الأحد، أكتوبر 04، 2009

في ضرورة التعمق في معضلة «التحول الديمقراطي» (2)

مقال صادر في "العرب" القطرية بتاريخ 4 أكتوبر


http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=99916&issueNo=653&secId=15

في ضرورة التعمق في معضلة «التحول الديمقراطي» (2)

طارق الكحلاوي

2009-10-04
عندما نتحدث عن السياق الواقعي لاستمرار أو انشطار العلاقة التفاعلية بين القاهر والمقهور فإننا نتحدث عن سياقها الاقتصادي والاجتماعي. غير أنه من الضروري التنبيه دائما أننا لسنا بصدد علاقة ميكانيكية بين هذه المستويات. وربما يبدو من المفاجئ أن نعتبر أن المجتمعات ما قبل الديمقراطية محظوظة في نهاية الأمر، إذ ستحظى بفرصة مراجعة تجارب البناء الديمقراطي حتى لا تضيع الكثير من الوقت في ممارسات سوريالية. ومن حسن الحظ هناك الكثير من الدراسات الأكاديمية التي اعتنت بشكل معمق بتقييم تاريخ تشكّل الديمقراطية في مختلف الظرفيات الجغرافية والسياسية. وتبرز في هذا الإطار أهمية خلاصات مجموعة من الدراسات قام بها عدد من أساتذة التاريخ المعاصر والعلوم السياسية في الولايات المتحدة وصدرت تحت عنوان «البناء الاجتماعي للديمقراطية بين سنتي 1870 و1990» (The Social Construction of Democracy، 1870-1990). من بين المسائل الأكثر إثارة للاهتمام التي تطرحها هذه الخلاصات صعوبة التمييز أحيانا في نظام سياسي ما قبل ديمقراطي بين طابعه الاستبدادي وطابعه الأبوي الاجتماعي الذي يعني في نهاية التحليل حداً أدنى من «الديمقراطية الاجتماعية».

ومن بين الأمثلة التي تسترعي الانتباه النموذج المكسيكي، حيث قامت دولة الحزب الواحد بإقحام النقابة العمالية الرئيسية بين الحربين في تسيير شؤون الدولة أو في أقل الأحوال تركها تلعب دورا سياسيا تعديليا ملاصقا لدور «الحزب المؤسسي الثوري» الذي واصل حكم البلاد لما يفوق السبعين عاما. وهكذا بعكس أمثلة أخرى في أميركا اللاتينية، مثل تشيلي أو الأرجنتين حيث سادت في فترات متقطعة دكتاتوريات عسكرية مكشوفة، كان الوضع في المكسيك شديد الضبابية وهو ما عرقل تطور حياة سياسية حقيقية بعيدا عن الحزب الحاكم والنقابات العمالية ومن ثم كان الانتقال نحو الديمقراطية الحديثة بطيئا ومعقدا. إذ استلزم الأمر في النهاية انقسام الحزب الحاكم على نفسه لكي تبرز قوى سياسية أخرى كانت دوما على الهامش الاجتماعي لينتهي احتكار الحزب الواحد للسلطة في الانتخابات الرئاسية لسنة 2000. وإذا راجعنا كلام الفارابي المشار إليه أعلاه في هذا الإطار فإن «اجتماع القاهر والمقهور» يصبح على أسس من بينها ضمان حد أدنى من الرعاية الاجتماعية وهو ما يسمح بتوافق الطرفين على استدامة القهر السياسي وبعض جوانب القهر الاجتماعي. ولهذا تحديدا فإنه بتآكل هذه الرعاية والانحسار السريع للطبقة الوسطى المكسيكية التي كانت تقف عادة إلى جانب النقابات العمالية، وهي الأمور التي حصلت بين ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، أصبح التوافق المسوّغ لحالة القهر وبالتالي قاعدة النظام السياسي المكسيكي مستحيلين. وهكذا من البديهي أنه بالرغم من نضالات الحركيين الديمقراطيين المكسيكيين طوال سبعين عاما كان من الضروري في النهاية توفر مثل هذه الظروف الموضوعية لكي يتحقق مسار الدمقرطة السياسية.

ولا تبدو التجربة المكسيكية الوحيدةَ التي تشير إلى هذا الأساس الاقتصادي-الاجتماعي لنظام القهر السياسي. إذ هناك تجارب أكثر نجاحا وأكثر استدامة تؤكد بدورها ظاهرة أخرى وهي أن نجاح الليبرالية الاقتصادية لا يجلب معه بشكل إلى الليبرالية السياسية. وقد تم التعرض بالتفصيل لمسألة الشرط الاقتصادي-الاجتماعي لتشكل الديمقراطية في مؤلّف آخر حظي بأهمية بالغة عند صدوره سنة 2006، إذ يواصل التدقيق في الإشكاليات التي طرحتها الدراسة المشار إليها أعلاه، وهو بعنوان «الجذور الاقتصادية للدكتاتورية والديمقراطية» (Origins of Dictatorship and Democracy). وهنا يقدم المؤلفان، آجم أوغلو وروبنسون، بعض النماذج في التاريخ السياسي المعاصر في محاولة لحصر جذور الدكتاتورية والديمقراطية. النموذج الأول البريطاني ويمثل الانتقال من حالة غير ديمقراطية إلى أخرى ديمقراطية بشكل بطيء ولكن مؤكد. النموذج الثاني هو الأرجنتيني ويمثل الانتقال إلى الديمقراطية ولكن في مسار شديد التعثر شهد حالات من الارتداد نحو حكومات عسكرية استبدادية. النموذج الثالث السنغافوري حيث لم يحصل انتقال نحو الديمقراطية.

في حالة النموذج البريطاني كان الانتقال إلى الديمقراطية بطيئا جدا ومشروطا بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية وبتأثير الضغط المتواصل لانتفاضات اجتماعية. فثورة 1688 والتي أدت لفرض «الدور البرلماني» في بريطانيا لم تحسم أي شيء حتى على المستوى القانوني النظري في علاقة بدور «المشاركة الشعبية» وكان ذلك متناسبا مع استمرار الدور الاجتماعي القوي لطبقة اللوردات. وكان على بريطانيا أن تنتظر مرحلة التصنيع السريع والنمو الكبير للطبقة العاملة والنقابات حتى تقر إصلاحات سنة 1833 والتي سمحت بحق الاقتراع لـ%14 من السكان الذكور وذلك في إطار تجنب أي انتفاضات اجتماعية. غير أن ذلك لم يكن سوى بداية طريق طويل من الإصلاحات الجزئية في جو من الفساد السياسي والتزوير وهو ما أدى إلى إصلاحات مستمرة تحت التهديد المتواصل لانتفاضات شعبية خاصة بين سنتي 1860 و1867. ثم تصل هذه الإصلاحات، أخيراً، سنة 1918 بفعل دور الطبقات الفقيرة في الحرب العالمية الأولى وخوفا من التأثير المتعاظم للثورة البلشفية، إلى الإقرار القانوني بحق التصويت لجميع الذكور (تم إلحاق الإناث ضمن هذا الحق سنة 1928). حينها فقط أصبح للطبقات الفقيرة ممثل سياسي، «حزب العمال»، والذي اختار المشاركة في النظام السياسي عوض الانخراط في النهج الثوري الذي طرحته الحركة الشيوعية العالمية. وكان ذلك شرطا رئيسيا سمح بتحقيق التداول على السلطة وخلق أجواء ديمقراطية ومستقرة تدعمت مع الإجماع السياسي مع نهاية الحرب العالمية الثانية على بناء «دولة الرفاه» (Welfare State).


في حالة النموذج الأرجنتيني فإن إقرار حق التصويت للجميع في دستور سنة 1853 لم يؤد إلى خلق أجواء ديمقراطية حقيقية حيث حكم حزب واحد يمثل القوى الاجتماعية المحافظة، «الحزب الذاتي الوطني»، بفضل عمليات انتخابية مزورة وروتينية وبمشاركة ضئيلة منذ ذلك الوقت حتى سنة 1910. وقد صمد النظام السياسي الأرجنتيني القهري بالرغم من القلاقل الاجتماعية، الناتجة عن مأزق النظام الاقتصادي القائم على التصدير الفلاحي. ولكن بفعل عدم حدوث تغيرات اجتماعية هامة واستمرار نفوذ كبار ملاك الأراضي الأرجنتينيين فقد رأت القوى المحافظة في العملية الديمقراطية تهديدا لها. وبفعل سيطرة هذه القوى تاريخيا على المؤسسة العسكرية قامت بأول انقلاب عسكري على الشرعية الديمقراطية في تاريخ الأرجنتين سنة 1930. ويبدو عدم الاستقرار السياسي الأرجنتيني ناتجا عن ضعف الطبقات الاجتماعية المهيمنة اقتصاديا مقابل عدم قدرة الطبقات الفقيرة على التوفر على قيادات غير شعبوية، وهو ما أدى باستمرار لتأرجح العملية الديمقراطية. كل ذلك بدا من الماضي عندما نجحت الإصلاحات الليبرالية القاسية التي تم اعتمادها منذ سنوات السبعينيات من القرن الماضي في الخروج من هيمنة طبقة ملاك الأراضي وصعود طبقات مَدينية وصناعية جديدة سمحت بإقامة توازن اجتماعي وبالإقرار التدريجي للتداول السلمي على السلطة.

أما في النموذج السنغافوري، وبعد فترة طويلة من الاحتلال البريطاني بوصفها منطقة تجارية حرة طالما خضعت لاحتكار «شركة الهند الشرقية» البريطانية فقد فرض السكان المحليون (غالبيتهم صينيون) سنة 1959 «الحكم الذاتي» وحقهم في انتخاب «برلمان محلي» لا يخضع للسلطة القهرية للحاكم البريطاني. وقام الحزب الذي أمسك بالسلطة، حزب العمل الشعبي، بعملية تصنيع واسعة خرجت بسنغافورة من وضعية الوسيط التجاري التي سبق أن فرضها الاحتلال البريطاني. في المقابل قام الحزب الحاكم بمحاصرة النقابات والتي أخضعها تماما لسيطرة الحكومة بحلول سنة 1968 حينما قام بالتجريم القانوني للإضرابات. في خضمّ ذلك تم الاستقلال النهائي عن بريطانيا سنة 1965. ومنذ ذلك الوقت واصل الحزب الحاكم سيطرته على السلطة بالرغم من تعدد الانتخابات خاصة في ظل القمع والمحاصرة المستمرة لمعارضيه (التي تصل حتى المنع من العمل وحق إقامة مشاريع خاصة والاعتقال بدون محاكمة) حيث لم تفز الأطراف المعارضة إلا نادرا ببضعة مقاعد من البرلمان وهو ما أدى إلى إدخال إصلاح سياسي سنة 2001 يتم بمقتضاه منح مقاعد لبعض المعارضين المقربين من الحزب الحاكم. كانت هذه الهيمنة القهرية الناعمة، والتي لم تصطدم بأية احتجاجاتٍ قويةٍ، ممكنةً بفعل ظروف موضوعية محددة. من بينها أن الحزب الحاكم الذي استوعب منذ البداية أفضل الكفاءات الدارسة في بريطانيا نجح في تحقيق نمو اقتصادي قوي ورفع مستوى المعيشة والرعاية الاجتماعية للسكان. كل ذلك، مع الضغط والتحرش المتواصلين بأي طرف معارض، يفسر وضوح حكام سنغافورة، والذين يتداولون السلطة الآن عبر الوراثة، في عدم الاعتذار عن واقع الديمقراطية الصورية وحتى الإعلان عن أن «الحزب هو الحكومة والحكومة هي الحزب» (تصريح سنة 1990 لحاكم سنغافورة منذ استقلالها لي كوان يو، وقد خلفه أحد المقربين منه سنة 1990 قبل أن يمسك ابنه بمقاليد السلطة سنة 2004). وربما هذا المثال بالتحديد الذي يقربنا شكلاً من بعض الحالات العربية.

0 التعليقات: