن يلتمس أن يغالب غيره في كل خير هو لغيره، وأن الإنسان الأقهر لكل ما يناويه هو الأسعد"
-"ثم تحدث من هذه آراء كثيرة في المدن من آراء الجاهلية: فقوم رأوا ذلك أنه لاتحاب ولا ارتباط، لا بالطبع ولا بالإرادة، وأنه ينبغي أن يبغض كل انسان كل انسان، وأن ينافر كل واحد كل واحد، ولا يرتبط اثنان إلا عند الضرورة، ولا يأتلفان إلا عند الحاجة، ثم يكون بعد اجتماعهما على ما يجتمعان عليه بأن يكون أحدهما القاهر والآخر مقهورا، وان اضطر لأجل شيء وارد من خارج أن يجتمعا ويأتلفان فينبغي أن يكون ذلك ريث الحاجة، وما دام الوارد من خارج يضطرهما إلى ذلك؛ فإذا زال فينبغي أن يتنافرا ويفترقا. وهذا هو الداء السبعي من آراء الإنسانية.وآخرون لما رأوا أن المتوحد لا يمكنه أن يقوم بكل ما به إليه حاجة دون أن يكون له موازرون ومعاونون، يقوم له كل واحد بشيء مما يحتاج إليه، رأوا الإجتماع فقوم رأوا أن ذلك ينبغي أن يكون بالقهر، بأن يكون الذي يحتاج إلى موازرين يقهر قوما، فيستعبدهم، ثم يقهر بهم آخرين فيستعبدهم أيضا. وأنه لا ينبغي أن يكون موازره مساويا له، بل مقهورا؛ مثل أن يكون أقواهم بدنا وسلاحا يقهر واحدا، حتى صار ذلك مقهورا له قهر به واحدا آخر أو نفرا، ثم يقهر بأولئك آخرين، حتى يجمع له موازرين على الترتيب. فإذا اجتمعوا له صيرهم آلات يستعملهم فيما فيه هواه"
-"قالوا: فإذا تميزت الطوائف بعضها عن بعض بأحد هذه الارتباطات، إما قبيلة عن قبيلة، أو مدينة عن مدينة، أو أحلاف عن أحلاف، أو أمة عن أمة، كانوا مثل تميز كل واحد عن كل واحد؛ فإنه لا فرق بين أن يتميز كل واحد عن كل واحد أو يتميز طائفة عن طائفة؛ فينبغي بعد ذلك أن يتغالبوا ويتهارجوا. والأشياء التي يكون عليها التغالب هي السلامة والكرامة واليسار واللذات وكل ما يوصل به إلى هذه. وينبغي أن يروم كل طائفة أن تسلب جميع ما للأخرى من ذلك، وتجعل ذلك لنفسها، ويكون كل واحد من كل واحد بهذه الحال. وتجعل ذلك لنفسها ويكون كل واحد من كل واحد بهذه الحال. فالقاهرة منها للأخرى على هذه هي الفائزة، وهي المغبوطة، وهي السعيدة. وهذه الأشياء هي التي في الطبع، إما في طبع كل إنسان أو في طبع كل طائفة، وهي تابعة لما عليه طبائع الموجودات الطبيعية. فما في الطبع هو العدل. فالعدل إذا التغالب. والعدل هو أن يقهر ما اتفق منها. والمقهور إما أن يقهر على سلامة بدنه، أو هلك وتلف، وانفرد القاهر بالوجود؛ أو قهر على كرامته وبقي ذليلا ومستعبدا، تستعبده الطائفة القاهرة ويفعل ما هو الأنفع للقاهر في أن ينال به الخير الذي عليه غالب ويستديم به. فاستعباد القاهر للمقهور هو أيضا من العدل. وأن يفعل المقهور ما هو الأنفع للقاهر هو أيضا عدل. فهذه كلها هو العدل الطبيعي، وهي الفضيلة. وهذه الأفعال هي الأفعال الفاضلة فإذا حصلت الخيرات للطائفة القاهرة فينبغي أن يعطى من هو أعظم غناءا في الغلبة على تلك الخيرات من تلك الخيرات أكثر، والأقل غناء فيها أقل. وإن كانت الخيرات التي غلبوا عليها كرامة، أعطي الأعظم غناءً فيه كرامة أكبر، وإن كانت أموالا أعطي أكثر. وكذلك في سائرها. فهذا هو أيضا عدل عندهم طبيعي"
صناعة الديمقراطية
ربما يبدو من المفاجئ أن نعتبر أن المجتمعات ما قبل الديمقراطية محظوظة في نهاية الأمر. لكن ذلك أمر مفهوم إذا ما لاحظنا أنها ستحضى بفرصة مراجعة تجارب البناء الديمقراطي حتى لا تضيع الكثير من الوقت في ممارسات سوريالية. غير أن ذلك ليس أمرا مضمونا خاصة إذا كانت مجموعات الحركيين و الناشطين من أجل الديمقراطية غير عابئين بالتفكير في التجارب التاريخية لتشكل الديمقراطية بقدر ماهم مهتمين بإصدار البيانات و قراءتها من على المنابر الفضائية. من حسن الحظ هناك الكثير من الدراسات الأكاديمية التي اعتنت بشكل معمق بتقييم تاريخ تشكل الديمقراطية في مختلف الظرفيات الجغرافية و السياسية.
من بين المسائل الأكثر إثارة للإهتمام هو أنه من الصعب التمييز أحيانا في نظام سياسي محدد بين طابعه الإستبدادي و طابعه الأبوي الإجتماعي الذي يعني في نهاية التحليل حدا أدنى من الديمقراطية (الاجتماعية). تبدو مثل هذه الظواهر التاريخية تحديا حقيقيا للتصورات الثنائية الحدية من نوع "إما أبيض و إما أسود". و تبرز في هذا الإطار خلاصات مجموعة من الدراسات قام بها عدد من أساتذة التاريخ المعاصر و العلوم السياسية في الولايات المتحدة و صدرت تحت عنوان "البناء الإجتماعي للديمقراطية بين سنتي 1870 و 1990".[3] و من بين الأمثلة التي تسترعي الإنتباه النموذج المكسيكي حيث قامت دولة الحزب الواحد بإقحام النقابة العمالية الرئيسية بين الحربين في تسيير شؤون الدولة أو في أقل الأحوال تركها تلعب دورا سياسيا تعديليا ملاصقا لدور "الحزب المؤسسي الثوري" الذي واصل حكم البلاد لما يفوق السبعين عاما. و هكذا بعكس أمثلة أخرى في أمريكا اللاتينية، مثل الشيلي أو الأرجنتين حيث سادت في فترات متقطعة دكتاتوريات عسكرية مكشوفة، كان الوضع في المكسيك شديد الضبابية و هو ما عرقل تطور حياة سياسية حقيقية بعيدا عن الحزب الحاكم و النقابات العمالية و من ثمة كان الإنتقال نحو الديمقراطية الحديثة بطيئا و معقدا. إذ إستلزم الامر في النهاية إنقسام الحزب الحاكم على نفسه لكي تبرز قوى سياسية أخرى كانت دوما على الهامش الإجتماعي لينتهي إحتكار الحزب الواحد للسلطة في الانتخابات الرئاسية لسنة 2000. و إذا راجعنا كلام الفارابي المشار إليه أعلاه في هذا الإطار فإن "إجتماع القاهر و المقهور" يصبح على أسس من بينها ضمان حد أدنى من الرعاية الإجتماعية و هو ما يسمح بتوافق الطرفين على استدامة القهر السياسي و بعض جوانب القهر الاجتماعي. و لهذا تحديدا فإنه بتآكل هذه الرعاية و الإنحسار السريع للطبقة الوسطى المكسيكية التي كانت تقف عادة الى جانب النقابات العمالية، و هي الأمور التي حصلت بين ثمانينات و تسعينات القرن الماضي، أصبح التوافق المسوغ لحالة القهر و بالتالي قاعدة النظام السياسي المكسيكي مستحيلين. و هكذا من البديهي أنه بالرغم من نضالات الحركيين الديمقراطيين المكسيكيين طوال سبعين عاما كان من الضروري في النهاية توفر مثل هذه الظروف الموضوعية لكي يتحقق مسار الدمقرطة السياسية.
و لا تبدو التجربة المكسيكية الوحيدة التي تشير إلى هذا الأساس الإقتصادي-الإجتماعي لنظام القهر السياسي. إذ هناك تجارب أكثر نجاحا و أكثر إستدامة تؤكد بدورها ظاهرة أخرى و هي أن نجاح الليبرالية الإقتصادية لا يجلب معه بشكل آلي الليبرالية السياسية. و قد تم التعرض بالتفصيل لمسألة الشرط الإقتصادي-الإجتماعي لتشكل الديمقراطية في مؤلف آخر حضي بأهمية بالغة عند صدوره العام الفائت، إذ يواصل التدقيق في الإشكاليات التي طرحتها الدراسة المشار إليها أعلاه، و هو بعنوان "الجذور الاقتصادية للدكتاتورية و الديمقراطية".[4] و هنا يقدم المؤلفان، آجم أوغلو و روبينسون، أربع نماذج في التاريخ السياسي المعاصر في محاول لحصر جذور الدكتاتورية و الديمقراطية. النموذج الأول البريطاني و يمثل الانتقال من حالة غير ديمقراطية إلى أخرى ديمقراطية بشكل بطيئ و لكن مؤكد. النموذج الثاني الأرجنتيني و يمثل الانتقال إلى الديمقراطية و لكن في مسار شديد التعثر شهد حالات من الارتداد نحو حكومات عسكرية إستبدادية. النموذج الثالث السنغفوري حيث لم يحصل إنتقال نحو الديمقراطية. أخيرا النموذج الرابع هو الجنوب الإفريقي أين الانتقال نحو الديمقراطية شهد مقاومة شديدة و تأجيلا مطولا. ساقتصر هنا على النماذج الثلاثة الأولى بفعل أن النموذج الأخير غير متكرر بكثرة.
في حالة النموذج الأول كان الإنتقال الى الديمقراطية بطيئا جدا و مشروطا بالتحولات الاقتصادية و الاجتماعية و بتأثير الضغط المتواصل لإنتفاضات إجتماعية. فثورة 1688 و التي أدت لفرض "الدور البرلماني" في بريطانيا لم تحسم أي شيئ حتى على المستوى القانوني النظري في علاقة بدور "المشاركة الشعبية" و كان ذلك متناسبا مع استمرار الدور الاجتماعي القوي لطبقة اللوردات. و كان على بريطانيا أن تنتظر مرحلة التصنيع السريع و النمو الكبير للطبقة العاملة و النقابات حتى تقر إصلاحات سنة 1833 و التي سمحت بحق الإقتراع لـ 14% من السكان الذكور و ذلك في إطار تجنب أي انتفاضات إجتماعية خاصة مع حدوث الكثير من القلاقل منذ سنة 1830. غير أن ذلك لم يكن سوى بداية طريق طويلة من الاصلاحات الجزئية في جو من الفساد السياسي و التزوير و هو ما أدى إلى إصلاحات مستمرة تحت التهديد المتواصل لانتفاضات شعبية خاصة بين سنتي 1860 و 1867. ثم تصل هذه الاصلاحات، أخيرا، سنة 1918 بفعل دور الطبقات الفقيرة في الحرب العالمية الأولى و خوفا من التأثير المتعاظم للثورة البلشفية للإقرار القانوني بحق التصويت لجميع الذكور (تم إلحاق الإناث ضمن هذا الحق سنة 1928). حينها فقط أصبح للطبقات الفقيرة ممثل سياسي، "حزب العمال"، و الذي اختار المشاركة في النظام السياسي عوض الانخراط في النهج الثوري الذي طرحته الحركة الشيوعية العالمية. و كان ذلك شرطا رئيسيا سمح بتحقيق التداول على السلطة و خلق أجواء ديمقراطية و مستقرة في نفس الوقت.
في حالة النموذج الثاني (الأرجنتيني) فإن إقرار حق التصويت للجميع في دستور سنة 1853 لم يؤدي إلى خلق أجواء ديمقراطية حقيقية حيث حكم حزب واحد يمثل القوى الاجتماعية المحافظة، "الحزب الذاتي الوطني"، بفضل عمليات انتخابية مزورة و روتينية و بمشاركة ضئيلة منذ ذلك الوقت حتى سنة 1910. و قد صمد النظام السياسي الأرجنتيني القهري بالرغم من القلاقل الاجتماعية، الناتجة عن مأزق النظام الاقتصادي القائم على التصدير الفلاحي، و وهو ما أدى الى اندلاع ثورة مسلحة بقيادة "الاتحاد المدني الراديكالي" سنة 1890. و استمر هذا الصدام العنيف بشكل متقطع بين الطرفين حتى سنة 1905. غير أن هذا الضغط الداخلي، و التأثير الكبير للاصلاحات السياسية في أوروبا التي كانت النموذج الذي يجذب دائما انتباه النخبة الاجتماعية و السياسية الأرجنتينية، أدت الى تفعيل البنود الديمقراطية في دستور سنة 1853 و انطلاق عمليات انتخابية أكثر مصداقية نتج عنها أول انتخابات ديمقراطية سنة 1910 ثم صعود "الراديكاليين" للسلطة سنة 1916. و لكن بفعل عدم حدوث تغيرات اجتماعية هامة و استمرار نفوذ كبار ملاكي الأراضي الأرجنتيين فقد رأت القوى المحافظة في العملية الديمقراطية تهديدا لها. و بفعل سيطرة هذه القوى تاريخيا على المؤسسة العسكرية قامت بأول أنقلاب عسكري على الشرعية الديمقراطية في تاريخ الأرجنتين سنة 1930 و انتخابات مزورة سنة 1931 ثم بعد محاولة فاشلة لضم "الراديكاليين" في الحكم سنة 1940 قامت المحافظون بانقلاب ثاني سنة 1943. و منذ هذه اللحظة أصبحت المؤسسة العسكرية نفسها تعيش انقساما و هو ما تجسد في صعود زعيم شعبوي من داخلها، خوان دومينقو بيرون، و الذي سيهيمن على الصراع السياسي و على المشهد الانتخابي و الانقلابات المتكررة. إن عدم الاستقرار السياسي الأرجنتيني يبدو ناتجا عن ضعف الطبقات الاجتماعية المهيمنة إقتصاديا مقابل عدم قدرة الطبقات الفقيرة على التوفر على قيادات غير شعبوية، و هو ما أدى باستمرار لتأرجح العملية الديمقراطية. كل ذلك بدى من الماضي عندما نحجت الإصلاحات الليبرالية القاسية التي تم اعتمادها منذ سنوات السبعين من القرن الماضي في الخروج من هيمنة طبقة ملاك الأراضي و صعود طبقات مدينية و صناعية جديدة سمحت بإقامة توازن اجتماعي و بالإقرار التدريجي للتداول السلمي على السلطة.
النموذج الثالث (السنغفوري) بعد فترة طويلة من الاحتلال البريطاني بوصفها منطقة تجارية حرة طالما خضعت لاحتكار "شركة الهند الشرقية" البريطانية فقد فرض السكان المحليون (غالبيتهم صينيون) سنة 1959 "الحكم الذاتي" و حقهم في انتخاب "برلمان محلي" لا يخضع للسلطة القهرية للحاكم البريطاني. و قام الحزب الذي أمسك بالسلطة، "حزب العمل الشعبي"، بعملية تصنيع واسعة خرجت بسنغفورة من وضعية الوسيط التجاري التي سبق أن فرضها الاحتلال البريطاني. في المقابل قام الحزب الحاكم بمحاصرة النقابات و التي أخضعها تماما لسيطرة الحكومة بحلول سنة 1968 حينما قام بالتجريم القانوني للاضرابات. في نفس الوقت قام بقمع المعارضة السياسية التي أسسها منشقون عنه بعد انتخابات سنة 1963 و التي انتصر فيها. في خضم ذلك تم الاستقلال النهائي عن بريطانيا سنة 1965. و منذ ذلك الوقت واصل الحزب الحاكم سيطرته على السلطة بالرغم من تعدد الانتخابات خاصة في ظل القمع و المحاصرة المستمرة لمعارضيه (التي تصل حتى المنع من العمل و حق إقامة مشاريع خاصة و الاعتقال بدون محاكمة) حيث لم تفز الأطراف المعارضة إلا نادرا ببضع مقاعد من البرلمان و هو ما أدى لإدخال إصلاح سياسي سنة 2001 يتم بمقتضاه منح مقاعد لبعض المعارضين المقربين من الحزب الحاكم. كانت هذه الهيمنة القهرية الناعمة، و التي لم تصطدم بأية إحتجاجات قوية، ممكنة بفعل ظروف موضوعية محددة. من بينها أن الحزب الحاكم الذي استوعب منذ البداية أفضل الكفاءات الدارسة في بريطانيا نجح في تحقيق نمو اقتصادي قوي و رفع مستوى المعيشة و الرعاية الاجتماعية للسكان. كل ذلك، مع الضغط و التحرش المتواصلين بأي طرف معارض، يفسر وضوح حكام سنغفورة، و الذين يتداولون السلطة الآن عبر الوراثة، في عدم الاعتذار عن واقع الديمقراطية الصورية و حتى الاعلان على أن "الحزب هو الحكومة و الحكومة هي الحزب" (تصريح سنة 1990 لحاكم سنغفورة منذ استقلالها لي كوان يو، و قد خلفه أحد المقربين منه سنة 1990 قبل أن يمسك ابنه بمقاليد السلطة سنة 2004).
في جميع هذه النماذج يمكن أن نلاحظ أمورا أساسية:
أولا، إقرار حق التصويت للجميع لم يكن أمرا بديهيا في أي تجربة ديمقراطية. كان ذلك ممكنا فقط في إطار تنازلات من قبل الأطراف المهيمنة خوفا من إنهيار النظام السياسي برمته.
ثانيا، إقرار حق التصويت بشكل فوقي و خارج الضغط لا يضمن ممارسته بشكل فعلي. فغياب قوى اجتماعية تمارس الضغط من أجل انتزاع حقوقها الأساسية يجعل حقوقها الدستورية من دون معنى.
ثالثا، الضغط من أجل انتزاع الحقوق السياسية كان شديد الارتباط بانتزاع الحقوق الاجتماعية و الاقتصادية. كما أن تحقيق نظام ديمقراطي مستديم غير ممكن من دون تحقيق نظام اقتصادي و اجتماعي مستقر و يوفر رفاهية متزايدة لأعضائه.
رابعا، توفير رفاهية اقتصادية و من ثمة اكتفاء غالبية سكانية بما هو موجود مع امتناع الأطراف المهيمنة عن التنازل عن السلطة كلها عوامل لا تجعل الإنتقال نحو الديمقراطية أفقا تاريخيا بديهيا. و من ثمة يكون "اجتماع القاهر و المقهور" ظرفية طبيعية تنتزع حق البقاء.
إن كل ذلك يدفعنا دفعا نحو أكثر الأسئلة إيلاما: هل يتوقف إمكان نجاح الدمقرطة على ظروف موضوعية (تحولات إقتصادية، اجتماعية...) أم على تراكم ممارسة الإرادة السياسية الواعية للناشطين الديمقراطيين؟ طرح هذا السؤال بمنهج إمبيريقي غير مسبوق الباحث الفنلندي تاتو فانهانن في أحد أكثر المؤلفات تأثيرا في الساحة الأكاديمية في علاقة بهذه المسألة "استراتيجيات الدمقرطة" (نشر سنة 1992).[5] إذ وضع فانهانن مؤشرا قياسيا على أساس التجارب التاريخية للانتقال الديمقراطي و هو ما أوضح أن دور التحولات البنيوية (خاصة الاقتصادية و الاجتماعية) تحوز على تأثير يفوق نسبة 70% في مسارات الدمقرطة في حين لا يمثل تأثير نشاط الديمقراطيين الحركيين 30% (سأرجع بأكثر تفصل لهذا العمل المرجعي عند إنهاء مسودة هذا المقال). ربما يمكن أن نضيف مصادرة أكثر وضوحا (لم يرغب فانهانن في إعلانها) أن ديمقراطيين حركيين لا يلقون تجاوبا اجتماعيا لا يستطيعون تحقيق الديمقراطية.
(مسودة) خاتمة
يبدو أن "النضال من أجل حرية التعبير" يجب أن يمر أولا عبر التفكير فيها و خاصة في إمكانات تحققها. ينطبق ذلك خاصة على الموضوع الأشمل أي الديمقراطية. و عموما، و للمفارقة، يبدو من أهم مظاهر "حرية التعبير" التي يجب الدفاع عنها "حرية التفكير في الديمقراطية" بعيدا عن الضوابط السياسوية للحركيين الديمقراطيين. من دون ذلك لن يزدهر سوى"الديمقراطيون الطوباويون" أو الإرادويون.
[1] تم التعرض للمنظومة الخلدونية في علاقة بمفاهيم "التغلب" و "العصبية" و أصول هذه المنظومة في فكر الفارابي في قراءة جديدة مختصرة و لكن مهمة لنص"مقدمة" بن خلدون أنا بصدد إعداد عرض نقدي لها سيصدر قريبا في "مجلة دراسات شمال إفريقيا" (منشورات كامبردج). أنظر:
Moncef M’halla, Lire la Muqaddima d’Ibn Khaldun. Deux concepts-clés de la théorie Khaldunienne ‘asabiya et taghallub (force et domination). Tunis : Centre de Publication Universitaire, 2007, pp. 16-22.
[2] هناك ملاحظة أولية في هذا الإطار و هي الحاجة لأن نخرج من الثنائية التبسيطية النيوأفلاطونية بين القاهر و المقهور. فالقاهر مقهور بإيمانه القهري بأزلية القهر. و هكذا فهو عاجز بالضرورة عن رؤية آفاق غير قهرية بالرغم من أنها ممكنة تاريخيا.
[3] أنظر:
George Reid Andrews and Herrick Chapman (ed.), The Social Construction of Democracy, 1870-1990. New York: New York University Press, 1995, pp. 1-28.
[4] أنظر:
Daron Acemoglu and James A. Robinson, Economic Origins of Dictatorship and Democracy. Cambridge University Press, 2006.
[5] أنظر:
Tatu Vanhanen (ed.), Strategies of Democratization. Washington: Crane Russak, 1992, pp. 1-35.