الأحد، أكتوبر 11، 2009

في ضرورة التعمق في معضلة «التحول الديمقراطي» (3)

مقال صادر في "العرب" القطرية 11 أكتوبر 2009

http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=100866&issueNo=660&secId=15

في ضرورة التعمق في معضلة «التحول الديمقراطي» (3)

طارق الكحلاوي

2009-10-11
بمعزل عن مدى التقارب في الشكل أو المحتوى بين النماذج التاريخية المشار إليها في الجزء السابق من المقال مع الوضع أو الأوضاع العربية، فإننا يمكن أن نلاحظ أموراً أساسية عابرة للأوقات والثقافات والمجالات في هذه النماذج وهي كما يلي:

أولاً، إقرار حق التصويت للجميع لم يكن أمرا بديهيا في أي تجربة ديمقراطية. كان ذلك ممكنا فقط في إطار تنازلات من قبل الأطراف المهيمنة خوفا من انهيار النظام السياسي برمته.
ثانياً، إقرار حق التصويت بشكل فوقي وخارج الضغط لا يضمن ممارسته بشكل فعلي. فغياب قوى اجتماعية تمارس الضغط من أجل انتزاع حقوقها الأساسية يجعل حقوقها الدستورية من دون معنى.
ثالثا، الضغط من أجل انتزاع الحقوق السياسية كان شديد الارتباط بانتزاع الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. كما أن تحقيق نظام ديمقراطي مستديم غير ممكن من دون تحقيق نظام اقتصادي واجتماعي مستقر ويوفر رفاهية متزايدة لأعضائه.
رابعا، توفير رفاهية اقتصادية ومن ثمة اكتفاء غالبية سكانية بما هو موجود مع امتناع الأطراف المهيمنة عن التنازل عن السلطة كلها عوامل لا تجعل الانتقال نحو الديمقراطية أفقا تاريخيا بديهيا. ومن ثم يكون «اجتماع القاهر والمقهور» ظرفية طبيعية تنتزع إمكانية البقاء.

إن كل ذلك يدفعنا دفعا نحو أكثر الأسئلة إيلاما: هل يتوقف إمكان نجاح الدمقرطة على ظروف موضوعية (تحولات اقتصادية، اجتماعية...) أم على تراكم ممارسة الإرادة السياسية الواعية للناشطين الديمقراطيين؟ طرح هذا السؤال بمنهج إمبيريقي غير مسبوق الباحث الفنلندي تاتو فانهانن في أحد أكثر المؤلفات تأثيرا في الساحة الأكاديمية في علاقة بهذه المسألة المعنون «استراتيجيات الدمقرطة» (Strategies of Democratization). إذ وضع فانهانن مؤشرا قياسيا على أساس التجارب التاريخية للانتقال الديمقراطي وهو ما أوضح أن دور التحولات البنيوية (خاصة الاقتصادية والاجتماعية) يحوز على تأثير يفوق نسبة %70 في مسارات الدمقرطة في حين لا يمثل تأثير الناشطين الديمقراطيين سوى %30. وهنا يمكن أن نضيف مصادرة أكثر وضوحاً: أن ديمقراطيين حركيين لا يلقون التجاوب من مجتمعاتهم لا يستطيعون تحقيق الديمقراطية بمعزل عن مدى استماتتهم في نشاطهم السياسي أو الحقوقي.

ومن هنا يمكن أن نبدي استنتاجات أولية حول الوضع العربي. وقد أضحى الامتناع عن الدمقرطة في الوضع العربي مسألة جدال كوني بفعل الظروف السياسية الراهنة. حيث كان الوضع في العراق بعد الاحتلال العسكري ومشروع «إقامة الديمقراطية» فيه مصدر نقاش واسع حول «مدى الاستعداد العربي أو الإسلامي لتقبل الديمقراطية» و «الاستثناء العربي أو الإسلامي» في مسار الدمقرطة، رغم السياسوية الواضحة التي طغت على بعض أطراف ذلك الجدال وهو ما يمكن ملاحظته على سبيل المثال في مقالات العدد الرابع لسنة 2004 من «مجلة الديمقراطية» (Journal of Democracy). كما أنه حتى في التجارب التي عرفت هامشا من التنافس الجدي على بعض المواقع التشريعية في بعض الأقطار، ومن ثمة تهديدا للأحادية المطلقة المعتادة للطبقات الحاكمة، تميزت بضعف قناعة المنتخبين بجدوى العملية الديمقراطية وهو ما سهل حدوث مهازل جدية في علاقة بما أثير من قبل مصادر مستقلة حول «شراء ذمم المصوتين»، الأمر الذي حدث في السنين الأخيرة تحديداً في الانتخابات البرلمانية في مصر والمغرب وذلك حتى مع توفر إمكانية ترشح قوى سياسية تعد أصلاً في حكم المحظورة في أقطار عربية أخرى.

ولا يخضع الوضع العربي بالضرورة لنفس موانع أو دوافع الدمقرطة في التجارب أعلاه ولكن تنطبق عليه بعض مواصفاتها. وهكذا مثلا تبدو الضوابط الاقتصادية والاجتماعية مصدر أحد العوائق الرئيسية أمام الدمقرطة في الوضع العربي. ويكمن مصدر الجمود الأساسي في هذا الصدد في الضعف البالغ للقوى الاجتماعية والاقتصادية المستقلة عن السلطة السياسية وهو ما يبدو نتاجا لسيرورة تاريخية رسخت اشتراط مسار تركيم الثروة بعملية امتلاك السلطة. ينطبق هذا الضعف على الطبقات الفقيرة والغنية على السواء. ففي حالة الفئات الأولى بقيت هذه الطبقات حتى في حالاتها الأكثر حيوية، من جهة نشاطها النقابي، متعلقة بمجالات اقتصادية حكومية. وإذا استثنينا الحالات التي تفتقد حركات نقابية سواء شكلية أو جدية، فإن الأقطار التي شهدت وجود منظمات نقابية قوية لم تفلح في إيجاد تعبير سياسي ناجح عنها. وفي وضع مماثل لما حدث في المكسيك بقيت هذه المؤسسات المطلبية جزءا من مجال السلطة السياسية حتى في الحالات التي سمحت بوصول أطراف معارضة لمراكزها القيادية. من جهة أخرى كانت النشأة البطيئة والصعبة للطبقة البرجوازية المحلية وارتباطها شبه الدائم بمراكز السلطة السياسية أهم العوائق أمام انحلال استبداد السلط القائمة. غير أن هذه الضوابط الاقتصادية والاجتماعية لا تبدو وحدها وراء امتناع الدمقرطة في الوضع العربي. بل إن وجود بعض الحوافز الاقتصادية والاجتماعية يدعو لتساؤل جدي حول مدى تلاؤم الوضع العربي مع التفسير المرتبط بشكل مطلق بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية.

فرغم الارتباط بين السلطة والثروة فإن هناك قسما كبيرا، خاصة في سنوات الطفرة شبه الليبرالية الأخيرة، من طبقات المستغنين الذين لم يمروا حتما بالسلطة حتى يتوفروا على الثروة. فهؤلاء اتبعوا ذهنيا سلوكا يعكس قناعة بأن ديمومة ثروتهم مرتبطة حتما بالولاء للسلطة. وهكذا فإن نمو طبقة من الأثرياء غير السياسيين لا يعني ضرورة توجههم نحو الاستقلالية السياسية عن السلطة القائمة. والأمر الأهم أنه توجد أسباب سياسية «ما فوق قُطرية» تطرح في مركز الاهتمام الشعبي قضايا لا تشمل ضرورة مسألة الانتقال الديمقراطي. وتتموقع القضايا ذات الأبعاد القومية والإسلامية مثل الصراع العربي الإسرائيلي واحتلال العراق في صدارة الاهتمام الشعبي وفي أحيان كثيرة بشكل يتجاوز الاهتمام بمشاغل الحريات السياسية عدا موضوع الدمقرطة بشكل عام. يطرح ذلك بشكل جدي إمكانية أي تقدم نحو الدمقرطة بمعزل عن حل هذه الصراعات وهو الأمر الذي تعيه بشكل بالغ الأطراف المستفيدة من استمرار الوضع الراهن والتي كانت رفعت يافطة «أولية حل الصراع العربي الإسرائيلي» عند اشتداد الضغط عليها على مستوى ملف الدمقرطة بين سنتي 2003 و2004.

لكن من جهة أخرى من المثير للقلق التضاد الذي يمكن أن يتم اختلاقه بين «الحريات القومية» و «الحريات الديمقراطية». وهو تضاد مختلق في ذهنيات تبدو في وضع صراع مثل الناشطين الديمقراطيين أو الحقوقيين المتعلقين بمنظومات دولية والذين يهمشون أو يستعدون «القضايا القومية» مقابل الأطراف التي تستعدي «قضايا الحريات» بدعوى أنها مجرد جزء في مشهد عام من الاستراتيجية النيوكولنيالية. لكن من المثير أن الواقع يعكس تلازما قويا بين الوضعين. إذ إن الاستبداد له شكل دولي وليس محليا فقط. وهكذا لدينا قوى دولية تتصف بالاستبداد دوليا رغم اعتمادها على حالة التعاقد الاجتماعي الديمقراطي في سياق مجتمعاتها. ومواجهة الاستبداد الدولي لا يمكن أن يتم تهميشه تحت يافطة مواجهة حالات الاستبداد في المجتمعات ما قبل الديمقراطية بما في ذلك تلك العربية. بما في ذلك تحت تعلة الاستفادة من «الضغط الدولي» إذ إن القبول بتسويق الاستبداد الدولي لا يمكن إلا أن يعيق تطور المجتمعات ما قبل الديمقراطية. فوحدها المجتمعات ذات السيادة، وهو حال المجتمعات الديمقراطية الآن، هي تلك التي تستطيع أن تعرف حالة ديمقراطية مستديمة. في المقابل من غير المفهوم تبرير حالات الاستبداد الداخلي بالنسبة للقوى الرافضة للاستبداد الدولي. إذ إنه من المثير أن من بين أكثر الأطراف التي تتعرض لسياط الاستبداد الداخلي في الأوضاع العربية هي بالتحديد تلك المتصدرة فعليا لمواجهة حالة الاستبداد الدولي. ومن ثم من المفترض أن يصبح من صميم مصالحها الحيوية الدفاع عن تأسيس مجتمع ديمقراطي. إذ فقط في سياق مجتمع ديمقراطي يمكن للرافضين للاستبداد الدولي تسويق ممانعتهم له على قاعدة الدعم الشعبي المتوقع لأي مجتمع يفهم الحاجة لحقه القومي أو الوطني في السيادة. غير أن ذلك يبدو الآن متروكا لحالة التجربة والخطأ التي توجد عليها معظم هذه القوى.

0 التعليقات: