الاثنين، أوت 31، 2009

أحمد بن صالح 6

مقال صادر في "العرب" القطرية في 30 أوت 2009

http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=95586&issueNo=617&secId=15

أحمد بن صالح (6)

طارق الكحلاوي

2009-08-30
رغم تاريخه النقابي الوجيز ولكن البارز في تمثيل «اتحاد الشغل» دوليا وشغل موقع «الكتابة العامة» في ظرفية حساسة أي الانتقال من وضع الاحتلال إلى وضع دولة الاستقلال، رغم ذلك تبقى صورة بن صالح في ذاكرة التونسيين هي صورة رجل الدولة. إذ فيها برز وصنع تاريخه السياسي الأبرز. لكن من الصعب الفصل بين دوره النقابي ودوره السياسي. فحتى من خلال موقعه النقابي في منظمة مثل «اتحاد الشغل»، كانت جزءاً لا يتجزأ من طيف الحركة الوطنية، وعلاقتها الوثيقة بالحزب الرئيسي في هذه الحركة يصعب تمثل دور بن صالح النقابي بعيدا عن دور السياسي. وهذا مجرد مثال صغير على الإشكالية العامة الخاصة بـ «استقلالية» الاتحاد عن الحزب.

يذكر بن صالح حادثة أساسية بمعزل عن مدى دقتها تشير إلى الانتقال من دور النقابي إلى دور السياسي أو رجل الدولة، ولكن بما يعكس ثقل دوره النقابي في اقتلاعه لدوره السياسي الجديد. وتعكس أيضا تخوف بورقيبة من الثقل السياسي للمنظمة النقابية ومحاولاته احتواء قياداتها. ينقل بن صالح أنه مباشرة غداة الاستقلال في 20 مارس 1956 وبوصفه «النائب الأول لرئيس المجلس التأسيسي» أي البرلمان الوليد اقترح بشكل «غير رسمي» تجنب تنصيب زعيم الحركة الوطنية، الحبيب بورقيبة، على رأس الحكومة حتى يبقى في وضع الحكم الذي يساهم في المجهود الدولي للدولة الناشئة ولا يغرق كثيرا في تفاصيل وصراعات الوضع الداخلي. في الغد دعا الباهي الأدغم، «الكاتب العام» الجديد للحزب خلفا لصالح بن يوسف والذي كان الأخير لا يكنّ له حسب بن صالح الكثير من الاحترام خاصة عندما رافقه في المفاوضات مع فرنسا، إلى اجتماع حضره بعض قيادات «الاتحاد» وبقية «المنظمات القومية» مع قيادات للحزب طرح فيه الأدغم موضوع مستقبل بورقيبة السياسي مع التركيز على ضرورة منحه موقع رئيس الحكومة المقبل. يذكر بن صالح في هذا السياق اندلاع جدال بينه وبين الباهي الادغم خاصة عندما أشار الأخير إلى تجربة الهند وتقلد نهرو منصب رئاسة الحكومة، حينها رد بن صالح: «نهرو مش غاندي» (نهرو ليس غاندي).

يواصل بن صالح روايته لهذه الحادثة حيث يشير إلى دعوة بورقيبة إلى اجتماع «الديوان السياسي الموسع» للحزب في منزله من الغد والذي دعي إليه إضافة إلى أعضاء «الديوان السياسي» ممثلو «المنظمات القومية» بما في ذلك أحمد بن صالح. عند دخول الأخير نادى بورقيبة: «هاو سي أحمد جا.. إيه إيجي اقعد بحذاية» («هاهو السيد أحمد جاء.. تفضل اجلس بجانبي») أمام أنظار قيادات «الديوان السياسي» القديمة و «الأكبر سنا» مثلما يشير بن صالح بما يعنيه ذلك من إحراج. واصل بورقيبة حسب بن صالح الكلام في الاجتماع: «يقولولي أنا متاع حكومة ولبسة وهدرة.. لكن إذا لزموني تحصل معناها إيش بيه» («يقولون لي أني أصلح لمنصب رئيس الحكومة لكن لا أرتاح لكل هذه البروتوكولات من لباس وغيره... ولكن إذا لزم الأمر لم لا»). ثم ينهي بورقيبة حديثه بالفرنسية: «بورقيبة من جهة وبن صالح من جهة أخرى سيكون الأمر جيدا للغاية» («Bourguiba d’un cote et Ben Saleh de l’autre ca va etre formidable»). بن صالح يقول إنه أصابته الدهشة من هذه الحظوة الخاصة والتجأ للبحث عن «تفسير» إلى أحد القيادات التاريخية لـ «اتحاد الشغل» محمد الري الذي كان كاتبا عاما لعمال نقابة «عمال الرصيف» والذي يصفه بن صالح بأنه كان في مقام «والده». محمد الري علق بكلمتين حسب بن صالح: «كلام يوغر الصدور».

يواصل بن صالح روايته لهذه المرحلة الانتقالية الحساسة فيشير إلى أنه إثر حوالي 48 ساعة من اجتماع «الديوان السياسي الموسع» تلقى مكالمة هاتفية تخبره بقدوم سيارة الأمين باي، والذي كان حتى ذلك الوقت وقبل إعلان الجمهورية وتنحيته أعلى سلطة في البلاد، إلى «المجلس التأسيسي» ليستقلها بوصفه «النائب الأول» للمجلس ويرافق فيها حسب البروتوكول المرشح لموقع رئيس الحكومة ليقدم أوراق اعتماده إلى الباي. البروتوكول يقضي بأن الراكب على اليمين في سيارة الباي هو أكثر رفعة وكان على بن صالح أن يجلس على اليمين في السيارة لأن بورقيبة موجود فيها كمرشح فحسب ولم يتقلد موقع رئيس الحكومة بعد. يذكر بن صالح أن المدة القصيرة التي تمت فيها رحلة السيارة من «المجلس التأسيسي» إلى قصر الباي كانت صعبة إذ خلالها، وخلالها فقط طيلة حياة الرجلين، كان بن صالح بروتوكوليا في موقع أرفع من بورقيبة. وهنا يشير بن صالح أن بورقيبة لم يكن مرتاحا بتاتا إلى هذه الوضعية المؤقتة والشكلية. عند الوصول إلى القصر تقدم بن صالح بورقيبة واستقبلهما الباي بعيدا عن عرشه بما يعكس حفاوته الشكلية بالقادمين، وينقل بن صالح هنا أنهما في طريقهما إلى الجلسة الرسمية التفت الأمين باي إلى بورقيبة وطلب منه مشيرا إلى بن صالح «لازم تحطوا معاك في القصعة» («يجب أن تضعوه معكم في مركز السلطة أي الحكومة»).

لكن أفعال بورقيبة حينها خاصة إثر تشكيله حكومته الأولى في 29 يوليو سنة 1957 لا تشير إلى منح بن صالح موقعا تنفيذيا كبيرا، إذ عيّنه في موقع «كاتب الدولة للصحة» («وزير الصحة»). ولكن من الواضح أن المجموعة التي كانت مقربة من بن صالح خاصة بعض أعضاء الفريق الذي ذكر أنه شكله لإعداد «التقرير الاقتصادي والاجتماعي» عندما كان زعيما للمنظمة النقابية أخذوا أيضا مواقع متقدمة في هذه الحكومة مثل عز الدين العباسي («كاتب الدولة للصناعة والتجارة»)، ومصطفى الفيلالي («كاتب الدولة للفلاحة»). وإذ نظرنا بشكل رجعي فإن في هذه الحكومة مؤشرا أوليا على ميل بورقيبة إلى منح الملف الاقتصادي والاجتماعي للقيادات القادمة من «اتحاد الشغل» خاصة بناءً على دورهم المفترض في إعداد أول برنامج اقتصادي واجتماعي لتونس ما بعد الاستقلال.

ويشير بن صالح في سياق حديثه إلى نوع من الاتفاق غير واضح المعالم بتسليم الملف الاقتصادي والاجتماعي إلى قيادات من الاتحاد من خلال منحهم مواقع متقدمة في الحكومة. كما يشير إلى أنه رفض تقلد أي منصب حكومي إلا بعد وضع شروطه. يشير مثلاً في وقت لاحق عن «مفاوضات لمدة ساعة من الزمن» خاضها مع بورقيبة لتقلد منصب «وزير المالية» على أساس قبول «الديوان السياسي» ببرنامج مبني على «التقرير الاقتصادي والاجتماعي».

بن صالح يركز هنا على موضوع الداعي لتركيزه على الملف الاقتصادي والاجتماعي عوض التركيز على ملفات أخرى بما فيها السياسي وموضوع المشاركة السياسية والديمقراطية. يشير إلى زياراته إلى الجنوب الغربي التونسي منذ كان قيادياً في «اتحاد الشغل»، وهو الأمر الذي تأكدت منه من مصادر نقابية أخرى من هذه الجهة، ومشاهد الفقر المدقع فيها خاصة الصور المؤلمة لوجوه الأطفال «لاصقة بالذبان» («ملآنة بالذباب»). ينتقد هنا «النخبة الإفرنجية» (ويعني هنا تحديدا المتفرنسة) التي كانت تركز على الديمقراطية حينها في وضع يفتقد أساسيات الحاجات الاقتصادية والاجتماعية في دولة ما بعد الاستقلال. بن صالح الذي بدا كأنه يرد على الانتقادات التي اعتبرته داعما لـ «الدكتاتورية البورقيبية» يؤكد على ضرورة التفريق بين مطلب «الحريات» ومطلب «الديمقراطية» في ظل الوضع الهش لما بعد الاحتلال. طبعا هذا الموقف المثير للجدال يصعب تبريره لكني أفهم جيدا الانتقادات التي يوجهها بن صالح إلى نخبة «فرنكفولية» (Francophile) وليس فرنكفونية فحسب (وذلك أمر لا يستحق الاستهجان) في دولة ما بعد الاستقلال تستنسخ فهمها وحلولها للواقع التونسي بمنظار فرنسي غير قادر حتى على الانفتاح على تجارب غربية أخرى، ولا يزال بعضها للأسف في موقع بارز حتى الآن.

في جميع الأحوال سيتقلد بن صالح بشكل تدريجي عددا قياسيا من الوزارات، وسيصبح بحلول أواسط الستينيات الوزير الأكثر أهمية في البلاد والرجل الثاني فيها بدون منازع. وهنا تبدأ روايته للمرحلة الأكثر جدالا وبروزا في حياته السياسية، «تجربة التعاضد».

السبت، أوت 29، 2009

قليبية... بلدية قليبية بالتحديد

عندي مدة ماعديتش شهر و نصف في العطلة في تونس كيفما عملت الصيف هذا... يعني تتسمى مدة لاباس بيها.. كتبت على بعض الاشياء إلى عملتها خاصة اللقاءات مع سي أحمد بن صالح في سلسلة مقالات في "العرب" القطرية و عاودت نشرهم في المدونة و إلي بالمناسبة صارت عليهم نقاشات باهية في الصفحة متاعي في "الفايسبوك"... ما كتبتش حاجة خاصة بالمدونة لعدد من الاسباب من بينها طبعا، و كيفما قلت قبل، أنو مجتمع البلوغوسفار و جمهور البلوغوسفير ماعادش يفرح برشة و بالتالي ما يرغبش برشة في الكتيبة.... لكن رغم ذلك بش نكتب عض الاشياء في المدة القادمة بما في ذلك حول وضع البلوغوسفير...


اليوم بش نتحدث على الجزء إلي قضيتو من عطلة الصيف في قليبية...

عندي مدة طويلة نمشي لقليبية... تقريبا من نهاية الثمانينات... كنا نمشيو، مع مجموعة من صحابي، نخيمو في شط "البالج" و نحضرو وقتلي انجمو مهرجان سينما الهواة.. يا حسرة! وقتها كانت فمة أفلام في مستوى لاباس بيه مش كيف توة كيف فهمت من عند بعض الاصدقاء ولى حتى الشكل مش فقط المضمون أمورو هكاكة و برة... نحب نشير بالمناسبة إلى أنو المهرجان هذا كان في مخي ديمة مربوط بشخص منذر القرقوري إلي ولى رمز متاع تشجيع السينما الهاوية في تونس و إلي عرفت إمخر في الصيف إلي هو توفى.. الله يرحم منذر القرقوري... قوس كان من الضروري نحلو

مبعد مرت السنوات.. و أصبح فمة سبب شخصي و عايلي يخليني نمشي أيضا لقليبية.. لكن المرة هذية كانت أكثر مرة عديت فيها وقت في قليبية... و عديت فيها وقت كافي بش نشوف برشة حاجات و خاصة نقارن بين قليبية توة و قليبية خمسطاش سنة أو أكثر لتالي...

الشط متاع قليبية

طبعا مش سر أنو شط قليبية من أحسن الشطوط في تونس.. مزيان... الجمهور زادة يعمل الكيف... جميع فئات المجتمع و كرة طايرة.. كبار و صغار.. إلخ الماء صافي و مازال صافي... و يظهرلي ما فماش أحسن من التصويرة هذية بش نأكد إلى ماء شط قليبية صافي



لكن فمة حاجات جديدة.. أولها أنو رمل الشط بدى يتمسخ.. و الوسخ في حافة الشط بدى يكثر.. ساشيات و دبابز و حتى شسمها هذيكة مش الكوش متاع الصغار، تي أك الكوش لخرى لقيتها مرة في وجهي و انا نعوم و فين، في شط "باريس الصغيرة" و ما أدراك.. قيل أنو بلدية قليبية خذات جايزة النظافة برشة مرات لكن فمة نوع من الشعور العام (سمعتو في الديار و المارشيات و القهاوي و طبعا في الشط بيدو) إلي في السنوات لخرة لومور تغيرت شوية.. و إلا برشة.. المهم تغيرت.. و المدينة ولات أقل نظافة من قبل.. أو أوسخ من قبل حسب زاوية النظر إلي تغزر منها

قطاع غزة.. في قليبية

من الاشياء إلي خلاتني نكتب على قليبية و خاصة وضع بلدية قليبية هي وضعية شفتها بعيني و ما صدقتش... خلي كان يحكيولي عليها.. و لذا قلت زايد يلزم نسجلها في فيديو بش الناس تفهم... عندي قضية في نهج قريب من وسط البلاد.. نعتني واحد صاحبي يسكن في تونس قالي امشي في الكياس الرئيسي إلي يشق قليبية (و إلي هو "طريق وطنية" تشق الوطن القبلي الكل) و انت خارج من بحذة محطة اللواجات و ماشي للغزاز (حام الغزاز) فمة نهج تلقاه على يسارك اسمو "نهج منزل بورقيبة" تعدى منو أتوة تلقى البلاصة... السيد إلي نعتني عندو مدة على قليبية و ما فيبالوش بـ"التطورات" الجديدة فيها.. المهم هاو شنوة يصير كيف نتبع الطريق هذا.. هاو الفيديو شوفو بعينيكم



لقيت متاريس في قلب نهج ("نهج منزل بورقيبة") مسطر عليه من البلدية يعني في قلب الطريق العام.. سئلت قالولي فمة عايلة عملت المتاريس هذيكة في اطار خلاف حول البني... المهم لحكاية معقدة و متاع رخص بني و ما نعرفش شنوة... أما كيفاش عايلة تاخذ موقف تجي تعمل متاريس في قلب الطريق العام.. آخي هذا ما يتسماش تمرد على السلطات.. يعني لو كان المسألة تاخذ بعد سياسي و نحسبو هذومة ناس ماخذين موقف سياسي يقعدو زعمة يتفرجو فيهم... و في الحقيقة في الأساس و عمليا هذا موقف تحدي للأمر الواقع السياسي... لأنو حيازة الطريق العام بدون رخصة و اكثر من هكاكة غلق و قطع الطريق العام بالقوة موضوع حساس برشة من الناحية القانونية...

المثير أكثر للانتباه هو أنو وقتلي أنا غادي وقع إقالة رئيس البلدية متاع قلبيبة... عملية الاقالة أو الاستقالة (؟) إلي ما فماش تفاصيل و أسباب رسمية ليها هذية جات بعد حضور رئيس البلدية اختتام "مهرجان سينما الهواة" و تصفير الجمهور الحاضر عليه وقتلي عطى طابع سياسي رسمي متاع "تمجيد" و "مناشدة" في كلمة الاختتام.. السيد رئيس البلدية (السابق) إلي يقولو عليه أهل قليبية "ناس ملاح" و "مش متاع سياسة" قام يضحك و هبط من المنصة بما يوحي أنو ما هموش برشة في الموضوع و ما يحبش يعمل قاوق... المهم رئيس البلدية السابق متاع قليبية فمة أكيد عدة أسباب لإقالتو (إذا كان تتم على أساس قانوني) و بالتأكيد تراجع النظافة في الشط (مصدر رزق رئيسي لقليبية) أو وضع متاريس في الطريق العام من بين الأسباب إلي تأدي من المفروض للاقالة.. لكن يبدو أنو فمة الأسباب الاخرى أدات لإقالتو... و زعمة رئيس البلدية الجديد و المجلس البلدي و بقية "القيادات" متاع البلدية بالطبيعة بما في ذلك الكاتب العام و غيرو ما تتحملش مسؤولية في وضع كيف هكة؟

المقاهي/المطاعم على الشط و المنصورة

فمة حاجة لفتت انتباهي كيف نبداو ماشين لشط المنصورة على اليسار فمة ثلاث مقاهي/مطاعم جديدة.. ما فهمتش علاش مبنيين بالحجر من داخل و باللوح من برة.. سمعت إلي ممنوع البني غادي و هذاكة علاش فمة تمويه من خلال البني من اللوح من برة... المهم وضعية معمارية فريدة من نوعها.. تجديد بصراحة في فن العمارة و البني

أخيرا هذية ملاحظة متاع نوستالجيا بالأساس.. قبل "مطعم المنصورة" كان من المطاعم الهايلة و معروف ربما في بقية أنحاء تونس... كان عندو طابع شعبي و مش مكلف برشة... كانت الناس تشري الحوت و تجي تشويه غادي... المطعم عندو وضعية خاصة بسبب أنو على الصخر و فمة طواول و كراسي على الماء.. أو بالأحرى على شط حجر صغير كاينو مجموعة بيسينات.. ربما هو أحسن شط في قليبية.. المهم المطعم توة عندو مدة ولى ضخموني و ماشي و يولي ضخموني أكثر بالريزرفاسيون و قبل جمعة.. ربما حاجة باهية أنو يجيو توريست لقليبية من الناحية المبدئية... يدخلو أكثر فلوس ربما.. لكن إذا كان نحب قليبية فإنها من البلايص القلائل إلي بعيدة على التوريست و أجواء التوريست.. يعني بشكل عام قليبية متاع توريست توانسة إذا كان كثرت...

لكن رغم هذا و ذاك فإنو قليبية و ناسها (عموما طبعا) تخليها بلاصة يطيب التصييف فيها.. و ما فماش علاش تفسد نتيجة للاهمال و قلة المسؤولية

الثلاثاء، أوت 25، 2009

أحمد بن صالح 5

رمضان مبروك لجميع الصديقات و الاصدقاء

مقال صادر في "العرب" القطرية 23 أوت

http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=94714&issueNo=610&secId=15

أحمد بن صالح (5)

طارق الكحلاوي

2009-08-23
يشير الزعيم التاريخي لـ «اتحاد الشغل» الحبيب عاشور في مذكراته إلى ظروف عقد «مؤتمر صفاقس» سنة 1955، حيث يشير إلى طرح بورقيبة أمامه فكرة عقد مؤتمر بعيداً عن العاصمة تونس، لكونها معقل صالح بن يوسف، وأين يمكن له أن يشكل أغلبية مؤتمرين من المساندين له بما يقلب المعادلة التي لم تكن في صالحه بفعل المساندة الشعبية الواسعة، ولكن غير المنظمة، لموقف صالح بن يوسف. يذكر عاشور بوضوح مساعدته لبورقيبة الحثيثة في عقد المؤتمر والذي كان مكان عقده، أي مدينة صفاقس، مقترح عاشور نفسه. إذ كان الأخير يحظى بنفوذ نقابي واسع في المدينة التي شهدت أحداث 5 أغسطس سنة 1947 الدامية والشهيرة والتي كان قادها عاشور، وكانت سببا في سجنه ونفيه المتواصل من قبل قوى الاحتلال.
وقد أكد لي الصادق بسباس، في لقاء معه هذا الأسبوع، والذي كان أحد الصحافيين الشبان في هذه المرحلة الذين غطوا «مؤتمر صفاقس» وكان مقربا كذلك من عاشور أن «حراسة» المؤتمر خاصة في محيط عقده في أنهج وشوارع مدينة صفاقس كانت بإشراف النقابيين المقربين من عاشور. أشار بسباس كذلك إلى الشعور العام بأن عاشور كان وراء التنظيم اللوجستي للمؤتمر. ورغم أن عاشور، المقرب بشكل كبير من بورقيبة، لم يكن يشغل سنة 1955 منصب «الكاتب العام» للاتحاد بسبب ظروف نفيه داخل البلاد فقد كان ينظر إليه آنذاك على أنه أحد الخلفاء المنتظرين لمؤسس «الاتحاد» فرحات حشاد، والذي اغتيل من قبل قوى الاحتلال سنة 1952.

يقر أحمد بن صالح بنفوذ الحبيب عاشور آنذاك في أوساط «الاتحاد» حتى أنه أشار إلى أنه كان من بين اثنين زارهما في منفاهما للاستئناس برأيهما في خصوص ترشحه لموقع «الكاتب العام»، وكان الآخر الزعيم التاريخي الآخر للمنظمة النقابية أحمد التليلي. يشير بن صالح إلى زيارته عاشور في مقر منفاه في مدينة «المحرس» والتليلي في ميدنة «منوبة». العلاقة بين القادة الثلاثة ستشكل محور جزء هام من التجاذب النقابي بدءاً ثم السياسي الذي حدث في البلاد منذ سنة 1955 حتى ستينيات القرن الماضي. وضمن محور التجاذب هذا، يمكن لنا أن نرى تاريخا أكثر تعقيدا بالنسبة لقيادة البلاد يتجاوز الصورة المهيمنة التي تضع بورقيبة كصانع وحيد للأحداث فيها. وتحايلنا كذلك على وضع أصبح فيه «الاتحاد»، ومن ثم قادته، ومنذ «مؤتمر صفاقس» مصدر ثقل استثنائي مقارنة ببقية «المنظمات القومية» في البلاد.

تاريخ العلاقة بين هذا الثالوث (عاشور- التليلي - بن صالح) يحيل خصوصاً على عبثية أي طرح يتحدث بجدية عن «استقلالية» آنذاك للمنظمة النقابية عن الحزب ثم عن السلطة، وكذلك على تفرد بن صالح (من بين الثالوث) بنظرة تستهدف هذه «الاستقلالية». يشير بن صالح بشكل خاص إلى «فيتو» من قبل قيادة الحزب ضد تقلده موقع «الكاتب العام» في مؤتمر «الاتحاد» في صيف سنة 1954، وبالتحديد من قبل أقوى رجل في قيادة الحزب داخل تونس تلك السنة المنجي سليم. حسب بن صالح تدخل التليلي، الذي كان أيضاً عضواً في قيادة الحزب إلى جانب موقعه النقابي، لدى سليم حتى يرفع الحزب «الفيتو» عن ترشح بن صالح لموقع «الكاتب العام» للمنظمة النقابية بما يشير إلى العلاقة المعقدة بين الحزب والنقابة والتي يمكن لنا أن نسبغ عليها أي شيء إلا تعبير «الاستقلالية».

المحطة الموالية للعلاقة بين الثالوث تأتي بمجرد عقد «مؤتمر صفاقس» وحسم بورقيبة للصراع حول أداة الحزب بينه وبين بن يوسف وحين أصبح «الاتحاد» ذاته مصدر قلق لبورقيبة. النفوذ المتصاعد للمنظمة النقابية كان على الأرجح مدعاة للقلق لقيادات سياسية لا تملك مفاتيح هذه المنظمة التي تنافس الحزب في عدد المنخرطين، ولكن أيضاً على مستوى البرنامج. كان إعداد «التقرير الاقتصادي والاجتماعي» سنة 1954 الصادر عن «الاتحاد» ومحاولة تمريره في «مؤتمر صفاقس» سنة 1955 في سياق النقاشات الحاصلة ضمن «اللجنة الاقتصادية» للمؤتمر موضوع جدل حاد خاصة في أوساط الحزب إذ كان أساس اتهامه بأنه «شيوعي» متخفٍ.

يتحدث بن صالح بفخر واضح عن التقرير الذي يقدمه كأول مشروع واضح يواجه الوضع الاجتماعي والاقتصادي القائم. قصة التقرير كما ينقلها بن صالح بدأت مع زيارة رئيس الوزراء الفرنسي منداس فرانس التاريخية في 31 يوليو سنة 1954 حينما أعلن موافقة فرنسا على التفاوض مع الحركة الوطنية التونسية على مبدأ «الاستقلال الداخلي». يقول «الكاتب العام» للمنظمة النقابية آنذاك إن الموقف الفرنسي كان مفاجئاً وجاء والحزب ذاته لم يكن جاهزا للإمساك بجهاز الدولة خاصة تسيير دولة ناشئة وفقا لبرنامج اقتصادي واجتماعي واضح المعالم وكان الحزب مجرد «كتل» متصارعة وفريق من المحكمين بينها مثل المنجي سليم، «ينظف القوم الفاسقين» يضيف بن صالح بشكل ساخر.

يذكر بن صالح أنه جمع فريقا مكونا من 10 كوادر من «الاتحاد» أو من المقربين من المنظمة النقابية خاصة من بين المهتمين بالملف الاقتصادي والاجتماعي مثل عزالدين العباسي والبشير الناجي وأحمد الكناني ومصطفى الدلاجي والطاهر عميرة ومصطفى الفيلالي. وأيضا اليهودي التونسي سارج غيتا الذي كان مصدرا بحكم وظيفته للمعطيات الاقتصادية والمالية، وكان سابقا عضوا في «النقابة الشيوعية» الفرنسية التونسية قبل التحاقه بـ «الاتحاد». التقرير لم يكن غير مسبوق بل كان مبنيا على جهود سابقة ضمن «الاتحاد» للمساهمة في تحليل الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد والتي كان من بينها ورقة صيغت في مرحلة قيادة فرحات حشاد للمنظمة بعنوان «المشاكل الاجتماعية في تونس». يقول بن صالح إنه كان خلدونيا متأثرا برؤى بن خلدون، وبالتحديد ضرورة «أن نحلل المجتمع» قبل المبادرة إلى عرض صيغ حلول اقتصادية واجتماعية، ويشير في ذات الوقت إلى كتاب «المقدمة» جانب طاولته الصغيرة إلى يساره و «الذي لا يفارقني» كما يقول.

ينفي أحمد بن صالح بالمناسبة أن التقرير كان من كتابة شخص واحد، بما في ذلك مصطفى الفيلالي. كما ينفي أنه من إعداد الاقتصادي الفرنسي ذي الميولات الماركسية جيرار دو برنيس (Gérard Destanne de Bernis) كما أشار الحبيب عاشور. دو برنيس الذي بقي صديقاً لبن صالح حتى الآن (أهداه نسخة من آخر كتبه، وكان عضواً في لجنة الدكتوراه لبن صالح في السوربون) اختص في قضايا «التنمية» في العالم الثالث (خاصة بالنسبة للجزائر في وقت لاحق)، وكان حسب بن صالح «مستشارا» عند إعداد التقرير، ولم يكن يعرف أي معطيات حينها حول تونس. غير أن مشاركة دو برنيس بأي شكل حتى في إطار «استشاري» تحيلنا على المرجعية الفلسفية العامة للتقرير والتي لا تعكس في الحقيقة مرجعية «شيوعية» مثلما أشارت الاتهامات الموجهة من قيادات الحزب ضد بن صالح، ولكن مرجعية «اشتراكية ديمقراطية» صاعدة أوروبيا إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي المرجعية التي ستؤطر رؤى بن صالح إثر ذلك.

كان إصدار التقرير ومحاولة تمريره في «مؤتمر صفاقس» بمثابة ناقوس الخطر بالنسبة لبورقيبة إذ مثل تحديا للدور المتفرد الذي كان يتمثله. وقام حينها بورقيبة بالتدخل لإحداث انشقاق في المنظمة النقابية ضد أحمد بن صالح. إذ شجع الحبيب عاشور لتأسيس منظمة نقابية جديدة منشقة عن «الاتحاد» ثم شجع أحمد التليلي على الانقلاب على بن صالح سنة 1956 وتنحيته من موقع «الكاتب العام». وكانت تلك أول عملية، من بين عديد العمليات التي سيقوم بها زعيم الدولة حتى تنحيته من السلطة سنة 1987 للتدخل بشكل فاضح في شأن المنظمة النقابية إذ كان يعتبرها جزءاً من السلطة أو لا تكون. وأحداث سنة 1956 من انشقاقات نقابية بإيعاز من الحزب وبورقيبة تضع الروايات اللاحقة لكل من عاشور أو التليلي حول تهديد «استقلالية» المنظمة النقابية بتدخل السلطة في أواسط الستينات والإشارة إلى بن صالح بوصفه متهما متفردا في هذا السياق تضع هذه الروايات على ضوء مختلف تماما. إذ عندما يتعلق الأمر بموضوع «استقلالية» المنظمة النقابية عن الحزب والسلطة فنحن لسنا إزاء تاريخ أسطوري فحسب بل أيضا إزاء وضع لا يوجد فيه أبرياء.

الاثنين، أوت 17، 2009

أحمد بن صالح 4


مقال صادر في "العرب" القطرية بتاريخ 16 أوت
http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=93807&issueNo=601&secId=15

أحمد بن صالح (4)

طارق الكحلاوي


في سياق الحديث مع أحمد بن صالح تفهم من الوهلة الأولى أنك تستمع إلى راو يحذق فن الحكاية. كنت أعرف من جدي أن أهل مدينة «المكنين» الساحلية -نفس المدينة التي ينحدر منها بن صالح أيضا- يحذقون الحكي. في بعض المرات لا أكاد أميز بين ذكرى جدي الراحل وهو يحكي لي ذاكرته بتأن وهدوء لافتين وبين حديث بن صالح عن ماضيه. إن الرجلان ربما لم يتقاسما -إضافة إلى فن الحكاية- سوى عشق الغناء الشعبي المتأصل في مدينتهما. وكلاهما يحفظ عن ظهر قلب قصائد غنائية طويلة يستحضرانها بسرعة مذهلة في اللحظة المناسبة للحكاية.

ومثلما كان يحصل مع جدي، فإني أستمتع بالاستماع لحكايات بن صالح، ولا أرغب في لحظات كثيرة أن أسأل عن صدقية المقول والمحكي، حتى لا أقطع ذلك التسلسل المشوق للحكاية. غير أن بديهة المؤرخ فيّ لا يمكن ألا تحاول التدخل في نسق الرواية. كان من الضروري أن أطرح أسئلة مفصلية ربما أصعبها: كيف ولماذا انخرط أحمد بن صالح -بوصفه على رأس قيادة أهم منظمة مدنية شعبية قبيل الاستقلال، منظمة «الاتحاد العام التونسي الشغل»، المنظمة النقابية الوحيدة في البلاد- في إنجاح «مؤتمر صفاقس» سنة 1955 والذي حسم عمليا الصراع البورقيبي اليوسفي خاصة في جانبه السياسي والحزبي لمصلحة بورقيبة عندما كان فريق «الأمانة العامة» -أي فريق «الأمين العام» للحزب صالح بن يوسف- وفقا للروايات السائدة قد افتك السيطرة على شعب كثيرة في الحزب خاصة في مدن كبرى مثل تونس ذاتها وجهات الدواخل والجنوب؟ كيف ولماذا أسهم بن صالح بشكل حاسم -ليس كشخص ولكن من خلال دوره في قيادة منظمة مهنية كبيرة- في إنهاء الصراع على سلطة الدولة الوليدة لمصلحة بورقيبة، أي جلاده اللاحق؟
لم يكن الموضوع مجرد صراع بين رجلين فحسب، بل بين رؤيتين. لكن ما من شك أنه كان هناك الكثير من التنافر الشخصي بين بن يوسف وبورقيبة، رغم التاريخ والمسيرة الذاتية التي تجمعهما. كان الاثنان من مؤسسي الحزب «الدستوري الجديد» الشبان على إثر الانشقاق عن «الدستوري القديم». كان الاثنان قد تكونا ضمن السياق التعليمي الحديث وغادرا إلى فرنسا لتعلم المحاماة. كان الاثنان حريصين على تنمية صورتهما الشخصية. تأخر نجم بن يوسف عن البروز مقارنة ببورقيبة، إذ لم يستطع التحول إلى أحد «نجوم» الحزب إلا عندما غادر بورقيبة إلى القاهرة في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، خاصة حين نجح في تجميع مختلف القوى السياسية والمدنية تحت شعار «الاستقلال»، وحينها يبدو أن بن يوسف تمثل في نفسه زعامة الحزب بشكل راسخ.

لكن مع كل التقلبات التي طبعت النصف الأول من الخمسينيات في سياسات «الدستوري الجديد» في التراوح بين المفاوضات والمشاركة في الحكم المحلي القائم إلى حمل السلاح والمقاومة المسلحة، لم يظهر أن هناك تنافرا على مستوى الرؤية بين الرجلين. فقط مع حضور بن يوسف مؤتمر باندونغ واكتشافه التحالف «العالم ثالثي» الصاعد وبروز نجم عبدالناصر، بدأ يفهم العالم ووضع بلاده من زاوية جديدة، ويضع تطلعاته الوطنية ضمن مرجعية فكرية أكثر وضوحا. حينما طرحت فرنسا مقترح «الاستقلال الداخلي» على طاولة المفاوضات والذي يجعلها تتفرغ بشكل واضح لمواجهة «الثورة الجزائرية» الصاعدة مقابل منحها سلطات داخلية محدودة لـ «الدستوري الجديد» مع استمرار الحضور العسكري الفرنسي في بعض النقاط الاستراتيجية في البلاد، رأى بن يوسف في المقترح «خطوة إلى الوراء». كان أي قبول بهذا المقترح بالنسبة إليه تأسيسا لقطيعة مع حركة تحريرية مغاربية لم يكن متوقعا منها أن تحقق استقلالها الكامل بشكل مشترك فحسب، بل أيضا أن تؤسس الدولة الجديدة بشكل مشترك. لم يعد الصراع البورقيبي اليوسفي الخافت حتى ذلك الوقت مجرد صراع على الزعامة، بل أصبح صراعا فكريا سياسيا حادا.

إثر الاستقبال التاريخي المظفر لبورقيبة الذي اعتبر «الاستقلال الداخلي» المقترح من قبل فرنسا «خطوة إلى الأمام»، يذكر بن صالح أنه شارك في استقبال بن يوسف العائد إثر بورقيبة إلى البلاد في خضم هذا الصراع على متن السيارة التي نقلت بن يوسف، في الوقت الذي استقبل فيه بورقيبة في صورة الفاتحين على ظهر حصان، والتي كان بن صالح فيها مع قياديين آخرين في الحزب جنبا إلى جنب الزعيمين المتنافرين، ينقل بن صالح أن التوتر كان واضحا. ينقل بن صالح أن بن يوسف كان يسخر من الاستقبال المخصص له مرددا ضاحكا عند تحية الجمهور الرابض على حافة الطريق: «إي شوية شعبيات... شوية شعبيات» (نعم القليل من الشعبوية). يذكر بن صالح أنه مع قياديين آخرين في الحزب كانوا يحاولون جمع يدي الزعيمين ورفعهما إلى الأعلى في سياق دعم المصالحة بينهما.

وفي العموم تتركز رواية بن صالح لموقفه خلال الصراع البورقيبي اليوسفي على موقفه «الوسطي» و «التوسطي» أيضا. يقول بن صالح إنه حاول التوسط لدعوة بن يوسف للمؤتمر حتى ينعقد بحضور الأمين العام، عشية عقد المؤتمر في مدينة صفاقس وسط الجنوب التونسي حيث يوجد ثقل تاريخي لـ «اتحاد الشغل»، وحيث كانت إحدى الكلمات الافتتاحية للمؤتمر تلك التي ألقاها بن صالح ذاته بما يعكس الدور الحاسم للمنظمة النقابية في تنظيم المؤتمر، يشير بن صالح إلى محاولته المتكررة مع الفرجاني بالحاج عمار، رئيس «اتحاد الصناعة والتجارة» المشارك في المؤتمر، للاتصال هاتفيا ببن يوسف. يلمح بن صالح إلى أن بن يوسف لم يشأ في البداية الرد على المكالمات، غير أنه رد أخيرا. عرض عليه أخيرا باسم المؤتمر الحضور لصفاقس للمشاركة في المؤتمر. رد بن يوسف كان حاسما إذ ينقل بن صالح أن الأمين العام للحزب قال له: «تحبني نجي يا سي أحمد وجماعة الوردانين مطوقين المؤتمر» (تريدني أن أحضر ومجموعة الوردانين من المسلحين يطوقون مكان المؤتمر). كان بن يوسف يشير إلى ميليشيا جديدة تكونت تعاضد بورقيبة تحت قيادة أحد أهم قياديي المقاومة المسلحة سابقا حسن عبدالعزيز أصيل مدينة الوردانين الساحلية. بدا الاحتقان وفق رواية بن صالح شديدا ويشير في الأثناء إلى أنه لم يفهم أن الوضع بدأ في التطور من مجرد صراع سياسي إلى صراع مسلح بين الطرفين.

سألت هنا بن صالح كيف دعمت هياكل «الاتحاد» موقف بورقيبة في الوقت الذي يتردد فيه أن مدينة تونس كانت معقلا لبن يوسف؟ هل كان ممثلو النقابة في معاقل بن يوسف متميزين بشكل كامل عن أعضاء الحزب فيها؟ سألته كيف تتم دعوة بن يوسف للمؤتمر عشية عقده فقط؟ وهل هناك أي جدوى في عقد المؤتمر بحضور شخص بن يوسف دون حضور مؤتمرين يمثلون شعب الحزب التي تدعمه؟ سألته أيضا عما يتردد من أن الميليشيات التي حرست المؤتمر لم تتكون من «جماعة الوردانين» التابعة لبورقيبة فحسب، بل أيضا من ميليشيات نقابية متكونة من نقابات مثل «نقابة البطالين» (العاطلين عن العمل) التي كانت مقربة من الزعيم الأقوى للاتحاد الحبيب عاشور؟

لم تبد لي إجابات بن صالح على هذه الأسئلة حاسمة. أشار إلى عدم علمه بوجود ميليشيات نقابية، ولو أنه لم ينف تماما وجودها مثلما أشار إلى عدم علمه آنذاك بوجود ميليشيات «جماعة الوردانين». أشار إلى أن عقد «مؤتمر صفاقس» كان قرارا حظي بـ «شبه إجماع» في اجتماع المجلس الوطني للاتحاد (باستثناء ممثلي «اتحاد» مدينة بن قردان أقصى الجنوب التونسي). تجنب الإجابة عن ظروف عقد المؤتمر خاصة كيفية تجاهل بن يوسف في قرار ومكان عقده. بدت لي حيرة بن صالح نابعة ليس فقط من شعور دفين بتحمل المسؤولية، لكن أيضا من محدودية نفوذه آنذاك داخل «اتحاد الشغل»، وهو الشاب الذي لم يتجاوز حتى سن الـ 30، إذ رغم أنه كان «الكاتب العام» للمنظمة النقابية، فإن الحبيب عاشور الزعيم التاريخي لـ «الاتحاد» وأصيل جزيرة قرقنة المحاذية لمدينة صفاقس وحيث يحظى بدعم نقابي لا محدود، كان على الأرجح المهندس الفعلي لـ «مؤتمر صفاقس».

الاثنين، أوت 10، 2009

أحمد بن صالح (3)


مقال صادر في "العربّ القطرية الاحد9 أوت
http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=92627&issueNo=594&secId=15

أحمد بن صالح (3)

طارق الكحلاوي


لم يكن بن صالح ملاكاً، بل كان رجل سياسة، ولا يزال. بدت لي بديهية هذه الجملة في حاجة للتأكيد لبعض الإخوة الذين علقوا على مقالتي الأخيرتين حول الرجل. ومن البديهي أيضا أني أكتب عنه وأنا على وعي كامل ببديهة مماثلة. ليس بن صالح بوصفه شاهدا على نفسه هو في موقع الشاهد المحايد، إذ هو، حتى من موقع الشاهد يبقى رجل سياسة. وبعد هذا وذاك مَن هو الشاهد الذي لا يحتاج إلى إثبات؟

نعم أشعر بالتعاطف مع رجل يبدو لي من المثقفين القلائل الذي تمرسوا وفي سن شاب على خوض معترك السياسة زمنَ التحرير وبناء الدولة الوطنية، وكان من هذا الموقع من القلائل الذين تصرفوا بندية مع الرئيس الراحل، واسع السلطات وبلا منازع، الحبيب بورقيبة، خاصة بعد رحيل مؤسسين لـ «الدستوري الجديد» من الطراز الثقيل مثل علي البلهوان والحبيب ثامر وصالح بن يوسف. نعم أشعر بالتعاطف مع شخصية ذلك الشاب في وسط سادته، ولا تزال، العقلية «الأبوية» التي تمنح بالكاد بعض مساحة السلطة للوجوه الشابة والجديدة. نعم أشعر بالتعاطف مع من يتم طمس مساهمته وجهده بمجرد اختلافه مع «الزعيم». وفي هذا المقام بن صالح ليس وحده، إذ من الطبيعي أن أتعاطف مع الكثيرين غيره. غير أن ذلك لا يمكن أن ينقض معطيات وسياقات موضوعية تحيلنا عليها سيرة بن صالح مثل التاريخ الأسطوري لـ «استقلالية» المنظمة النقابية في البلاد، إذ يريدنا البعض أن نصدق أن بن صالح يتحمل مسؤولية فردية في ضياعها، وكأنه من الممكن لـ «تاريخ الأفراد» هذا أن يوجد أصلا.
ورغم هذا التعاطف أيضا كان يجب أن أطرح الأسئلة الصعبة على رجل ليس من المتوقع أن يفاجَأ بها. كانت تتجاذبني، بشكل خاص، أسئلة العلاقة بين بن صالح وصالح بن يوسف. مثلما ذكرت في المقال السابق (الثاني) كان من المثير أنهما كانا من بين الأوائل في الحركة الوطنية الذين تقاسموا فكرة «التحالف» بين «الحزب» و»النقابة» أو ما وقع تسميته بـ «العمالية على الطريقة التونسية» (للتميز عن النموذج «العمالي» البريطاني) وكان ذلك مجرد مظهر آخر على عدم تفرد بن صالح بمبدأ تجاوز «استقلالية» النقابة عن الحزب.

كان الحديث عن بن يوسف متواتراً لدى بن صالح وكان في كثير من الأحيان حديثاً فيه بعض الحسرة والتعاطف وبالخصوص التجاذب بين ميله العاطفي لبورقيبة إزاء ريبته في البداية من بن يوسف الذي رأى فيه بداية الخمسينيات رمزاً لما يسميه «أكابر» الحزب الذين حادوا عن مبادئه. تحدث مثلاً عن عدم تصديقه معظم وجوده في السلطة في ستينيات القرن الماضي الأخبارَ التي تشير إلى بورقيبة نفسه بالتورط في اغتيال بن يوسف زعيم الحزب الأكثر شعبية حتى سنة 1956 والذي كان المنافس الأقوى لبورقيبة على حكم البلاد. كانت صورة بورقيبة، تبعاً لبن يوسف، صورة هلامية ورومانسية وبدأت في التلاشي تحديدا في علاقة بالصراع بين بورقيبة وبن يوسف. يشير بن صالح إلى مسار «اكتشف» فيه بعناء الصورة الواقعية لبورقيبة. في خضم الصراع اليوسفي البورقيبي سنة 1956 يصف إحدى زياراته إلى مقر سُكنى بورقيبة في مدينة المنستير مع أحد قياديي «اتحاد الشغل» وكيف كان يحاول الرئيس الراحل متوترا إقناع زائريه ويضرب على ساق محاوريه بقوة صارخا باللهجة الدارجة «العبوا كارطة بورقيبة» (العبوا ورقة بورقيبة). بدأت صورة «الزعيم» الرصينة تتصدع في المخيلة الرومانسية للشاب بن صالح.

يشير بن صالح أيضاً إلى محاولاته «التوسط» بين الزعيمين واصفاً موقفه بالولاء لـ «السياسات الوطنية» وليس للأشخاص. يشير إلى الموقف المحرج الذي وضعه فيه بورقيبة عندما وافق بناءً على طلب من القيادي جلولي فارس الذهاب إلى بن يوسف واعداً إياه بتأجيل بورقيبة قرار طرد بن يوسف من صفوف الحزب. دخل بن صالح إلى غرفة جلوس بن يوسف والأخير يتكلم في الهاتف بالفرنسية، ثم توجه بن يوسف إلى بن صالح متسائلا عن سبب الزيارة خاصة أن بن صالح كان مرفوقا بأحد قادة المقاومة المسلحة الموالين لبورقيبة، وهو ما بدا لبن يوسف بمثابة التهديد. بادر بن صالح لطمأنة بن يوسف مشيرا إلى عزم بورقيبة تأجيل قرار الطرد. حينها ضحك بن يوسف وبادره بالقول باللهجة الدارجة «أنت نية يا سي أحمد» (أنت ساذج يا سيد أحمد)، إذ أخبر أحد العاملين بوكالة «فرانس بريس» منذ لحظات بن يوسف بوصول بلاغ الطرد إلى الوكالة. وحتى الآن لا يبدو أن بن صالح قد تخلص من الرغبة في منح بورقيبة بعض حسن النية، إذ يشير في أثناء روايته لأخبار من هذا القبيل إلى تأثير بطانة بورقيبة في الأخير خاصة في التحريض على إذكاء نار الصراع مع بن يوسف، ويشير بشكل خاص إلى دور كل من محمد المصمودي والبشير بن يحمد.

بقيت هذه الثقة، خاصة في علاقة بنوايا بورقيبة إزاء بن يوسف، حسب رواية بن صالح حتى المرحلة الأخيرة من بقائه في السلطة وعلاقته الوردية مع بورقيبة حتى آخر ستينيات القرن الماضي، أي بعد سنوات من اغتيال بن يوسف في فرانكفورت سنة 1961. تلاشت هذه الثقة في خضم الصراع مع كتل السلطة الأخرى خاصة تلك المحيطة بحرم الرئيس وما يمكن تسميته بـ «ميليشيا» بورقيبة مثل البشير زرق العيون الذين كانوا حسب بن صالح يسعون لجني مكاسب شخصية على أساس الشرعية التاريخية، وهو ما كان يرفضه بن صالح من خلال موقعه في السلطة الذي كان يسيطر فيه على وزارات ذات بعد اقتصادي ومالي. يروي بن صالح كيف استدعاه بورقيبة ذات ليلة في ذروة هذا الصراع إلى قصره الصيفي في ضاحية المرسى، خاصة بعد مكالمة هاتفية عاصفة لبن صالح مع وسيلة بن عمار زوجة بورقيبة تدخلت فيها لمنح بشير زرق العيون بعض الامتيازات. دخل بن صالح حديقة القصر ليجد بورقيبة مع وسيلة في لباس صيفي وبادر الاثنان لاستقباله بحميمية على العشاء. قضى الجميع السهرة في أحاديث جانبية ليس لها علاقة بالصراع القائم إلى أن قام بورقيبة باستدعاء بن صالح إلى مكتبه الشخصي. تعرض بورقيبة إلى موضوع زرق العيون وضرورة منحه ما يريد لقاء «الخدمات» التي قدمها للدولة ولبورقيبة شخصيا. وحينها بادر بورقيبة إلى عرض رسالة قال إنها بخط صالح بن يوسف يأمر فيها أحد معاونيه بالتحضير لاغتيال بورقيبة، وهنا بالتحديد أشار بورقيبة بوضوح إلى قيامه بأمر زرق العيون باغتيال بن يوسف «قبل أن يتغدى به». يروي بن صالح كيف أن «الصدمة كانت كبيرة» بالنسبة إليه، إذ لم يصدق حتى تلك اللحظة أن يسمح زعيم حركة تحررية مثل بورقيبة لنفسه بقتل رفيق كفاحه ببرود في المنفى. شعر بن صالح أن اللقاء كان يعني أن الجميع معرض للاستئصال والإلغاء وحتى القتل إن لزم الأمر إذا ما وقف أمام رغبة الزعيم ورجاله المقربين.

بدا لي حينها أن مأساة بن صالح الحقيقية اكتشافه أنه ليس من «رجال بورقيبة المقربين» خاصة بالنسبة لرجل بنى خياراته السياسية على أساس الثقة شبه المطلقة في بورقيبة. يشير بن صالح الآن بأثر رجعي إلى أن الرسالة التي أظهرها له بورقيبة لا تحمل في الحقيقة خط بن يوسف وهو الذي كان يعرف خط الرجل عن قرب. إذ يشكك بن صالح في صحة هذه الرسالة الشهيرة التي يتم استعمالها في السنوات الأخيرة بمثابة قميص عثمان الذي يتم به تبرير اغتيال بن يوسف، بما في ذلك من قبل قيادات «ميليشيا» بورقيبة مثل مدير الحزب محمد الصياح في إحدى شهاداته التاريخية.

لكن إزاء هذه الحسرة خاصة الرغبة في التركيز على رواية يظهر فيها بن صالح في موقع «التوسط» بين الزعيمين، تشير الأحداث إلى دور حاسم أسهم فيه في سياق دعم بورقيبة في اللحظات الحرجة في الصراع البورقيبي اليوسفي. يتعلق ذلك بدوره في تنظيم «مؤتمر صفاقس» للحزب سنة 1955 والذي قلب الموازين لمصلحة بورقيبة، وهي الحلقة التي ربما حسمت الصراع ليس بين الرجلين فحسب بل أيضا بين خيارين استراتيجيين للدولة الناشئة. وبهذا المعنى يبدو «مؤتمر صفاقس» السؤال الأصعب في مسيرة بن صالح.

أحمد بن صالح 2


مقال صادر في "العربّ القطرية الاحد 2 أوت
http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=91570&issueNo=587&secId=15

أحمد بن صالح (2)

طارق الكحلاوي

2009-08-02
اللقاء الذي صار بين أحمد بن صالح وصالح بن يوسف سنة 1953 في ستوكهولم أصبح مثيرا للاهتمام، بالتحديد من حيث التفاصيل الخاصة بالنظرة إلى «استقلالية» المنظمة النقابية التونسية عن الحزب الذي قاد مسيرة التحرير الوطني، وخاصة على عدم تفرده بالرؤية التي تميل إلى «تحالف» بين النقابة والحزب، خلال أواسط الخمسينيات، ولهذا يحتاج هذا اللقاء بعض التركيز والتأطير ضمن سياقه التاريخي. كان لقاءً للمشاركة غير المسبوقة للحزب في «الاشتراكية الدولية» (Socialist International) أحد المنظمات التي ستشكل حتى الآن أحد مراكز الثقل في العلاقات الدولية، وحيث سيحافظ بن صالح على وجود سياسي بارز حتى بعد إقصائه من السلطة في تونس. إذ نسج علاقات شخصية، مستفيدا من تمثيليته للحزب في بروكسيل، حيث كان أيضاً عضواً للمكتب التنفيذي في منظمة دولية أخرى شكلت منبراً مهماً بالنسبة للحركة الوطنية التونسية، ثم أيضاً في بدايات الدولة الوطنية «الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة» (International Confederation of Free Trade Unions) التي تأسست سنة 1949 في سياق الجدال حول «مشروع مارشال» ومن ثم تأثر النقابات بالصراع بين معسكري الحرب الباردة، كانت منظمة نقابية دولية ستوفر مدخلاً خلفياً للنفوذ الأميركي الدولي والعلاقات المتنامية بين قوى التحرر الوطني والولايات المتحدة خلال الخمسينيات. وهكذا مثلما كان وسيصبح في سياق الحركة الوطنية، كان بن صالح خلال الخمسينيات يلعب دوراً مزدوجاً نقابياً-سياسياً على المستوى الدولي، سيمنحه بعض المساحة للتحرك عندما يفقد نفوذه في تونس.

بوصفها امتداداً لـ «الأممية الاشتراكية» العتيدة أصبحت «الاشتراكية الدولية» الإطار الجامع للتيار «الاشتراكي- الديمقراطي» منذ مؤتمر فرانكفورت سنة 1951، وهو التيار الذي سيمثل قاطرة رئيسية للتحول نحو «دولة الحماية الاجتماعية» (welfare state) في السياق الغربي إثر الحرب العالمية الثانية بشكل عام. كما ستصبح «الكونفدرالية» النقابية المؤسسة حديثا وبسرعة الإطار الجامع للنقابات الموالية للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التي كانت تخوض صراعات محلية وإقليمية ضد النقابات الموالية أو القريبة من الأحزاب الشيوعية. إذ كان أحد سمات المرحلة الصراع ليس بين الليبرالية والتوجهات ذات الطابع «الاجتماعي»، بل أيضا الصراع حول مضمون هذه التوجهات «الاجتماعية» بين التيارين «الاشتراكي الديمقراطي» والشيوعي. وبشكل عام قام هذا الصراع الأخير بتغيير «العالم الحر» أو المعسكر «الرأسمالي» تعريفه لذاته. هذا السياق التاريخي الذي كان تشكّل للتو أو بصدد التشكل حدث أمام أعين الجناحين النقابي والسياسي للحركة الوطنية، وبالتحديد أمام أعين الناشطين الوطنين العاملين في الخارج، مثلما هو حال أحمد بن صالح وصالح بن يوسف خلال تنقلاته خارج البلاد. إزاء عزلة دولية تفرضها علاقات قوة كبرى آنذاك مثلما هي فرنسا كانت هذه الفرص للتواجد ضمن منابر دولية سمحت بها تحولات الوضع الغربي الداخلي فرصا غير مسبوقة للتأسيس للذراع الدبلوماسية للحركة الوطنية. غير أنها في نهاية الأمر أسست أيضاً ليس لانخراطٍ ذرائعيٍ للحركة الوطنية في هذا التيار الدولي بل جعلتها تتأثر من حيث المضمون.

وهكذا كانت دعوة صالح بن يوسف للمشاركة في مؤتمر ستوكهولم لـ «الاشتراكية الدولية» ليست مجرد مناسبة للتأثير الدبلوماسي القائم على قدم وساق في مصلحة الحركة الوطنية، بل أيضا جزءا من إرهاصات بداية التأسيس لتبني الحزب لخطاب ما بعد الاستقلال وأفكار بناء الدولة الوطنية. وهنا حدث لقاء بين الرجلين، بن يوسف وبن صالح، كان أيضا لقاءً فكرياً ساهم فيه بشكل حاسم السياق التاريخي الدولي، وبالتحديد الانخراط في تصاعد نفوذ التيار «الاشتراكي-الديمقراطي» على المستويين السياسي والنقابي. ولا يجب النظر إلى هذا الانخراط بشكل منفصل عن الإرهاص الدولي الآخر الحاسم بالنسبة لتشكل ملامح الحركة الوطنية، وبالتحديد تيار «عدم الانحياز» المنضوي ضمن الحركة «العالم-ثالثية» ذات العلاقة الوطيدة بالتيار «الاشتراكي-الديمقراطي» خاصة في الدول الغربية غير المنخرطة في تجارب استعمارية. هذا التيار الذي دخل مرحلة تأثير دولية جديدة غير مسبوقة إثر مؤتمر باندونغ سنة 1955. ما يجب التنصيص عليه هنا على الهامش أن مؤتمر باندونغ، هو المحطة الثانية وليس الأولى لمسار دولي في سيرة الشخصية الرئيسة المنافسة لبورقيبة في الحركة الوطنية صالح بن يوسف. والمحطة الدولية الأولى المهمشة نسبيا هي مؤتمر ستوكهولم سنة 1953.

يشير بن صالح في هذا الإطار إلى «التحرير المشترك» بينه وبين بن يوسف للخطاب الذي ألقاه الأخير في ستوكهولم، والذي لا يزال يحتفظ بنسخة من مسودته بخطه وبتصحيحات لصالح بن يوسف. يتحدث بن صالح عن «الالتقاء العفوي» في اختيار العبارات وتحديد الأفكار الرئيسية للخطاب. وتبدو العبارة والفكرة الرئيسية في الخطاب، الذي كتب بالفرنسية، هي «العمالية على الطريقة التونسية» (Travaillisme a la Tunisienne). ورغم شكلها الفرنسي فالفكرة تعبر بوضوح عن «الاستقلالية» المرجعية على مستوى أفكار بناء الدولة الوطنية عن السياق الفرنسي. إذ كانت حينها ترجمة شائعة لتيار نموذجي بريطاني في التجارب الاشتراكية الديمقراطية، النموذج «العمالي» البريطاني والذي استبدل العبارة الإشكالية لـ «الاشتراكية» بعبارة «العمالية» (Labourism)، وهو ما لم يكن مجرد تحديد تمييز مرئي ولغوي بين «الاشتراكية الشيوعية» و «الاشتراكية الديمقراطية» في مجال أنجلوسكسوني لا يزال يحافظ على علوية مرجعيته «الليبرالية» وريبته من أي مرجعية «اشتراكية» في الشكل أو المضمون، بل عبّر أيضاً عن تجربة تنظيمية وفكرية خاصة في بريطانيا انتقلت لاحقا إلى المجال الشمال أوروبي الاسكندينافي.

كان هناك وعيٌ بالتجربة العمالية البريطانية، حسب بن صالح، من قبل الاثنين عند تحرير الخطاب. طبعا هذا الوعي ومسار التأثر لا يعني ضرورة تمثُلٍ استنساخيٍ لهذه التجربة، ولكنْ تمثل استرشادي. النقطة الرئيسة هنا هي حول «التحالف» بل الارتباط العضوي التاريخي بين النقابي والسياسي. التحالف النقابي الواسع في بريطانيا (المؤسس منذ القرن التاسع عشر) «مؤتمر النقابات» (Trade Unions Congress) أسس منذ سنة 1900 لما سمي آنذاك بـ «اللجنة التمثيلية العمالية» والتي كان مقرراً لها أن تمثل «الطبقة العاملة البريطانية» في «مجلس العموم». كان يجب أن تمر عشريّتان على الأقل حتى أصبحت هذه اللجنة حزباً قائم الذات يلعب دوراً رئيسياً في الحياة السياسية البريطانية.

طبعاً نموذج تأسيس النقابة لحزب يمثلها سياسيا ثم التميز التنظيمي لهذا الحزب عن النقابة، وانعكاس الوضع ليصبح «حزب العمال» البريطاني أحياناً منافساً لـ «مؤتمر النقابات»، ليس نفسه مسار العلاقة بين الجناحين النقابي والسياسي للحركة الوطنية التونسية. ينقل بن صالح مثلا حادثة الفيتو الحزبي الذي كان مسلطا عليه من قبل أحد أبرز مسؤولي الحزب (المنجي سليم) معترضا على انتخابه في موقع الكاتب العام لاتحاد الشغل، وكيف أن نقابيا كبيرا ذا نفوذ سياسي في الحزب مثل أحمد التليلي كان وحده القادر على رفع هذا الفيتو. وهي حادثة لا تبدو متعارضة مع مؤشرات أخرى على النفوذ الذي كان يملكه الحزب على النقابة، والذي يؤكد مرة أخرى أنه يوجد نوع من الفكرة السائدة السابقة علي بن صالح أو التي لا يتفرد بها والقاضية بعلاقة «تحالف» أو ربما «خضوع» من أحدهما للآخر. بما يعني أن فكرة «الاستقلالية» غير ممكنة وفقاً لسياق أواسط الخمسينيات وحتى بعدها في الستينيات، من جهة القيادات النقابية والسياسية على السواء. وهو ما يجعلنا أمام تاريخ «أسطوري» أو متوهم لمبدأ «الاستقلالية».

من جهة أخرى فإن محصلة التجربة البريطانية هي هذا التحالف الهيكلي والفكري والسياسي، والذي كان على ما يبدو يجذب الاهتمام والانخراط لدى حركة وطنية لا يبدو أنها فكرت بما فيه الكفاية في ما بعد الاستقلال. أفكار مؤتمر ستوكهولم التي جمعت بن صالح ببن يوسف سيتم تبنيها آجلاً مع منح بن صالح خلال الستينيات صلاحيات كبرى في الملفين الاقتصادي والاجتماعي. غير أنها تعطلت في أوساط الخمسينيات خاصةً حسب بن صالح لارتياب بورقيبة من «ابتلاع» الحزب من قبل النقابة. لا يبدو ذلك مجانبا للصواب تماما، إذ أصبح الحزب ضعيفا في سياق الصراع البورقيبي اليوسفي إلى الحد الذي يمكن له فيه أن يذوب في مؤسسات أكثر قوة، وكان «اتحاد الشغل» أبرزها. غير أن ما حصل لاحقا، أن الحزب هو الذي «ابتلع» النقابة، وهو ما لم يكن لشهية بورقيبة المفتوحة دائما للابتلاع أن ترفضه بأية حال، ورغم أن بن صالح لم يكن متفردا في المسؤولية عن ذلك كما يمكن أن توحي به بعض القراءات اللاتاريخية.