الأربعاء، أكتوبر 28، 2009

في خضم و بمناسبة الاحتفالات قبل و بعد الانتخابات... حجب الكلاندستينو


ربما الوضع السياسي العام أو الابتعاد عن جو المدونة نساني بش نكتب الملاحظة هذية... حجب مدونة صديقنا كلاندو.. إلي أخيرا خذا الوسام الأعلى للتدوين المتمثل في حجب مدونتو من قبل عمار 404

المدونة الأصلية
.. وقع تعويضها بمدونة أخرى تعرضت في زمن قياسي لمصير المدونة الأصلية.. بما يعكس خلية النحل إلي في المرمة متاع عمار ساهرة ليلا نهارا على أمن البلاد خاصة قدام أسلحة الدمار الشاملة المتمثلة في كلمات يكتبهم صديقنا الكلاندو

مبروك كلاندستينو... جا الوقت بش تحرق يظهرلي بعد ما تحرقو جوانحك...



بمناسبة الموضوع هذا فمة واحد يفتي في التكنولوجيا في جريدة البيان صرح بالفتوى أعلاه... و طبعا الشخص هذاية إلي قرى التكنولوجيا لكن ما قراش أن التطور التكنولوجي كان ممكن فقط في سياق حرية الابداع من النوع إلي كان خدمو و كلاو خبزة أفضل من أنهم يتحدثو في مواضيع كبيرة كيف هكة.. اش لزك على مزدوجات من النوع هذا

كنت عبرت على موقف من الموضوع متاع الحجب بشكل عام في السابق هنا
http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=57307&issueNo=278&secId=15

السبت، أكتوبر 24، 2009

أنظمة «تعددية» أم «انتخابية»؟

مقال صادر في "العرب" القطرية بتاريخ 25 أكتوبر

http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=102822&issueNo=674&secId=15

أنظمة «تعددية» أم «انتخابية»؟

طارق الكحلاوي

2009-10-25

لا يزال من الصعب تحديد توصيفات دقيقة لطبيعة أغلب الأنظمة السياسية العربية. إن الأسئلة التي يفرضها الواقع العربي الراهن لا يمكن، من زاوية موضوعية، أن تحيلنا، إلا في حالات قليلة، على معادلات ثنائية مطلقة بين «الديمقراطي» و «الشمولي» (totalitarian)، بكل ما يحمله التوصيف الأخير من منع أيديولوجي وقانوني ودستوري (دع عنك المنع الواقعي) لأي إمكانية لحياة سياسية فيها الحد الأدنى الديمقراطي. إذ نحن أحيانا إزاء أوضاع ترتدي كل التفاصيل القانونية والدستورية المؤسسة لعملية ديمقراطية افتراضية حسب المعايير المتعارف عليها، وهو توجه أصبح شبه حاصل بحلول الثمانينيات في الكثير من الأقطار العربية في سياق «الموجة الثالثة» للديمقراطية عبر العالم، حين أصبح من الصعب رفض النموذج الغربي الحداثي للديمقراطية، وكان بالتالي من الضروري حسب الكثير من الأنظمة العربية التي أعادت رسكلة بنيتها أن تتساوق مع هذا النموذج حتى خطابيا وشكليا. ولكن مثلما كان متوقعا فإن الإمكان النظري الديمقراطي لم يترجم واقعيا بدرجات كبيرة. وأصبحنا إزاء مفارقة التفاوت بين واقع الآلية الديمقراطية مقابل الامتناع عن تفعيل بديهيات الممارسة الديمقراطية ذاتها. فالانتخابات بشكل خاص، كوسيلة وأداة ديمقراطية، منتشرة ومتكررة في السياق العربي، مثلما سيحدث اليوم في الانتخابات التشريعية والرئاسية في تونس، غير أن هذه الوسيلة تستمر في إعادة إنتاج نفس هياكل الواقع السياسي.

يبقى أن كل هذه المفاهيم في حاجة إلى تدقيق. إذ تحديد ما هو غير ديمقراطي يمكن أن يحتوي على مغالطات في تعريف الديمقراطية ذاتها، وهو الأمر الذي لا يزال يخضع لجدال واسع، ليس في أوساط «أصولية» ترفض مشروعية الديمقراطية، بل قبل ذلك في الأوساط الغربية ذاتها. هناك مثلا البعض، مثل الباحث التشيكي في النصف الأول من القرن الماضي جوزيف شومبيتير، ممن يقيس الديمقراطية عبر المقياس التبسيطي المتمثل في أنها النظام السياسي الذي يتم ملء مواقع السلطة فيه «عبر صراع تنافسي من أجل أصوات الناس» أي آلية الانتخابات. غير أن مقياسا من هذا النوع من الممكن أن يفشل في رصد سياق «المنافسة الانتخابية» الذي يمنع تحديدا المنافسة. ثم إن تعريف الديمقراطية، ومن ثم نواقضها، يمكن أن يأخذ منحى أكثر تعقيدا. فقد اقترح روبرت داهل (Robert Dahl) أحد أكثر علماء السياسة تأثيرا وإثارة للجدل في ذات الوقت مراجعة لمفهوم الديمقراطية كما هي ممارسة في سياق الأنظمة التي نطلق عليها «ديمقراطية». في كتابين مرجعيين بداية السبعينيات ثم نهاية الثمانينيات حاجج داهل من مقعده في جامعة «ييل» بالذات، أحد أهم المراكز الأكاديمية التقليدية الأميركية، ضد اعتبار النظام السياسي الأميركي تعبيرا عن «الديمقراطية المثلى»، مثلما نقد استسهال الخطاب السياسي لاستعمال مصطلح «الديمقراطية» إذ رأى أنه لا وجود لأي تفعيل واقعي عبر العالم لهذا النظام المثالي. إذ بالقياس إلى 5 معايير وضعها داهل تتركز على «المساواة» بين الناخبين، من حيث قدرتهم الواقعية على الوصول إلى المعلومات والمشاركة والترشح والتمويل في العملية السياسية، دعا إلى تجنب مصطلح «الديمقراطية».

في المقابل اقترح داهل منظومة مفاهيمية بديلة تتركز في مصطلح «التعددية» (polyarchy). هنا نحن إزاء «تعددية» ليس في الحياة السياسية بشكل عام فحسب بل في ممارسة السلطة بالتحديد، وخاصة على مستوى التداول على السلطة. ومن هذه الزاوية وجه داهل نقده للرؤى التي تختزل العملية السياسية «الديمقراطية» في حصول الانتخابات ليركز على سياق الانتخابات ومدى توفرها على وسائل إنتاج التداول على السلطة، واعتبار هذه النقطة تحديدا الميزة الرئيسية التي تجعل بعض الأنظمة السياسية أكثر قربا من غيرها من نموذج «الديمقراطية المثلى». وبرغم الانتقادات التي وجهت إلى داهل فإن هناك اتجاها غالبا لقبول مفهوم «التعددية» خاصة أنه يوفر سياقا أكثر واقعية في نقاش أوضاع أنظمة معقدة وصفت بـ «الضبابية» مثل الأنظمة السياسية لتركيا ونيجيريا وإندونيسيا. وعلى هذا الأساس بدا من الممكن اقتراح توصيفات أكثر نسبية وأقل إطلاقية، وسلم متعدد الدرجات لا يتوقف عند التعبيرات الاختزالية والثنائية. إذ بخلاف الثنائية المطلقة لـ «الديمقراطية» و «الشمولية»، هناك ثنائيات أخرى تبدو أقل حدة مثل «الديمقراطية» و «التسلطية» (authoritarianism) -أي النظام السياسي الذي يمكن أن يقر قانونا بـ «التعددية» بعكس النظام «الشمولي» غير أنه ينقضها بشكل متفاوت في الممارسة، يمكن أن تخفي تباينات كبيرة إذا ما توقفنا عند التحليلات العامة.

وقد برهن بعض الباحثين في العشرية الأخيرة خاصة لاري دايموند (Larry Diamond)، المشرف على «مجلة الديمقراطية» (Journal of Democracy)، من خلال مقال في النشرية الأخيرة سنة 2002 على رجاحة الموقف الذي يجعل التمييز بين إقامة الانتخابات من جهة وقدرة الانتخابات من جهة أخرى على ضمان تداول على السلطة ليس كمقياس أساسي في تمييز الأنظمة «التعددية» فحسب بل أيضا في مقاربة أغلب أوضاع الأنظمة السياسية العربية من بين أنظمة أخرى بشكل يمكن من حصر طبيعتها الرئيسة. ليصل في النهاية إلى تصنيف «الأنظمة الهجينة» (hybrid regimes) أو ذات الصفات المختلطة وغير المتجانسة والذي يتيح مقاربة نظرية أكثر اتصالا بالواقع.

«الأنظمة الهجينة» بالنسبة لدياموند هي تلك الأنظمة التي تتوفر رسميا على نظام سياسي يتيح التعددية السياسية وعلى انتخابات دورية لكنها عمليا غير «تعددية» أو غير «ديمقراطية» بما أنها تكرس سلطة الحزب الواحد. وبهذا المعنى فبعكس «التعددية الانتخابية» أو «الديمقراطية الانتخابية» (electoral democracy) يقع توصيف هذه الأنظمة بأنها «تسلطية انتخابية» (electoral autocracies). وضمن هذا السياق يمكن أن نجد أحيانا منافسة انتخابية جدية، علنية أو غير علنية، لكن فقط في إطار الحزب المهيمن على السلطة وفقط ضمن حدود إعادة إنتاج وضع سلطة الحزب الواحد. وبهذا المعنى نحتاج تصنيفا داخليا يميز بين الحالات التي توجد فيها مثل هذه المنافسة في أوساط النخبة الحاكمة وهي أنظمة يطلق عليها دايموند (اعتمادا على الوضع زمن كتابته المقال أي سنة 2002) وصف «التسلطية التنافسية»، ويسوق من ضمن المجال العربي والإسلامي على ذلك أمثلة إيران ولبنان واليمن. في حين يطلق على الحالات التي تعرف درجة تنافس ضعيفة توصيف الأنظمة «التسلطية الانتخابية المهيمنة»، ويذكر في هذا الإطار أمثلة الكويت والمغرب وتونس ومصر. في حين يعطي وصف الأنظمة «التسلطية المغلقة» لحالات مثل ليبيا والسعودية.

غير أنه حتى التصنيفات المقدمة من قبل دايموند تحتاج إلى التمحيص والتعميق. والمقال الأخير في نفس النشرية «مجلة الديمقراطية» (عدد يوليو 2009) من قبل إيلين لاست (Ellen Lust) أستاذة العلوم السياسية في جامعة «ييل» يذهب تحديداً في هذا الاتجاه. إذ تقترح لاست خاصة بالاعتماد على التجارب الانتخابية في مصر والمغرب وما يترافق معها من أجواء سياسية تعبير «التنافسية الزبونية» (competitive clientelism) لمزيد تمييز أنظمة في طور الانتقال من وضع الأنظمة «التسلطية الانتخابية المهيمنة» إلى أنظمة «تسلطية تنافسية». لاست تركز هنا بشكل خاص على ظاهرة تجيير الوظيفة البرلمانية إلى موقع لـ «الوساطة» بالمعنى الزبوني للكلمة بين بعض القاعدة الانتخابية والسلطة التنفيذية. وبهذا المعنى يصبح موقع النائب مصدرا لمدخل ريعي (مادي ولامادي) يستحق التنافس بين أعضاء حزب السلطة الذين يفقدون في نهاية الأمر الشعور بـ «وحدة البرنامج» بما أن المصالح الزبونية هي الحافز الرئيس لحراكهم السياسي. وهنا تصبح الانتخابات بالتحديد أداة لتكريس عدم فاعليتها كأداة «تعددية» والأكثر من ذلك تكريس تراتبية الحياة السياسية التي تجعل السلطة (بما هي وحدة مونوليتية: تنفيذية-تشريعية) سلعة الحزب الواحد، والسلطة التشريعية سلعة السلطة التنفيذية. ومن ثم لا تمثل الانتخابات في هذه الحالة إلا تجديدا ومن ثمة ترسيخا لهياكل إضافية معرقلة لشروط تحقق الأنظمة «التعددية».

الأحد، أكتوبر 18، 2009

في ضرورة التعمق في معضلة «التحول الديمقراطي» (4)

مقال صادر في "العرب" القطرية بتاريخ 18 أكتوبر

http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=101839&issueNo=667&secId=15

أود أن أشير بالمناسبة إلى ورقة كتبها الصديق لمين البوعزيزي في تفاعل مع هذه الاشكاليات و كذلك مع هذا المقال على الأقل في أجزائه الثلاثة السابقة... الورقة على الرابط التالي
http://mou7ib1952.maktoobblog.com/1603232/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%A7%D8%A6%D8%A8%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%88%D9%82%D8%B1%D8%A7/

في ضرورة التعمق في معضلة «التحول الديمقراطي» (4)

طارق الكحلاوي

2009-10-18
عند النظر إلى الوضع التونسي فإننا لا يمكن أن نراه استثناءً عن النظام السياسي العربي، لكن يبدو تاريخ تونس المعاصر نموذجا للعلاقة التفاعلية النشطة بين السياقين الاقتصادي-الاجتماعي والسياسي في مسار «التحول الديمقراطي»، من الضروري القيام أولاً بتوصيف عام للظاهر السياسي قبل التمحيص في أساساته الاقتصادية والاجتماعية. ومن البيّن أن نظرة «الزمن الطويل» (longue durée) تحيلنا أولا على تاريخ متقطع لـ «التحول الديمقراطي» برغم الإخفاقات الواضحة حتى اللحظة. كم أنه تاريخ لـ «التحول الديمقراطي» لا يبدأ منذ تأسيس «الدولة الوطنية» سنة 1956 بل يسبقها. وهكذا فإنه يجب النظر إلى مرحلة التحرر الوطني ليس كمعركة بين «داخل» وطني و «خارج» استعماري فحسب بل هي أيضا معركة افتكاك حق «الداخل» في التأسيس لحقه الدستوري في حكم نفسه بنفسه. وبهذا المعنى لم تكن المعركة ضد الاحتلال الفرنسي من حيث هي صراعٌ على السلطة إلا معركة ضد استبداد ذي هوية خارجية. كما هي معركة ليست ضد استبداد واقع فحسب بل أيضا استبداد محصن تشريعيا.

ولا يتعلق ذلك بالقراءة التاريخية بأثر رجعي فحسب بل أيضا من خلال طريقة تمثل الحركة الوطنية لذاتها، إذ إن تاريخ الحركة الوطنية المنظمة حزبيا ومنذ بداية تركيز مبرراتها الفكرية كان تاريخ تأكيد وجود «الأمة» التونسية، وليس، بالمناسبة، بما هي في تمايز جذري مع محيطها العربي والإسلامي بل بما هي في تمايز مع واقع احتلال كان في أصله متونساً بما أنه مارس احتلالا قُطريا في تسلسله الكرونولوجي. إذ إن كتابات «منظري» الحركة الوطنية من عبدالعزيز الثعالبي إلى علي البلهوان والحبيب ثامر لم تعرف «الأمة التونسية» إلا على أساس تميزها بهوية عربية-إسلامية برغم الوعي بالتنوع الذي ميز تاريخ «تونس» الطويل كمجال جغراسياسي ضبابي وشديد التحول. ولم يحدث أن تم اختلاق سياسوي لـ «هوية تونسية» معومة إلا في سياق الصراع السياسي اللاحق بين بورقيبة والتيار القومي العربي بجناحه المشرقي.

الدفاع عن وجود هذه «الأمة» كان يعني أنها ذات الخصوصية في امتلاك دستور خاص، ومن ثم في امتلاك حكم خاص قبل أن يطرح مطلب الاستقلال، فالتعبير السياسي المنظم الأقدم للحركة الوطنية أي الحزب الدستوري القديم كان اسماً ومضموناً الحزب من أجل إصدار «دستور تونسي» قبل أن يكون حزب تحرر من الاحتلال. أو بمعنى آخر كان تمثله للتحرر الوطني في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى يتأسس واقعيا من خلال إصدار «دستور تونسي». حدث هذا رغم أنه سبق ذلك موجات متقطعة من العمل المسلح المقاوم التي كانت تنطلق من المحيط الاجتماعي الريفي وشبه الصحراوي والذي كان من الواضح أنه يستبطن صداما جذريا مع واقع الاحتلال بدفع أساسا من التمايز الثقافي بين المحتل والاحتلال، ولكن مع انزياح مجال الصدام والاحتجاج إلى التركز في الوسط المديني ستصبح المقاومة المسلحة ملحقة كمتن تكتيكي بالاستراتيجيات الاحتجاجية المدنية.

هذا النزوع الأغلب (وليس المطلق بدون شك) للاحتجاج غير المسلح لم يكن يعني إقصاءً للاحتجاج الصدامي. كان واقع الاحتجاج الصدامي خاصة عبر إضرابات الحركة النقابية المتونسة مرآة للتأثير الهائل للأساسات الاقتصادية والاجتماعية للحركة الوطنية بما هي حركة من أجل «التحول الديمقراطي». وكان الصراع النقابي ذو الهوية التونسية تعبيرا عن الأساس الاقتصادي والاجتماعي لمرحلة إسقاط استبداد الاحتلال. وربما لا يوجد مثال أكثر وضوحا من الحركة الوطنية التونسية على تحول النضال الاجتماعي-النقابي إلى قاطرة رئيسية للحركة الوطنية إلى الحد الذي حول التنظيمات النقابية المتلاحقة إلى هياكل اجتماعية من الخارج وسياسية من الداخل. وهكذا استطاعت الحركة الوطنية المنظمة سياسيا التحول من منظمات حزبية نخبوية ومدينية ومنبرية تنتج وتعيد إنتاج البيانات المستهلكة صحافيا إلى منظمات حزبية اخترقت حواجز التمايز الاجتماعي والنخبوي والمديني والجهوي. فتاريخ الحركة النقابية في تونس كان في جزئه المتونس تاريخ الحركة الوطنية ذاتها. إذ لم يكن مجرد صدفة أن بداية تونسة الحركة النقابية كانت بالتزامن مع نشأة أول حزب سياسي تونسي إثر الحرب العالمية الأولى. كما أن انتعاش الحركة السياسية التونسية بين الحربين وفي الثلاثينيات تحديدا تزامن مع عودة انتعاش الحركة النقابية المتونسة، المستقلة اجتماعيا ووطنيا عن واقع الاحتلال. ولكن حتى تلك اللحظة كان الالتحام عصيا بين الجناحين الاجتماعي والسياسي للحركة الوطنية، في العشرينيات بسبب تردد الجناح السياسي، وفي الثلاثينيات بسبب تردد الجناح النقابي. ومن المثير أن تاريخ التحامهما رمزيا في مؤتمر «ليلة القدر» سنة 1946 كان تاريخ الإجماع الوطني على مطلب «الاستقلال» وتعبيرا عن مرحلة جديدة في تمثل التحرر ليس من زاوية التأسيس للدستور والبرلمان التونسيين فحسب بل من زاوية أشمل أي التأسيس لدولة جديدة. وعموما يصعب في أحيان كثيرة أن نفصل بين خلايا الحزب وخلايا المنظمات النقابية المتعاقبة خاصة «الاتحاد العام التونسي للشغل». كما أن مؤشرات متزايدة تشير إلى العلاقة الوثيقة ليس سياسيا فحسب بل من حيث التنسيق والتنظيم بين زعيمي الحزب والنقابة، صالح بن يوسف وفرحات حشاد، بين أواخر الأربعينيات إلى بداية الخمسينيات، إلى الحد الذي كان فيه اغتيال حشاد عملا موجها بالأساس ضد الحركة الوطنية.

إن الحراك السياسي ضد الاحتلال كان ممكنا طبعا بسبب تميز الهوية الثقافية العربية-الإسلامية، والذي كان محركا واضحا بشكل بنيوي عام أو من خلال حوادث محددة (الجلاز، التجنيس...) للمسار العام للحركة الوطنية. لكن وجود ذلك الواقع الثقافي لم يكن ليتفاعل من دون عاملين آخرين في علاقة بالسياق الاقتصادي-الاجتماعي: التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي لم يكن لواقع الاحتلال إلا أن يفرزها بما في ذلك نشأة طبقات شغيلة مفقرة، كانت الأزمات المتعاقبة (بعد الحرب العالمية الأولى، بعد أزمة 1929، بعد الحرب العالمية الثانية) تزيدها فقرا أو تأزما. العامل الثاني أن هذه الفئات تميزت عن باقي الشغالين غير التونسيين من حيث درجة فقرها ومن حيث خلفيتها الثقافية، وبالتالي انتهى بها الأمر إلى الحاجة إلى أداة التنظيم النقابي المستقل، الذي كان إلى حد كبير الأساس التنظيمي الشعبي للتنظيم السياسي المستقل. وعموما لم يكن هناك انفصال بين السياقين الثقافي والنقابي مثلما نتبين من تحركات نقابية، مثل إضراب عملة الرصيف احتجاجا على المؤتمر «الافخارستي» ذي الطابع التنصيري سنة 1930.

مع انتهاء مرحلة «التحول الديمقراطي» الأولى، التي أفرزت في نهاية الأمر أسس النظام الديمقراطي، أي السيادة الوطنية لشعب محدد، حق الدستور التونسي والدولة التونسية، لن نرى نهاية للعلاقة التفاعلية النشطة بين السياقين الاقتصادي-الاجتماعي والسياسي في النصف الثاني من القرن الماضي. إذ إن إخفاق «التحول الديمقراطي» في الانتقال من إنجاز الحق الدستوري للتونسيين لحكم أنفسهم إلى تفعيل ذلك الحق كان ممكنا بالأساس بسبب التحالف الصلب بين المنظمة النقابية والمنظمة الحزبية، وهو ما تحقق في سياق الصراع البورقيبي اليوسفي. و «مؤتمر صفاقس» كان في نهاية الأمر مؤتمرا بسواعد نقابية من أجل تحالف سياسي جديد داخل السلطة. ويصعب حسم الأسباب البنيوية التي أدت إلى دعم غالبية المنظمة النقابية، قيادة وقواعد، لنظام استبدادي سيؤسس تدريجيا لكن بخطوات ثابتة لدولة الحزب الواحد، بل أيضا لنظام رئاسي مشخصنٍ أو «سلطاني» حسب تعريف إحدى مدارس العلوم السياسية. غير أن النموذج المكسيكي المشار إليه في الجزء الثاني من هذا المقال يحيلنا على إمكانية عقد صفقة يكون بمقتضاها الماسك بالسلطة السياسية راعيا أبويا اجتماعيا يقضي على أسباب وجود منظمة نقابية متمردة، بل يجعلها جزءا من السلطة عبر شخوصها أو دورها «الزبوني» (clientelism). ويوجد ما يكفي من المؤشرات على استقرار هذا الوضع في ستينيات القرن الماضي. كما أنه يوجد ما يكفي من المؤشرات على أن الحراك السياسي الذي استرجع أنفاسه بقوة مع سبعينيات القرن الماضي وموجات «اليسار الجديد» ثم الحركة الإسلامية في الثمانينيات لم تكن ممكنة إلا بسبب انفراط العقد السياسي-الاجتماعي بين السلطة والنقابة، مع اهتراء الدور الاجتماعي الرعوي والأبوي للسلطة السياسية وهو ما تعمق مع الأزمات الكبيرة في السبعينيات والثمانينيات. في المقابل فإن حصول تغيير في أعلى هرم السلطة في 7 نوفمبر 1987 مثل توجها نحو عودة لمعادلات الستينيات ولو تحت عناوين برامجية جديدة.

الخميس، أكتوبر 15، 2009

من أجل تقصي جدي و موضوعي و مقارن لمدى تأثر تونس بالازمة الاقتصادية-المالية العالمية

أود أن أكتب هنا و بسرعة مجموعة من الملاحظات المختصرة بناء على تقارير واحد من أجود الثينك تانكس في الولايات المتحدة "كارنيغي إندومانت" (Carnegie Endowment). سأركز على ثلاثة دراسات/تقارير صدرت في النشرية الاقتصادية لمؤسسة "كارنيغي" في جوان 2009 و كذلك في جويلية 2009. و هي موجودة على الروابط التالية مرتبة حسب الاهمية

http://www.carnegieendowment.org/publications/index.cfm?fa=view&id=23284
http://www.carnegieendowment.org/publications/index.cfm?fa=view&id=23286
http://www.carnegieendowment.org/publications/index.cfm?fa=view&id=23385

الدراسة الأولى تقدم عرضا عاما مع ترتيب لأكثر الدول المتضررة من الأزمة عبر العالم و الدروس المستفادة من ذلك. ثم صدر في جويلية مقال يركز على نقطة محددة من هذه الدراسة. في حين تقوم دراسة أخرى بالتركيز على الوضع في افريقيا. و فيما يلي ملاحظات تتجه مما هو عام (ما هو دولي) إلى ما هو خاص (افريقيا، تونس).

أولا، يتيبين الآن أن أقل الدول تضررا من الأزمة الحالية هي، للمفارقة، الصين ثم اليابان ثم الولايات المتحدة. نعم الولايات المتحدة من بين ثلاث أقل دول متضررة في العالم. و هذا يعني أن الصين و اليابان أي المستثمرين الأكبرين في السوق المالية الاميركية أي مركز الأزمة هما الأقل تضررا مع الولايات المتحدة ذاتها. في المقابل توجد مجموعة من "الدول النامية" خاصة من الأكثر قربا من السوق الاقتصادية الاميركية و من المقتحمين حديثا لأجواء اقتصادية انفتاحية في أوروبا الشرقية (أوكرانيا و المجر و بولونيا و بلغاريا) أو قريبة منها (روسيا) هي الأكثر تضررا من الأزمة الحالية. و هذا يعني أن قاعدة النظام الاقتصادي الدولي الراهن تحمي الاقوياء بنفس القدر الذي لا تحمي فيه الأقل قوة أو الضعفاء و ذلك بمعزل حتى عن مدى تعلق اقتصادياتهم بالاستثمار في السوق المالية التي كانت مركز الأزمة. و لهذا يجب التمييز بين الانخراط في النظام الاقتصادي الدولي و الانخراط في مركز النظام المالي الدولي. فالمفارقة هنا التي تعكس هيمنة رأس المال المالي أنه برغم المسؤولية الأولى لللاقتصاد المالي بالتحديد في صناعة الأزمة إلا أن مركز راس المال المالي هو الأقل تضرارا في حين يكفي أن توجد داخل النظام الاقتصادي الدولي في سياق انفتاحي كبير (خاصة حالة دول اوروبا الشرقية) فإنك ستكون الأكثر تضررا من الأزمة.

ثانيا، أن في السياق الافريقي من الواضح أن الدول التي لاتزال تعتمد على اقتصاديات زراعية و بارتباط محدود جدا بمبادلات دولية (تصدير و توريد) هي الأقل تضررا. أي الدول التي لم تسمح لها امكانياتها بأن توجد حتى في النظام الاقتصادي الدولي كانت أقل عرضة للأزمة. لكن هذا يعني تحديدا أن الدول التي كانت منخرطة في النظام الاقتصادي الدولي و بمعزل عن انخراطها في العملية الاستثمارية في مركز النظام الدولي هي الاكثر تضررا افريقيا.

ثالثا، تتموقع تونس (مثلما هو واضح من الجدول أسفله) في الترتيب العام في الرتبة 23 من بين الدول الأكثر تضررا في العالم من الازمة الاقتصادية مع تسجيل انخفاض في قيمة العملة يصل إلى 7.7 بالمئة. و بما أن البعض يركز على الجداول التراتبية يجب القول أنه باستثناء غانا فتونس هي "الاكثر تضررا" في افريقيا، و باستثناء لبنان هي "الاكثر تضررا" عربيا. فبرغم أن تونس لم تستثمر في مركز السوق المالي إلا أنها من بين "الأأكثر تضررا". و هذا يحيل على نقطة أساسية إذ رغم تركيز الرؤية الرسمية على أن تونس "بمنأى" عن الأزمة بسبب عدم استثمارها في السوق المالية إلا أن ذلك ليس المقياس أو الطريق الرئيسي للتضرر من الأزمة. فالارتبط بالمنظومة الاقتصادية الدولية ككل هي مقياس و طريق الأزمة الرئيسية حتى عندما يكون هذا الارتباط "بمنأى" عن الاستثمار المباشر في السوق المالية الامريكية.


نقطة أخيرة هناك ندوة نظمت في مركز "كارنيغي" بحضور خاصة جوزيف ستيغليتز حول الدين الدولي و اصلاح النظام المالي هامة للغاية يمكن مشاهدتها على الرابط التالي
http://www.cceia.org/resources/video/data/000265

الأحد، أكتوبر 11، 2009

في ضرورة التعمق في معضلة «التحول الديمقراطي» (3)

مقال صادر في "العرب" القطرية 11 أكتوبر 2009

http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=100866&issueNo=660&secId=15

في ضرورة التعمق في معضلة «التحول الديمقراطي» (3)

طارق الكحلاوي

2009-10-11
بمعزل عن مدى التقارب في الشكل أو المحتوى بين النماذج التاريخية المشار إليها في الجزء السابق من المقال مع الوضع أو الأوضاع العربية، فإننا يمكن أن نلاحظ أموراً أساسية عابرة للأوقات والثقافات والمجالات في هذه النماذج وهي كما يلي:

أولاً، إقرار حق التصويت للجميع لم يكن أمرا بديهيا في أي تجربة ديمقراطية. كان ذلك ممكنا فقط في إطار تنازلات من قبل الأطراف المهيمنة خوفا من انهيار النظام السياسي برمته.
ثانياً، إقرار حق التصويت بشكل فوقي وخارج الضغط لا يضمن ممارسته بشكل فعلي. فغياب قوى اجتماعية تمارس الضغط من أجل انتزاع حقوقها الأساسية يجعل حقوقها الدستورية من دون معنى.
ثالثا، الضغط من أجل انتزاع الحقوق السياسية كان شديد الارتباط بانتزاع الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. كما أن تحقيق نظام ديمقراطي مستديم غير ممكن من دون تحقيق نظام اقتصادي واجتماعي مستقر ويوفر رفاهية متزايدة لأعضائه.
رابعا، توفير رفاهية اقتصادية ومن ثمة اكتفاء غالبية سكانية بما هو موجود مع امتناع الأطراف المهيمنة عن التنازل عن السلطة كلها عوامل لا تجعل الانتقال نحو الديمقراطية أفقا تاريخيا بديهيا. ومن ثم يكون «اجتماع القاهر والمقهور» ظرفية طبيعية تنتزع إمكانية البقاء.

إن كل ذلك يدفعنا دفعا نحو أكثر الأسئلة إيلاما: هل يتوقف إمكان نجاح الدمقرطة على ظروف موضوعية (تحولات اقتصادية، اجتماعية...) أم على تراكم ممارسة الإرادة السياسية الواعية للناشطين الديمقراطيين؟ طرح هذا السؤال بمنهج إمبيريقي غير مسبوق الباحث الفنلندي تاتو فانهانن في أحد أكثر المؤلفات تأثيرا في الساحة الأكاديمية في علاقة بهذه المسألة المعنون «استراتيجيات الدمقرطة» (Strategies of Democratization). إذ وضع فانهانن مؤشرا قياسيا على أساس التجارب التاريخية للانتقال الديمقراطي وهو ما أوضح أن دور التحولات البنيوية (خاصة الاقتصادية والاجتماعية) يحوز على تأثير يفوق نسبة %70 في مسارات الدمقرطة في حين لا يمثل تأثير الناشطين الديمقراطيين سوى %30. وهنا يمكن أن نضيف مصادرة أكثر وضوحاً: أن ديمقراطيين حركيين لا يلقون التجاوب من مجتمعاتهم لا يستطيعون تحقيق الديمقراطية بمعزل عن مدى استماتتهم في نشاطهم السياسي أو الحقوقي.

ومن هنا يمكن أن نبدي استنتاجات أولية حول الوضع العربي. وقد أضحى الامتناع عن الدمقرطة في الوضع العربي مسألة جدال كوني بفعل الظروف السياسية الراهنة. حيث كان الوضع في العراق بعد الاحتلال العسكري ومشروع «إقامة الديمقراطية» فيه مصدر نقاش واسع حول «مدى الاستعداد العربي أو الإسلامي لتقبل الديمقراطية» و «الاستثناء العربي أو الإسلامي» في مسار الدمقرطة، رغم السياسوية الواضحة التي طغت على بعض أطراف ذلك الجدال وهو ما يمكن ملاحظته على سبيل المثال في مقالات العدد الرابع لسنة 2004 من «مجلة الديمقراطية» (Journal of Democracy). كما أنه حتى في التجارب التي عرفت هامشا من التنافس الجدي على بعض المواقع التشريعية في بعض الأقطار، ومن ثمة تهديدا للأحادية المطلقة المعتادة للطبقات الحاكمة، تميزت بضعف قناعة المنتخبين بجدوى العملية الديمقراطية وهو ما سهل حدوث مهازل جدية في علاقة بما أثير من قبل مصادر مستقلة حول «شراء ذمم المصوتين»، الأمر الذي حدث في السنين الأخيرة تحديداً في الانتخابات البرلمانية في مصر والمغرب وذلك حتى مع توفر إمكانية ترشح قوى سياسية تعد أصلاً في حكم المحظورة في أقطار عربية أخرى.

ولا يخضع الوضع العربي بالضرورة لنفس موانع أو دوافع الدمقرطة في التجارب أعلاه ولكن تنطبق عليه بعض مواصفاتها. وهكذا مثلا تبدو الضوابط الاقتصادية والاجتماعية مصدر أحد العوائق الرئيسية أمام الدمقرطة في الوضع العربي. ويكمن مصدر الجمود الأساسي في هذا الصدد في الضعف البالغ للقوى الاجتماعية والاقتصادية المستقلة عن السلطة السياسية وهو ما يبدو نتاجا لسيرورة تاريخية رسخت اشتراط مسار تركيم الثروة بعملية امتلاك السلطة. ينطبق هذا الضعف على الطبقات الفقيرة والغنية على السواء. ففي حالة الفئات الأولى بقيت هذه الطبقات حتى في حالاتها الأكثر حيوية، من جهة نشاطها النقابي، متعلقة بمجالات اقتصادية حكومية. وإذا استثنينا الحالات التي تفتقد حركات نقابية سواء شكلية أو جدية، فإن الأقطار التي شهدت وجود منظمات نقابية قوية لم تفلح في إيجاد تعبير سياسي ناجح عنها. وفي وضع مماثل لما حدث في المكسيك بقيت هذه المؤسسات المطلبية جزءا من مجال السلطة السياسية حتى في الحالات التي سمحت بوصول أطراف معارضة لمراكزها القيادية. من جهة أخرى كانت النشأة البطيئة والصعبة للطبقة البرجوازية المحلية وارتباطها شبه الدائم بمراكز السلطة السياسية أهم العوائق أمام انحلال استبداد السلط القائمة. غير أن هذه الضوابط الاقتصادية والاجتماعية لا تبدو وحدها وراء امتناع الدمقرطة في الوضع العربي. بل إن وجود بعض الحوافز الاقتصادية والاجتماعية يدعو لتساؤل جدي حول مدى تلاؤم الوضع العربي مع التفسير المرتبط بشكل مطلق بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية.

فرغم الارتباط بين السلطة والثروة فإن هناك قسما كبيرا، خاصة في سنوات الطفرة شبه الليبرالية الأخيرة، من طبقات المستغنين الذين لم يمروا حتما بالسلطة حتى يتوفروا على الثروة. فهؤلاء اتبعوا ذهنيا سلوكا يعكس قناعة بأن ديمومة ثروتهم مرتبطة حتما بالولاء للسلطة. وهكذا فإن نمو طبقة من الأثرياء غير السياسيين لا يعني ضرورة توجههم نحو الاستقلالية السياسية عن السلطة القائمة. والأمر الأهم أنه توجد أسباب سياسية «ما فوق قُطرية» تطرح في مركز الاهتمام الشعبي قضايا لا تشمل ضرورة مسألة الانتقال الديمقراطي. وتتموقع القضايا ذات الأبعاد القومية والإسلامية مثل الصراع العربي الإسرائيلي واحتلال العراق في صدارة الاهتمام الشعبي وفي أحيان كثيرة بشكل يتجاوز الاهتمام بمشاغل الحريات السياسية عدا موضوع الدمقرطة بشكل عام. يطرح ذلك بشكل جدي إمكانية أي تقدم نحو الدمقرطة بمعزل عن حل هذه الصراعات وهو الأمر الذي تعيه بشكل بالغ الأطراف المستفيدة من استمرار الوضع الراهن والتي كانت رفعت يافطة «أولية حل الصراع العربي الإسرائيلي» عند اشتداد الضغط عليها على مستوى ملف الدمقرطة بين سنتي 2003 و2004.

لكن من جهة أخرى من المثير للقلق التضاد الذي يمكن أن يتم اختلاقه بين «الحريات القومية» و «الحريات الديمقراطية». وهو تضاد مختلق في ذهنيات تبدو في وضع صراع مثل الناشطين الديمقراطيين أو الحقوقيين المتعلقين بمنظومات دولية والذين يهمشون أو يستعدون «القضايا القومية» مقابل الأطراف التي تستعدي «قضايا الحريات» بدعوى أنها مجرد جزء في مشهد عام من الاستراتيجية النيوكولنيالية. لكن من المثير أن الواقع يعكس تلازما قويا بين الوضعين. إذ إن الاستبداد له شكل دولي وليس محليا فقط. وهكذا لدينا قوى دولية تتصف بالاستبداد دوليا رغم اعتمادها على حالة التعاقد الاجتماعي الديمقراطي في سياق مجتمعاتها. ومواجهة الاستبداد الدولي لا يمكن أن يتم تهميشه تحت يافطة مواجهة حالات الاستبداد في المجتمعات ما قبل الديمقراطية بما في ذلك تلك العربية. بما في ذلك تحت تعلة الاستفادة من «الضغط الدولي» إذ إن القبول بتسويق الاستبداد الدولي لا يمكن إلا أن يعيق تطور المجتمعات ما قبل الديمقراطية. فوحدها المجتمعات ذات السيادة، وهو حال المجتمعات الديمقراطية الآن، هي تلك التي تستطيع أن تعرف حالة ديمقراطية مستديمة. في المقابل من غير المفهوم تبرير حالات الاستبداد الداخلي بالنسبة للقوى الرافضة للاستبداد الدولي. إذ إنه من المثير أن من بين أكثر الأطراف التي تتعرض لسياط الاستبداد الداخلي في الأوضاع العربية هي بالتحديد تلك المتصدرة فعليا لمواجهة حالة الاستبداد الدولي. ومن ثم من المفترض أن يصبح من صميم مصالحها الحيوية الدفاع عن تأسيس مجتمع ديمقراطي. إذ فقط في سياق مجتمع ديمقراطي يمكن للرافضين للاستبداد الدولي تسويق ممانعتهم له على قاعدة الدعم الشعبي المتوقع لأي مجتمع يفهم الحاجة لحقه القومي أو الوطني في السيادة. غير أن ذلك يبدو الآن متروكا لحالة التجربة والخطأ التي توجد عليها معظم هذه القوى.

الأحد، أكتوبر 04، 2009

في ضرورة التعمق في معضلة «التحول الديمقراطي» (2)

مقال صادر في "العرب" القطرية بتاريخ 4 أكتوبر


http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=99916&issueNo=653&secId=15

في ضرورة التعمق في معضلة «التحول الديمقراطي» (2)

طارق الكحلاوي

2009-10-04
عندما نتحدث عن السياق الواقعي لاستمرار أو انشطار العلاقة التفاعلية بين القاهر والمقهور فإننا نتحدث عن سياقها الاقتصادي والاجتماعي. غير أنه من الضروري التنبيه دائما أننا لسنا بصدد علاقة ميكانيكية بين هذه المستويات. وربما يبدو من المفاجئ أن نعتبر أن المجتمعات ما قبل الديمقراطية محظوظة في نهاية الأمر، إذ ستحظى بفرصة مراجعة تجارب البناء الديمقراطي حتى لا تضيع الكثير من الوقت في ممارسات سوريالية. ومن حسن الحظ هناك الكثير من الدراسات الأكاديمية التي اعتنت بشكل معمق بتقييم تاريخ تشكّل الديمقراطية في مختلف الظرفيات الجغرافية والسياسية. وتبرز في هذا الإطار أهمية خلاصات مجموعة من الدراسات قام بها عدد من أساتذة التاريخ المعاصر والعلوم السياسية في الولايات المتحدة وصدرت تحت عنوان «البناء الاجتماعي للديمقراطية بين سنتي 1870 و1990» (The Social Construction of Democracy، 1870-1990). من بين المسائل الأكثر إثارة للاهتمام التي تطرحها هذه الخلاصات صعوبة التمييز أحيانا في نظام سياسي ما قبل ديمقراطي بين طابعه الاستبدادي وطابعه الأبوي الاجتماعي الذي يعني في نهاية التحليل حداً أدنى من «الديمقراطية الاجتماعية».

ومن بين الأمثلة التي تسترعي الانتباه النموذج المكسيكي، حيث قامت دولة الحزب الواحد بإقحام النقابة العمالية الرئيسية بين الحربين في تسيير شؤون الدولة أو في أقل الأحوال تركها تلعب دورا سياسيا تعديليا ملاصقا لدور «الحزب المؤسسي الثوري» الذي واصل حكم البلاد لما يفوق السبعين عاما. وهكذا بعكس أمثلة أخرى في أميركا اللاتينية، مثل تشيلي أو الأرجنتين حيث سادت في فترات متقطعة دكتاتوريات عسكرية مكشوفة، كان الوضع في المكسيك شديد الضبابية وهو ما عرقل تطور حياة سياسية حقيقية بعيدا عن الحزب الحاكم والنقابات العمالية ومن ثم كان الانتقال نحو الديمقراطية الحديثة بطيئا ومعقدا. إذ استلزم الأمر في النهاية انقسام الحزب الحاكم على نفسه لكي تبرز قوى سياسية أخرى كانت دوما على الهامش الاجتماعي لينتهي احتكار الحزب الواحد للسلطة في الانتخابات الرئاسية لسنة 2000. وإذا راجعنا كلام الفارابي المشار إليه أعلاه في هذا الإطار فإن «اجتماع القاهر والمقهور» يصبح على أسس من بينها ضمان حد أدنى من الرعاية الاجتماعية وهو ما يسمح بتوافق الطرفين على استدامة القهر السياسي وبعض جوانب القهر الاجتماعي. ولهذا تحديدا فإنه بتآكل هذه الرعاية والانحسار السريع للطبقة الوسطى المكسيكية التي كانت تقف عادة إلى جانب النقابات العمالية، وهي الأمور التي حصلت بين ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، أصبح التوافق المسوّغ لحالة القهر وبالتالي قاعدة النظام السياسي المكسيكي مستحيلين. وهكذا من البديهي أنه بالرغم من نضالات الحركيين الديمقراطيين المكسيكيين طوال سبعين عاما كان من الضروري في النهاية توفر مثل هذه الظروف الموضوعية لكي يتحقق مسار الدمقرطة السياسية.

ولا تبدو التجربة المكسيكية الوحيدةَ التي تشير إلى هذا الأساس الاقتصادي-الاجتماعي لنظام القهر السياسي. إذ هناك تجارب أكثر نجاحا وأكثر استدامة تؤكد بدورها ظاهرة أخرى وهي أن نجاح الليبرالية الاقتصادية لا يجلب معه بشكل إلى الليبرالية السياسية. وقد تم التعرض بالتفصيل لمسألة الشرط الاقتصادي-الاجتماعي لتشكل الديمقراطية في مؤلّف آخر حظي بأهمية بالغة عند صدوره سنة 2006، إذ يواصل التدقيق في الإشكاليات التي طرحتها الدراسة المشار إليها أعلاه، وهو بعنوان «الجذور الاقتصادية للدكتاتورية والديمقراطية» (Origins of Dictatorship and Democracy). وهنا يقدم المؤلفان، آجم أوغلو وروبنسون، بعض النماذج في التاريخ السياسي المعاصر في محاولة لحصر جذور الدكتاتورية والديمقراطية. النموذج الأول البريطاني ويمثل الانتقال من حالة غير ديمقراطية إلى أخرى ديمقراطية بشكل بطيء ولكن مؤكد. النموذج الثاني هو الأرجنتيني ويمثل الانتقال إلى الديمقراطية ولكن في مسار شديد التعثر شهد حالات من الارتداد نحو حكومات عسكرية استبدادية. النموذج الثالث السنغافوري حيث لم يحصل انتقال نحو الديمقراطية.

في حالة النموذج البريطاني كان الانتقال إلى الديمقراطية بطيئا جدا ومشروطا بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية وبتأثير الضغط المتواصل لانتفاضات اجتماعية. فثورة 1688 والتي أدت لفرض «الدور البرلماني» في بريطانيا لم تحسم أي شيء حتى على المستوى القانوني النظري في علاقة بدور «المشاركة الشعبية» وكان ذلك متناسبا مع استمرار الدور الاجتماعي القوي لطبقة اللوردات. وكان على بريطانيا أن تنتظر مرحلة التصنيع السريع والنمو الكبير للطبقة العاملة والنقابات حتى تقر إصلاحات سنة 1833 والتي سمحت بحق الاقتراع لـ%14 من السكان الذكور وذلك في إطار تجنب أي انتفاضات اجتماعية. غير أن ذلك لم يكن سوى بداية طريق طويل من الإصلاحات الجزئية في جو من الفساد السياسي والتزوير وهو ما أدى إلى إصلاحات مستمرة تحت التهديد المتواصل لانتفاضات شعبية خاصة بين سنتي 1860 و1867. ثم تصل هذه الإصلاحات، أخيراً، سنة 1918 بفعل دور الطبقات الفقيرة في الحرب العالمية الأولى وخوفا من التأثير المتعاظم للثورة البلشفية، إلى الإقرار القانوني بحق التصويت لجميع الذكور (تم إلحاق الإناث ضمن هذا الحق سنة 1928). حينها فقط أصبح للطبقات الفقيرة ممثل سياسي، «حزب العمال»، والذي اختار المشاركة في النظام السياسي عوض الانخراط في النهج الثوري الذي طرحته الحركة الشيوعية العالمية. وكان ذلك شرطا رئيسيا سمح بتحقيق التداول على السلطة وخلق أجواء ديمقراطية ومستقرة تدعمت مع الإجماع السياسي مع نهاية الحرب العالمية الثانية على بناء «دولة الرفاه» (Welfare State).


في حالة النموذج الأرجنتيني فإن إقرار حق التصويت للجميع في دستور سنة 1853 لم يؤد إلى خلق أجواء ديمقراطية حقيقية حيث حكم حزب واحد يمثل القوى الاجتماعية المحافظة، «الحزب الذاتي الوطني»، بفضل عمليات انتخابية مزورة وروتينية وبمشاركة ضئيلة منذ ذلك الوقت حتى سنة 1910. وقد صمد النظام السياسي الأرجنتيني القهري بالرغم من القلاقل الاجتماعية، الناتجة عن مأزق النظام الاقتصادي القائم على التصدير الفلاحي. ولكن بفعل عدم حدوث تغيرات اجتماعية هامة واستمرار نفوذ كبار ملاك الأراضي الأرجنتينيين فقد رأت القوى المحافظة في العملية الديمقراطية تهديدا لها. وبفعل سيطرة هذه القوى تاريخيا على المؤسسة العسكرية قامت بأول انقلاب عسكري على الشرعية الديمقراطية في تاريخ الأرجنتين سنة 1930. ويبدو عدم الاستقرار السياسي الأرجنتيني ناتجا عن ضعف الطبقات الاجتماعية المهيمنة اقتصاديا مقابل عدم قدرة الطبقات الفقيرة على التوفر على قيادات غير شعبوية، وهو ما أدى باستمرار لتأرجح العملية الديمقراطية. كل ذلك بدا من الماضي عندما نجحت الإصلاحات الليبرالية القاسية التي تم اعتمادها منذ سنوات السبعينيات من القرن الماضي في الخروج من هيمنة طبقة ملاك الأراضي وصعود طبقات مَدينية وصناعية جديدة سمحت بإقامة توازن اجتماعي وبالإقرار التدريجي للتداول السلمي على السلطة.

أما في النموذج السنغافوري، وبعد فترة طويلة من الاحتلال البريطاني بوصفها منطقة تجارية حرة طالما خضعت لاحتكار «شركة الهند الشرقية» البريطانية فقد فرض السكان المحليون (غالبيتهم صينيون) سنة 1959 «الحكم الذاتي» وحقهم في انتخاب «برلمان محلي» لا يخضع للسلطة القهرية للحاكم البريطاني. وقام الحزب الذي أمسك بالسلطة، حزب العمل الشعبي، بعملية تصنيع واسعة خرجت بسنغافورة من وضعية الوسيط التجاري التي سبق أن فرضها الاحتلال البريطاني. في المقابل قام الحزب الحاكم بمحاصرة النقابات والتي أخضعها تماما لسيطرة الحكومة بحلول سنة 1968 حينما قام بالتجريم القانوني للإضرابات. في خضمّ ذلك تم الاستقلال النهائي عن بريطانيا سنة 1965. ومنذ ذلك الوقت واصل الحزب الحاكم سيطرته على السلطة بالرغم من تعدد الانتخابات خاصة في ظل القمع والمحاصرة المستمرة لمعارضيه (التي تصل حتى المنع من العمل وحق إقامة مشاريع خاصة والاعتقال بدون محاكمة) حيث لم تفز الأطراف المعارضة إلا نادرا ببضعة مقاعد من البرلمان وهو ما أدى إلى إدخال إصلاح سياسي سنة 2001 يتم بمقتضاه منح مقاعد لبعض المعارضين المقربين من الحزب الحاكم. كانت هذه الهيمنة القهرية الناعمة، والتي لم تصطدم بأية احتجاجاتٍ قويةٍ، ممكنةً بفعل ظروف موضوعية محددة. من بينها أن الحزب الحاكم الذي استوعب منذ البداية أفضل الكفاءات الدارسة في بريطانيا نجح في تحقيق نمو اقتصادي قوي ورفع مستوى المعيشة والرعاية الاجتماعية للسكان. كل ذلك، مع الضغط والتحرش المتواصلين بأي طرف معارض، يفسر وضوح حكام سنغافورة، والذين يتداولون السلطة الآن عبر الوراثة، في عدم الاعتذار عن واقع الديمقراطية الصورية وحتى الإعلان عن أن «الحزب هو الحكومة والحكومة هي الحزب» (تصريح سنة 1990 لحاكم سنغافورة منذ استقلالها لي كوان يو، وقد خلفه أحد المقربين منه سنة 1990 قبل أن يمسك ابنه بمقاليد السلطة سنة 2004). وربما هذا المثال بالتحديد الذي يقربنا شكلاً من بعض الحالات العربية.