الأحد، جويلية 26، 2009

أحمد بن صالح (1)

هذا المقال الأول من سلسلة من المقالات تفاعلا مع لقاءات جمعتني و ستجمعني مع السيد أحمد بن صالح هذا الصيف

صدر في جريدة "العرب" القطرية 26 جويلية
http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=90515&issueNo=580&secId=15

أحـمـد بـن صـالـح (1)

طارق الكحلاوي

2009-07-26
درجت في السنوات الأخيرة، عند قضاء العطلة في تونس، على أن أحاول الالتقاء بمن أعتبره "عميد السياسيين" و "عميد رموز الحركة الوطنية" التونسية، السيد أحمد بن صالح. شاءت الظروف منذ سنوات قليلة أن تشرفت، من موقعي المواطن و المؤرخ، بمجالسة هذه الشخصية غير العادية و الاستماع طيلة ساعات طوال إلى دفق ذاكرته الثاقبة و التي نادرا ما تنسى تفصيلا زمنيا رغم مرور عقود طويلة بتعرجاتها و تعقيداتها. الرجل الذي تجاوز سن الثمانين لايزال متقد الذهن بشكل مثير للاعجاب. في ظل التجاهل الذي عرفه طيلة عقود طويلة من قبل وسائل الاعلام الرسمية في بلده و إزاء الحملات الدعائية التي تركزت عليه بدون توقف حتى هذه اللحظة بدا لي أن ذاكرته المتقدة هي حصنه الأول و الأخير. هي أقوى و أفضل ما تبقى له، و هي تركته التي يهتم بتنظيمها و عرضها بنفسه. لم يبق الرجل منسيا تماما في بلده إذ اهتم به "مركز التميمي" المهتم بتجميع "الذاكرة الوطنية" و أجرى حوارات في بعض المجلات و الصحف غير الحكومية. غير أنك تشعر أنك بصدد "ثروة وطنية"، من حيث كم و نوع المعطيات التي يحملها، لكنها ثروة مهدورة خاصة إذا لم يقم مثلا أي تلفزيون عربي و بالخصوص "التلفزيون الوطني" التونسي بتسجيل هذه الذاكرة الاستثنائية. و لهذا السبب تحديدا ربما شعرت هذه المرة بالذنب عند مجالسته لعدم تحبيري في السابق لما يقوله الرجل.

هيبة بن صالح هي أول الانطباع الذي يمكن أن يحدثه على جليسه. لكنها هيبة المتواضع و ليس المتكبر. قصير القامة و يتحدث بدون تكلف و بكل حماس و لكن شعره الابيض الكثيف و سلاسة حديثه و السيجار الكوبي الذي يأخذ منه أحيانا قليلة بعض الأنفاس و طريقة جلوسه على الأريكة لساعات طوال بدون أي تغيير تفرض عليك إنجذابا مشهديا للرجل. و من الصعب تقديم تعريف كلاسيكي لبن صالح. طبعا يمكن عرض كل المعلومات المعروفة بشكل كرونولوجي حتى نفهم الموقع الهام الذي يقف فيه في تاريخ البلاد لكنه يبقى أكثر تعقيدا من أن نحكي سيرته من خلال جرد للأحداث.

يبدو لي أن تعريفه يتداخل مع تعريف الخطوط العامة للاتجاهات الحركية في تونس قبيل و ما بعد "الاستقلال". رغم حداثة سنه فرض بن صالح احتراما مبكرا في صفوف الحركة التحررية مما جعله يلعب أدوارا محورية مثل كونه حلقة الوصل بينها و بين ملك البلاد "المنصف باي" المنفي في باريس و قد تجاوز بالكاد العقد الثاني من عمره في النصف الثاني من أربعينات القرن. كان يتميز عن الكثيرين بأنه يضع ساقيه في المراكز القيادية للهيكلين الأكثر أهمية في تلك المرحلة أي "الحزب الحر الدستوري الجديد" و "الاتحاد العام التونسي للشغل"، أي الذراعين الأكثر طولا و نفوذا، الذراعين السياسية و الاجتماعية للحركة الوطنية التونسية. على عكس رموز أخرى بما في ذلك الحبيب بورقيبة و صالح بن يوسف التي تميزت بصفاتها السياسية و فرحات حشاد و أحمد التليلي و الحبيب عاشور التي تميزت بصفاتها النقابية، يبرز بن صالح بتلازم الصفتين. و رغم ذلك من غير الصعب أن يلحظ المرء كم يحز في نفسه نسيانه ليس فقط من السجل السياسي للحزب بل ربما الأهم من السجل الاحتفالي للحركة النقابية، إذ أن صورته هي الوحيدة التي لا تعلق في مقرات "اتحاد الشغل" إلي جانب بقية صور زعمائه التاريخيين.

كان ذلك محور بداية حديثه هذه المرة. إذ تزامن لقاؤنا مع نشر الصحيفة الرئيسية الممثلة للمنظمة النقابية التونسية لمقالات لعميد المحامين السابق و أحد المقربين من القيادي النقابي التاريخي الحبيب عاشور تركزت حول ما عرف بـ"أزمة سنة 1965" و التي انتهت بإقصاء عاشور من قيادة "اتحاد الشغل". بدا بن صالح مستعجبا من المعطيات التي أوردها كاتب المقال و التي تركزت حول عداء بن صالح لعاشور و عمله على الاطاحة به و الاهم بـ"استقلالية" الحركة النقابية إثر "مؤتمر بنزرت" للحزب الحاكم و الذي انتهى بتغيير أسم الحزب إلى "الحزب الاشتراكي الدستوري" و صعود بن صالح إلى "الديوان السياسي". رجع بي بن صالح إلى العلاقة الخاصة و المميزة التي جمعته بعاشور. ذكر مثلا لقاءه الحميمي به في المنفى الأوروبي قبيل الاستقلال عندما أشار عاشور إلى وصية مؤسس "اتحاد الشغل" و شهيد الحركة النقابية فرحات حشاد الذي قال لعاشور : "حافظوا على بن صالح". تذكر بن صالح أيضا لقاءه مع عاشور قبيل إنتهاء "هجرته الثانية" من البلاد (قبل 1988) عندما كان الرجلان يتقاسمان الاقصاء من قبل الرئيس الراحل بورقيبة في أوروبا و حين أكد عاشور لبن صالح عدم وجود خلافات بينهما. تذكر بن صالح أيضا مرحلة الستينات و ما سبق "أزمة سنة 1965" عندما كان يزوره عاشور في مقرات الوزارات الكثيرة التي كان يشغلها مرتين في الشهر للقاء و طلب المساعدة في مشاغل تخص المنظمة النقابية.

لكن الملف الأهم بدا تحديدا موضوع "استقلالية" الاتحاد عن سلطة ما بعد الاستقلال. يرفض بن صالح اتهامه بأنه كان يقود العمل على "تصفية" المنظمة النقابية كمنظمة مستقلة و دمجها بالسلطة. أشار بالتحديد إلى السياق العام و الذي كان فيه "إجماع" سياسي و نقابي على إعادة تعريف العلاقة بين المنظمتين السياسية و النقابية للحركة التحريرية. ذكر بشكل خاص بنقطتين: أولهما انتماء غالبية كبيرة من مؤسسي و اعضاء "اتحاد الشغل" إلى "حزب الدستور" و عضوية عاشور و التليلي في قيادة الحزب، و ثانيهما إقرار أعضاء قيادة الحزب بأن غياب برنامج اقتصادي و اجتماعي للحزب مقابل حيازة "اتحاد الشغل" على برنامج مماثل يجعل تمتين العلاقة بين المنظمتين مسألة محورية. كانت تداول هذه الأفكار سابقا عن الاستقلال ذاته. اشار بن صالح مثلا إلى موافقة و حماس رموز سياسية، اصبحت معادية له لاحقا، مثل عبد الله فرحات على هذا التوجه. أشار أيضا إلى موافقة كل قيادة الاتحاد بما في ذلك رموز بحجم عاشور و التليلي على هذه العلاقة و خاصة على جعل رؤى "اتحاد الشغل" المنبثقة على دراسات شارك في إعدادها بن صالح هي رؤى و برامج "الحزب". أشار بن صالح كذلك إلى التوافق الكبير بينه و بين صالح بن يوسف حول هذا الموضوع منذ ما قبل الاستقلال بما في ذلك في أحد اللقاءات في ستوكهولم حيث تم التركيز على العلاقة الوطيدة و المتداخلة في نماذج أحزاب اشتراكية ديمقراطية صاعدة آنذاك في أوروبا بين الحزب و النقابة.

بشكل عام ما يبدو أنه نقطة تتسحق الانتباه أن "استقلالية" المنظمة النقابية كانت ضعيفة خاصة بعد "مؤتمر صفاقس" الذي أنقذ التيار البورقيبي من خسارة قواعده الحزبية إزاء الصراع مع التيار اليوسفي. لكن مثلما يقول بن صالح كان القبول بالبرامج الاقتصادية و الاجتماعية و لـ"اتحاد الشغل" في اطار "تكاتيك" (تكتيكات) لحسم الصراع البورقيبي اليوسفي قبل أن يبدي بورقيبة رفضه في وقت لاحق لهذه الرؤية. الاندماج في الحزب، و الذي كان يرمز إليه إنتماء عاشور نفسه لـ"الديوان السياسي" للحزب بما في ذلك إثر "مؤتمر بنزرت" يحيل على صراع أكثر تعقيد و لا يتعلق بصراع بين "مستقلين" و "موالين" للحزب.

الأحد، جويلية 19، 2009

الحزب ومغزى صراع الذكريات


مقال صدر في "العرب" القطرية الاحد 19 جويلية 2009
الرابط
http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=89616&issueNo=573&secId=15

الحزب ومغزى صراع الذكريات

طارق الكحلاوي

2009-07-19
تكثفت في الأشهر الأخيرة حوارات ومقالات وتقارير في الإعلام التونسي تتصل بالحدث التاريخي، غير أنها بقدر ما تعكس اهتماما بالماضي فهي تعكس أيضا هموم الحاضر. هناك التقارير التي غطت جلسة نظمتها «مؤسسة التميمي» ذات الاهتمام التاريخي قدمت فيها شهادة (على حلقتين في انتظار حلقة ثالثة) لأحمد التليسي والذي كان يشغل موقع «الحارس الشخصي» للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ولكن الأهم أنه كان محققا ومشرفا على ملاحقات أمنية طالت أواخر الخمسينيات الشق «اليوسفي» (نسبة إلى صالح بن يوسف خاصة تياره ذي الميول العروبية-الإسلامية) داخل الحزب الرئيسي لحركة التحرير الوطني، الحزب الحر الدستوري الجديد. شهادة التليسي استفزت -ولا تزال- ردود فعل وتعقيبات متنوعة زادت في إثارتها. في ذات الوقت يواصل أحمد بن صالح -الذي كان أكثر الوزراء التونسيين حيازة لحقائب وزارية في الستينيات والرجل الثاني في الدولة قبل ملاحقته من قبل بورقيبة- نشر مذكراته من خلال حوارات صحافية. وبرغم أنها ليست الأولى من نوعها، إذ سبق له نشر بعضها عبر «مؤسسة التميمي» سابقا، فإن نشرها في صحيفة واسعة الانتشار مع صورته أحيانا في صدر الصفحة الأولى جعل هذا الرمز السياسي في التاريخ المعاصر للبلاد حاضرا من جديد في المشهد العام، رغم تواصل تجاهله من قبل مؤسسة الإعلام الرسمية لعقود.

في الحالتين لدينا حلقة جديدة من حلقات تحدي التاريخ الرسمي «البورقيبي» للحركة الوطنية، وبالتحديد تاريخ الحزب الحر الدستوري الجديد، عبر وسائل اتصال شعبوية، ومن ثم هي الأكثر قدرة على جعل نقاش الحدث التاريخي تعبيرا بهذه الدرجة أو تلك عن هموم الحاضر. وفي الحالتين يبدو الحزب الحر الدستوري الجديد -الذي أمسك ولا يزال بالسلطة تحت مسمياته المتنوعة- محور إعادة تفهم وتصور وتفكيك بما يمكن أن يعكس تباينات حول حاضره ومستقبله.
إن التليسي -الذي يستحق بعد شهادته لقب «جلاد اليوسفيين»- أثار الكثير من الجراح، ليس فقط لأنه اعترف بوضوح بتعذيب خصوم الرئيس بورقيبة من «اليوسفيين»، بل أيضا لأنه أنكر تهم قتلهم. أثارت تصريحاته ردود فعل متنوعة خاصة في منابر صحافية مستقلة كانت في السابق محسوبة على التيار «اليوسفي». كانت هناك مثلا ردود ضحايا وزملاء سابقين للتليسي من الذين أكدوا حدوث ما يفوق التعذيب في الموقع السيئ الذكر في المدينة القديمة لتونس المعروف باسم «سباط الظلام» (القبو المظلم) والذي بقي رمزا لدهاليز التعذيب في مؤسسة الدولة الوطنية الجديدة. لكن الأهم من بين تلك الردود الحقوقية القانونية التي ركزت بناء على «اعترافات التليسي» (المسجلة صوتا وصورة وبحضور شهود) على حق الضحايا في محاسبة جلاديهم ومحاكمتهم، حتى لو مر على الحدث عشريات عديدة، إذ جريمة التعذيب مثلما تم التذكير «لا تسقط بالتقادم». وبدا كأن الأمر خارج السيطرة عندما عبر التليسي -تفاعلا مع ردود الأفعال- بأنه «مستعد للمحاكمة» قبل أن يحاول التراجع -حسب ما شاع في الأيام الأخيرة- عن تصريحاته السابقة. هذه نقطة فارقة؛ لأنها فتحت أكثر الملفات المسكوت عنها في تاريخ الدولة الوطنية، ملف تعذيبها لخصومها. وإذا فتح ملف التليسي فإنه لن يبقى مبرر لعدم فتح ملفات بقية «الجلادين»، ولن يكون من الغريب -إذا تواصل التداول فيما يمكن تسميته الآن بـ «قضية التليسي»- أن تتشكل لجان وهيئات تطالب بمحاكمتهم بمعزل عن الزمان والمكان.

التيار «اليوسفي» تحديدا والذي مثل لعقود خلفية البديل الذي يحمل الخطاب «العروبي-الإسلامي» في مواجهة سلطة الرئيس الراحل بورقيبة، داخل الحزب ثم خارجه، كان عرضة لحملة ملاحقة وتنكيل مثلت جزءا رئيسيا من أساس بناء الدولة الوطنية ذاته. فعبر هذا الإقصاء وعبر آلياته العنيفة تم إرساء المؤسسة الردعية للدولة، ومن ثم هوية الدولة الجديدة وبنيتها، إذ أصبح كل خصوم الحزب، أو على الأصح التيار السائد في الحزب، خصوم الدولة ذاتها، ومن ثم فهم عرضة للتهميش المادي والمعنوي بشكل عام وليس التهميش عن مواقع السلطة فحسب. وكانت أوساط «اليوسفيين» هي الأوساط التي خرجت من عباءتها التيارات القومية والإسلامية في التاريخ المعاصر للبلاد ممن تعرضوا بهذه الدرجة أو تلك لنفس المصير. لكن إثر رحيل الرئيس بورقيبة عن السلطة استفاد «اليوسفيون» -وليس بالضرورة ورثتهم- من خطوات أعادت نسبيا بعض اعتبارهم بما في ذلك إعادة رفات صالح بن يوسف الذي اغتالته اليد الطولى لأجهزة بورقيبة الردعية، إلى أرض الوطن. ولكن امتدت عملية إعادة الاعتبار إلى عودة بعض «اليوسفيين» وحتى تواجدهم في مواقع رسمية بين البرلمان والمجلس الاستشاري. لكن عودة الاعتبار الأهم هي العودة القوية ثقافيا وسياسيا للخطاب «العروبي-الإسلامي» للبلاد في السنوات الأخيرة مخترقا أوساطا شعبية وشبه رسمية ورسمية أيضا. ومن المثير للاهتمام أن هذه العودة تتم فيما تتم تحت يافطة حقوقية مثل مقاومة التعذيب بما يعنيه من تهديد لثقافة الدولة كما عرفها التونسيون لعقود.

في المقابل لا يعتبر أحمد بن صالح أحد رموز التيار «اليوسفي» تحديدا، إذ رغم محاولته تحقيق المصالحة بين الزعيمين التاريخيين للحزب، فإنه أسهم في نهاية الأمر بشكل كبير في حسم الصراع داخل الحزب لمصلحة بورقيبة في «مؤتمر صفاقس»، من خلال القوة الاعتبارية والجماهيرية لمؤسسة «الاتحاد العام التونسي للشغل» الذي كان يقوده. لكن رغم ذلك فإن بن صالح كان رمزا للعلاقة الوطيدة بين سياسات «اجتماعية» طبعت ولا تزال الدولة الوطنية (فشل بعضها وليس كلها مثلما قامت الآلة الدعائية للدولة بترويجه على قاعدة تهميش خصومها إثر الخلاف بين بورقيبة وبن صالح) ورؤية «عالم ثالثية» (Tier-mondiste) تركز على محور «عدم الانحياز»، ومن ثم تلتقي بشكل كبير مع الرؤى العروبية الناصرية خلال الستينيات، مما يفسر صداقاته الواسعة والوثيقة مع نخب قومية من سوريا إلى العراق حتى مصر. إن بن صالح، أستاذ اللغة والآداب العربية والمغرم كثيرا بالشعر العربي وفي ذات الوقت صاحب الثقافة الفرانكفونية الواسعة، يمثل على غرار صالح بن يوسف تعبيرا عن النخبة التحريرية التي «جمعت بين الأصالة والمعاصرة». إن بن صالح الذي يتجنب انتقاد بورقيبة بشكل مباشر ويحترم تراث الرئيس الراحل النضالي والمؤسس في الحركة الوطنية، يركز في مذكراته على دور رموز أخرى في تحقيق استقلال البلاد. يبدو بن صالح بشكل خاص قريبا عاطفيا من «المنصف باي» والذي مات منفيا وكان يتمتع بموقف وطني استثنائي تقريبا بين أوساط النخبة الملكية من الأسرة الحسينية التي حكمت البلاد لقرون. ينسب بن صالح -الذي كان مقربا من الملك الراحل وحلقة الوصل بينه وبين الحزب- مواقف تصل حتى التعبير عن نية «إعلان الجمهورية» في حال عودته إلى البلاد، مما كان يمكن أن يجعل المنصف باي وليس بورقيبة أول رئيس للبلاد.
إن عودة الروح إلى صور وذكريات غير بورقيبية أو بشكل أخص معارضة لبورقيبة وفي الوقت نفسه مؤسسة ومشكلة لتاريخ حزب التحرير والسلطة، تحيل على تعقيد العلاقة بين التيارات المختلفة التي شقت البلاد، إذ تزاملت الشخوص والرؤى في ذات الحزب وفي ذات السلطة لعقود قبل الاختلاف والافتراق. إذ لا يمكن تشكيل الصورة ضمن حدود «الأبيض والأسود». كما أن تذكرها يشير إلى حاجة للتذكر، واستحضارها يعبر عن حاجة الحاضر إليها. حاجة النظر إلى تاريخ رسمي واتجاه سائد مجانب بعض الشيء للبورقيبية. الحاجة للنظر إلى «العروبي-الإسلامي» مثلا في سياق «العادي» والقديم وليس «الاستثنائي» والجديد. فهل سيكون لذلك تأثير على تصور الحزب لذاته وهويته ودوره؟

في كل الأحوال لا تحدث التغييرات عادة في تونس بشكل درامي، بل متسربلة في كثير من الهدوء والصمت والقليل، فقط القليل من التراجيديا. كما أن التغييرات إذا لمست الشكل وبعض الخطاب فلا يعني بالضرورة أنها ستمس المضمون. إذ يمكن للحزب -كما حدث في السابق- أن يغير جلده ومن ثم جلد الدولة، لكن لا يعني ذلك حتما تغيير جوفه ومن ثم المساهمة في تغيير جوف الدولة. وبهذا المعنى يمكن أن يرجع «اليوسفيون» مثلا أو ورثتهم، لكن من غير الضروري أن ترجع سياساتهم أو ثقافة محاسبة «الجلادين»، لكن العكس ممكن أيضا.

الأحد، جويلية 12، 2009

حول إصلاح مؤسسات التعليم العالي واختصاص «الإنسانيات»


مقال صدر في "العرب" القطرية الاحد 12 جويلية
http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=88625&issueNo=566&secId=15

حول إصلاح مؤسسات التعليم العالي واختصاص «الإنسانيات»

طارق الكحلاوي

2009-07-12
إزاء أزمة حقيقية في منظومات التعليم العالي العربية، تكثفت في السنوات الأخيرة مبادرات حكومية متنوعة في اتجاه الإصلاح، وعلى سبيل المثال تم في تونس الإعلان منذ سنة 2005 عن مشروع «إصلاح تعليم» تحت تسمية منظومة «أمد» (اختصاراً لـ «أستاذية - ماجستير- دكتوراه»)، والذي بدأت ملامحه التطبيقية تتضح للعيان خاصة مع بداية السنة الدراسية القادمة، ولو أن ذلك يعترض رفضا وتململا من قبل الممثلين النقابيين للإطار التعليمي.

غير أنه كان من الواضح أن ذلك لم يكن نتيجة مبادرة مفاجئة منعزلة عن السياق الدولي، ولا يخفي المدافعون عن هذا المشروع، على الأقل على مستوى التحاليل الإخبارية المنشورة على مواقع رسمية أو مقربة من الدوائر الرسمية، تركيزهم على النقاشات والمشروعات الأوروبية خلال العشرين سنة الماضية في إطار توحيد منظومة التعليم العالي الأوروبية خاصة تحديد العوامل التي جعلت المنظومات التعليمية الأنجلوسكسونية (الأميركية على وجه الخصوص) أكثر فاعلية من غيرها على مستوى مساهمتها في العملية الإنتاجية المباشرة، وهو ما يجعل فهم التجربة الأوروبية ضروريا للغاية لمحاولة فهم ما يحصل في بعض التجارب الإصلاحية العربية، وقد تبلورت الرؤية الأوروبية عبر «اتفاقات بولونيا» أو «مسار بولونيا» (Bologna Process) سنة 1999، وتطبيقات محلية يهمنا منها بشكل خاص المثال الفرنسي (LMD) والذي يختصر (License-Master-Doctorat)، وهو الذي كان على ما يبدو النموذج المباشر لمنظومة «أمد»، إلى الحد الذي جعل البعض يتحدث عن «استنساخ» أو مجرد تعريب «منظومة أمد» للمشروع الفرنسي، وتستغرق هذه المنظومة الأوروبية بما في ذلك الفرنسية نظرياً ثماني سنوات، إذ يقع منح «الأستاذية» بعد ثلاث سنوات دراسية (السنة الدراسية 60 نقطة أو ما يعادل ما بين 1500 و1800 ساعة دراسة)، والماجستير سنتان والدكتوراه ثلاث سنوات، وبذلك تم تخفيض السنوات التي كانت مخصصة لـ «الأستاذية» في فرنسا بمعدل سنة دراسية ووقع إدماج «الأستاذية» القديمة مع «شهادة الدراسات المعمقة» تحت تسمية «الماجستير» وحصر «الدكتوراه» في ثلاث سنوات.

وكانت الخلاصة الرئيسية العملية -التي انتهت إليها الرؤية الأوروبية في قمة وزراء التعليم الأوروبيين سنة 1999- أن اعتماد المنظومة التعليمية الأميركية يجعل التعليم العالي الأوروبي قادرا على الاحتكاك ومن ثم الاستفادة منها وأيضا الانفتاح على سوق أوسع عالميا من الكفاءات العلمية، وبمعنى آخر فقد كان الإصلاح التعليمي الأوروبي بالأساس اعترافا وترسيخا لواقع المركزية الكونية كماً ونوعاً للمنظومة التعليمية الأميركية، لكن ما يهمنا هنا بالتحديد أن الفهم الأوروبي للنموذج الأميركي اتجه بشكل خاص نحو منافسة المنظومة الأميركية خاصة عبر التركيز على الفصل بين «التخصص المهني» و»التخصص الأكاديمي»، ويهدف الأول للتكوين الموجه بشكل مباشر وحصري نحو «الاقتصاد المباشر»، بينما يهدف الثاني للتكوين في اتجاه «البحث» و»التدريس الجامعي».
ثم وفي نفس الإطار يتم التركيز من حيث كمّ الطلبة والإطار التعليمي والموارد على «التخصص المهني»، لكن النيات الأوروبية للاقتداء بالتجربة الأميركية لا تعني أننا بصدد نفس النموذج التعليمي، ويجب هنا ملاحظة هنا أن المنظومة الأوروبية الجديدة التي تختزل سنوات الدراسة، وبرغم اقترابها من المنظومة الأميركية فإنها تستغرق أقل منها على مستوى السنوات، فمثلاً شهادة «الأستاذية» القديمة في الحالة الفرنسية تعادلها في المنظومة الأميركية «شهادة الباشلر» (Bachelor’s Degree) وهي تستغرق ثماني سداسيات أو أربع سنوات، في حين أن «الماجستير» الأميركي يستغرق سنة ونصف السنة بعد أربع السنوات الأولى، وفي المقابل يمكن لشهادة «الدكتوراه» الأميركية أن تستغرق حتى ثماني سنوات.

الأهم من ذلك أن المنظومة التعليمية الأميركية لا تتميز بفصل قسري بين «المهني» و»الأكاديمي»، إذ يمكن لأي طالب أن يغير خياراته ويعيد ترتيب أولوياته حسب تقدمه الدراسي، وهكذا مثلا يحق للطالب الأميركي أن يكون له تخصصان: أحدهما رئيسي والآخر ثانوي، كما يتم حثه على تنويع الدروس التي يتلقاها بما في ذلك خارج التخصصين الأول والثاني، وهكذا يقع الدفع مثلا بطلبة اختصاصات الطب والتجارة لأخذ دروس في «الإنسانيات»، وبذلك يقوم الطالب بتجريب مواهبه وتبقى خياراته مفتوحة على ذلك الأساس، وهو ما يجعله قادرا على التوجه نحو «البحث» إذا رأى في نفسه القدرة والرغبة في ذلك، ومن الواضح أن الفصل القسري بين هذه المسارات في النموذج الأوروبي هو الذي يمثل أحد أكبر مصادر الانتقاد فيه خاصة في الحالة الألمانية، وبالإضافة إلى كل ذلك فإن المنظومة التعليمية الأميركية لا يتم تقريرها بشكل مركزي إذ لا تخضع لميزانيات حكومية فحسب (فيدرالية أو ميزانيات الولايات) بل يوجد ثقل كبير لمصادر التمويل غير الحكومية، وهو إطار لا يمكن استنساخه في الحالة الأوروبية وفقا للظرف الراهن، إذاً كخلاصة أولى يجب التوقف عن الحديث عن «نموذج عولمي» أحادي مكرر بما في ذلك إثر الإصلاح التعليمي الأوروبي سنة 1999، وفي نفس الاتجاه لا يمكن أن نرى في منظومة «أمد» التونسية مثلا استنساخا كاملا للمنظومة الفرنسية، خاصة أنها احتوت مبادرات لم تحصل في هذه المنظومة، ويتعلق ذلك خاصة بدمج تخصصات يبدو أنه يتم النظر إليها من قبل وزارة الإشراف على أنها «أكاديمية» الطابع، مثلا دمج شهادتي التاريخ والجغرافيا بالنسبة لـ «الإنسانيات» والكيمياء والفيزياء بالنسبة لـ «العلوم»، وهو توجه يشدد أكثر في اختزال المسار «البحثي»، عدا عن أن قرارا بهذا الحجم والذي يمس الجانب المنهجي والتدريسي لا يمكن أن يتخذه التكنوقراط أو الإدارة بدون إشراك كامل للأكاديميين المشرفين على الجانب التعليمي، وهو ما لا يبدو حاصلا خاصة إذا نظرنا إلى ردود الفعل الرافضة مثلا لأساتذة التاريخ والجغرافيا.

ولكن بشكل عام، إذ كان اختزال السياق «البحثي» في مختلف هذه المنظومات «الإصلاحية» يهم كافة أقسام التعليم العالي فإنه يمس بدرجة أكبر قسم «الإنسانيات». اختصاص «الإنسانيات» (humanities)، أو حسب التعبير الفرنسي ذي الخلفية الوضعية والأكثر ثقة «العلوم الإنسانية» (sciences humaines)، والذي يضم مناهج وتخصصات مثل الفلسفة واللغات والآداب والتاريخ والجغرافيا وعلوم الآثار والأنثروبولوجيا يشهد مساءلة عبر العالم وليس الآن من حيث «مردوده الإنتاجي»، ويجب القول هنا إن هذه المساءلة ليست جديدة وتأتي في سياق دولي يمكن الإشارة إلى نقطة بدئه في بداية الثمانينيات في الولايات المتحدة خلال الأزمة الاقتصادية آنذاك. إذ تشير أرقام مؤسسة بحثية متخصصة في «الإنسانيات» في الجامعات الأميركية (Humanities Resource Center) أنه منذ ذلك الوقت انخفضت نسبة الطلبة والأساتذة المنضوين تحت «الإنسانيات» لتستقر في حدود نسبة %8 من مجموع الإطار التعليمي مقارنة بالنسب المرتفعة السابقة التي بلغت أوجها في الستينيات، وهناك جدال متصاعد في الولايات المتحدة حول «الإنسانيات» يزيد حدة خاصة عندما يتضح أن ظرف الأزمات الاقتصادية يمس بشكل أكبر هذا المجال، إذ على سبيل المثال أعلن ما يزيد عن عشر مؤسسات تعليمية وسط العام خاصة بعد اشتداد الأزمة الاقتصادية عن تراجعها عن انتداب أساتذة في اختصاصات مثل الفلسفة وعلوم الأديان، ووصل الأمر بجامعات كبيرة مثل «جامعة يال» أن أعلنت «تجميد» أية خطط لانتدابات جديدة خاصة في «الإنسانيات»، في حين أعلنت جمعية تهتم بتدريس اللغات أن الانتداب في هذا الاختصاص نزل هذه السنة إلى أدنى درجة له منذ ما يزيد عن الثلاثين عاماً، وفي هذا الإطار بالتحديد يعلن البعض «موت الإنسانيات» و»الأستاذ الأخير»، وهو عنوان أحد أكثر الكتب مبيعاً هذا العام لستانلي فيش (Stanley Fish) أستاذ الإنسانيات والكاتب في صحيفة «نيويورك تايمز»، وزادت الميزانية المقررة من قبل إدارة أوباما والتي تركز على تمويل «البحث العلمي» دون «الإنسانيات» في تأزيم هذا الجدال.

لكن طبعا كل ذلك لا يعني أننا بصدد اضمحلال هذا الاختصاص في الولايات المتحدة حيث تلعب المؤسسات البحثية في الجامعات الأميركية دورا كبيرا في صناعة الرأي العام وفي تمويل الإدارات الأميركية المتعاقبة بالخبرات الجامعية، وهنا فمن الواضح أن نقاش «موت الإنسانيات» يختلف من حيث الخلفية والواقع والإمكانات مع أوضاع أخرى يعيش فيها هذا المجال أصلا تهميشا من قبل الذهنية السائدة فما بالك في وضع أزمة اقتصادية.

الأحد، جويلية 05، 2009

الحدث الإيراني.. بوصفه شأناً تونسياً

تفاعلا مع بعض النقاشات التي شهدناها في الفايسبوك و غيره حول حدث الاحتجاجات الايرانية


مقال صدر في "العرب" القطرية 5 جويلية 2009
الرابط
http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=87910&issueNo=559&secId=15

الحدث الإيراني.. بوصفه شأناً تونسياً

طارق الكحلاوي

2009-07-05
أتاحت الفضاءات الافتراضية العامة، خاصة الشبكة الاجتماعية "فيس بوك"، في الأسابيع الأخيرة فرصة لتونسيين متعطشين لنقاش الشأن العام للخوض في طبيعة الأزمة الإيرانية ومعانيها بحماسة لافتة توحي بأنهم بصدد مناقشة شأن تونسي. الانخراط (الافتراضي) التونسي تراوح بين التفكير والانخراط العاطفي ضد ومع الاحتجاجات. بدا أن الحدث الإيراني بالأهمية التي جذبت اهتمام حتى من لا يهتم عادة بالشأن الإقليمي ولا يراه ذا علاقة بالشأن المحلي. بالإضافة لتأثير العولمة الإخبارية الإلكترونية كان من الواضح أن الزوايا التونسية المتلقية لمشهد الأزمة الإيرانية طغت عليها الانشغالات المحلية؛ إذ وجدت في هذا المشهد كل المكونات الكافية للشأن المحلي من الصراع حول الإدماج السياسي والحريات وعلاقة الدين بالسياسة وبالدولة وعلاقة الشأن الوطني/ المحلي بالشأن القومي/ الإسلامي ومن ثَمَّ موضوع الصراع العربي- الإسرائيلي وأيضا موضوع الهوية المذهبية والعلاقة السنية الشيعية.

لم يكن لإيران الكثير من الحضور في الذهنية العامة التونسية حتى بداية الثمانينيات. حينها فقط أمكن للتونسيين التعرف على الصورة الجديدة لإيران كأنها صورتها الأبدية، صورة "الثورة الإسلامية" وصورة الإمام الخميني. كان الوسيط الرئيس لعملية التعارف هذه صعود الحركة الإسلامية التونسية والتي عمدت السلطة التونسية آنذاك للترويج لأعضائها عبر التعبير الشعبوي الاختزالي "الخمينيين". ولكن لم يكن ذلك مجرد إسقاط دعائي؛ إذ تشير معظم المصادر المتاحة إلى أن "الثورة الإسلامية" أصبحت بسرعة بالنسبة لحركة "الاتجاه الإسلامي" التونسية نموذجها "الثوري" المفقود في ظرفية سياسية كان فيها لكل طرف سياسي تونسي معارض ذو ثقل، وبالتالي كل طرف سياسي يعمل خارج الأطر القانونية "ثورته النموذجية" التي تميز طريقة "الثوري" الراديكالي. ربما لم تكن كل الحركة بنفس درجة التعلق بروح الثورة الإيرانية وبأسلوبها ومن ثَمَّ بتصورها الخاص بتونس لكن كان من الواضح أن الخطاب التعبوي الإسلامي استلهم بعمق مشهد الثورة الإيرانية، خاصة في سياق سجالاته مع بقية الخطابات التعبوية الثورية المتنافسة على كسب تعاطف جمهورٍ تونسيٍ كانت ذائقته السياسية آنذاك تميل للقطع مع السلطة بشكل راديكالي. وفي المقابل درج الخط الرئيس للخطاب الثوري المضاد خاصة منه اليساري الماركسي التونسي لاعتبارات أيديولوجية عامة وسياسية محلية للتركيز على النموذج الإيراني بوصفه "رجعيا" و "ظلاميا" و "دليلا" على أن أية حركة إسلامية هي "حركة بالضرورة استبدادية".

لكن عبر السنين كانت هناك أيضا وسائط أخرى أسهمت في تشكيل صورة إيران، أو صورها، في الذهنية العامة التونسية. كانت الحرب العراقية- الإيرانية إحدى تلك الوسائط، ليس لأنها موضوع يومي في نشرات الأخبار بل أيضا والأهم لوجود عمالة تونسية كبيرة نسبيا في العراق ولأن النظام العراقي حرص على التواجد في تونس بما في ذلك من خلال طبع كتب مجانية في مادة التاريخ لطلبة الثانويات. ثم كان الانخراط الإيراني في الشأن العراقي والذي انتهى إلى تشكّل صورة "مذهبية" لإيران بدلا عن صورتها القديمة "الثورية". السياق العراقي لنظر التونسيين لإيران كان في الغالب سلبيا وأخذ بعدا مذهبيا متصاعدا، خاصة في السنوات الأخيرة من خلال امتداد خطاب "سلفي" إلى شبيبة تونسية حديثة التدين في مقابل أقلية جديدة من الشباب التونسيين "المتشيعين"، وكان هذا الاستقطاب واقعيا على ما يبدو عبر سجالات دارت عبر مساجد وأحياء شعبية، وضمنه يمكن أن نستمع إلى اختزال إيران في التوصيف السالب "الرافضة". ومن المناسب الإشارة هنا إلى أن هناك تركيزا في الاستقطاب المذهبي الشيعي فعلا وترويجا على الوضع التونسي بوصف تونس مهد أول "خلافة شيعية" (الدولة الفاطمية) وفي هذا الإطار نجد أكثر "المتبصرين" (أي السنة الذين تشيعوا) رواجا في المنابر الشيعية من أصل تونسي. لكن في المقابل كان هناك وسيط آخر يفعل في اتجاه مضاد للوسيط السابق وهو القرابة السياسية والاستراتيجية بين "قوى الممانعة العربية"، وبالخصوص حركتا حزب الله وحماس، مع النظام الإيراني. التعاطف الشعبي التونسي مع هذه القوى وبالخصوص في ظروف المعارك الموضعية مع إسرائيل كان يعني تعاطفا مع النظام الإيراني، خاصة أن هذه القرابة السياسية والاستراتيجية تتعالى واقعيا على الاستقطاب المذهبي بما هي مؤسسة على رؤية محددة للصراع العربي- الإسرائيلي بمعزل عن سنية أو تشيع أي طرف.

إذاً إيران أو نموذجها السياسي والفكري كان لما يقارب الـ3 عقود بشكل من الأشكال شأناً تونسياً. وبهذا المعنى كانت ردود الفعل مفارقة ومتناقضة المصادر والرغبات إلى حد أنه من الصعب أن نجد انطباعا تونسيا منسجما فيما يخص الأزمة الإيرانية، حتى بالنسبة للشخص الواحد أحيانا. وكانت السجالات التونسية الأخيرة تسقط أحيانا بسهولة في التقييمات السياسوية المبسَّطة وحتى المتناقضة بما في ذلك تحمس بعض الحركيين الديمقراطيين للوضع في إيران إلى درجة تخالهم فيها جزءا من الحركة الاحتجاجية في طهران، والأشرطة الخضراء على جبهاتهم ومعاصمهم (الافتراضية)، في الوقت الذي يرفضون فيه عادة وبشكل صارم أي انشغال تونسي بـ "أحداث شرق أوسطية لا تهمنا". لكن كان من اللافت بشكل خاص خلال السجالات التونسية التي حدثت في الأسابيع الأخيرة تقييم علاقة الخارج بعملية التغيير الديمقراطي ونماذج "الثورات المخملية" المعلبة. بدا من الواضح حتى بالنسبة لبعض المؤمنين الجديين (نظريا وعمليا) بمقولات التغيير الديمقراطي بما في ذلك في أشكاله الاحتجاجية أن هناك حساسية شديدة من أية إمكانية تشير إلى تجيير قوى خارجية خاصة منها الغربية للتحركات الداخلية بما يهدد استقلالية الدولة الوطنية/ القومية في مقابل خطاب آخر يجتر الاهتمام الحقوقي الدعائي لبعض الإعلام الغربي السائد والسطحي للوضع في إيران. يأتي ذلك حتى بمعزل عن اتهامات "الاستقواء بالخارج" التي تتردد بشكل روتيني؛ إذ إن الإشكالية الإيرانية هي بالنسبة للبعض أيضا إشكالية تونسية رغم بعض الفوارق؛ إذ حتى من دون عامل الصراع بين إيران وبعض القوى الغربية فإن المسألة التي تستدعي الانتباه بشكل حاسم في أزمات مماثلة هي مدى جدوى وقيمية القبول بأجندة خارجية للتغيير الداخلي. وقد كان النموذج العراقي بالنسبة لكل من تجاهل هذه المعادلة المعقدة إذ أصبحت رموز "الانتقال الديمقراطي" في عراق محتل جزءا من أزمة التغيير ذاتها.

إذ إن النقاش الحقيقي في هذا السياق ليس حول أطروحات تبسيطية وتعميمية من نوع تمثيل أحمدي نجاد لـ "الفقراء" مقابل "تبرجز" تيار "الإصلاحيين" واختصاصهم بـ "الفساد" أو حتى الاتهامات العامة والمؤسسة على تأويلات غامضة حول "الموقف المعادي للمقاومة" لتيار "الإصلاحيين". إذ مثلما أشرت سابقا الصراع في إيران هو داخل النظام بكامله؛ حيث لا يوجد تخصص في علاقة بـ "الفساد" و "الاستثراء عبر السلطة" وليس الصراع أيضا حول أدوات ثابتة لـ "الأمن القومي الإيراني" حسب تصور النظام. النقاش الحقيقي، تونسياً، والذي لا يبدو صريحاً بما فيه الكفاية هو حول ما إذا كانت أزمة البديل المعارض ستجد أية فاعلية حتى في سند إعلامي مكثَّف من الخارج في الوقت الذي تلقت فيه حركة احتجاجية شعبية واسعة في إيران ضربة قاسية من قِبَل نظام محاصر دوليا ليس إعلاميا فحسب بل سياسي أيضا.

لفت انتباهي في هذا الإطار تصريح إحدى الناشطات التونسيات في مؤتمر في جنيف أخيراً حول ضرورة "إقناع" التونسيين المقيمين في الخارج للمنابر والمؤسسات الرسمية في الدول التي يقيمون فيها وحصلوا على جنسياتها بالتوقف عن دعم السلطة. كان ذلك عنوانا لاستراتيجيا متأزمة وليس حلاً استراتيجياً لأزمة البديل. لكن من الصعب لوم العوامل الذاتية في هذا السياق بما في ذلك الخيارات الاستراتيجية لبعض الناشطين. إذ إنه، ومثلما يحصل في إيران وفي ظرفيات أخرى عرفت الانتقال الديمقراطي، فإن تحولات بنيوية من هذا النوع تتم عادة بشكل متفاوت السرعة وبمشاركة من داخل الأنظمة القائمة بتأثير ظروف موضوعية أساسا، وهو الأمر الذي يجب أن يستدعي انتباها مركّزا من أي ناشط سياسي. لكن لم تقع قراءة تاريخ الدمقرطة والاستفادة من دروسها بالنسبة للناشطين الديمقراطيين بالقدر نفسه الذي كان فيه مثلا بعض هؤلاء، عندما كانوا ناشطين في اليسار الماركسي، يدرسون بعناية فائقة، وحتى مبالغ فيها، ظروف "الانتقال الثوري" وأنماط المجتمع؛ إذ انتقل الناشط السياسي التونسي من مرحلة الاسترخاء والتأمل الفكري النشط إلى مرحلة الممارسة الروتينية المنقطعة بشكل كبير عن أي إسهام فكري عميق.

أستاذ "تاريخ الشرق الأوسط" في جامعة روتغرز

الأربعاء، جويلية 01، 2009

1 جويلية

مقال سابق كتبته منذ أشهر حول موضوع الحجب و خاصة ضد وجهة نظر تدافع عنه تحت شعار عقلنته مثلما هو الحال في هذا المقال... أعتقد أنه لا يوجد وضع مثالي "تحرري" في المطلق لا يوجد فيه حجب... و بالتالي المطلوب هو عقلنة الحجب و جعله جزءا من عقد إجتماعي يشترك في تقريره التونسيون.. و هنا يصبح القانون و المؤسسات القضائية وحدهما من يقرر الحجب... هذا هو النقاش الناجع و الحقيقي حول موضوع الحجب.. و لا يجب أن يكون حملة من الشعارات التعميميمة و الاطلاقية.. نقاش "المع أو ألضد" نقاش يحيد عن جوهر الموضوع