الأحد، جويلية 12، 2009

حول إصلاح مؤسسات التعليم العالي واختصاص «الإنسانيات»


مقال صدر في "العرب" القطرية الاحد 12 جويلية
http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=88625&issueNo=566&secId=15

حول إصلاح مؤسسات التعليم العالي واختصاص «الإنسانيات»

طارق الكحلاوي

2009-07-12
إزاء أزمة حقيقية في منظومات التعليم العالي العربية، تكثفت في السنوات الأخيرة مبادرات حكومية متنوعة في اتجاه الإصلاح، وعلى سبيل المثال تم في تونس الإعلان منذ سنة 2005 عن مشروع «إصلاح تعليم» تحت تسمية منظومة «أمد» (اختصاراً لـ «أستاذية - ماجستير- دكتوراه»)، والذي بدأت ملامحه التطبيقية تتضح للعيان خاصة مع بداية السنة الدراسية القادمة، ولو أن ذلك يعترض رفضا وتململا من قبل الممثلين النقابيين للإطار التعليمي.

غير أنه كان من الواضح أن ذلك لم يكن نتيجة مبادرة مفاجئة منعزلة عن السياق الدولي، ولا يخفي المدافعون عن هذا المشروع، على الأقل على مستوى التحاليل الإخبارية المنشورة على مواقع رسمية أو مقربة من الدوائر الرسمية، تركيزهم على النقاشات والمشروعات الأوروبية خلال العشرين سنة الماضية في إطار توحيد منظومة التعليم العالي الأوروبية خاصة تحديد العوامل التي جعلت المنظومات التعليمية الأنجلوسكسونية (الأميركية على وجه الخصوص) أكثر فاعلية من غيرها على مستوى مساهمتها في العملية الإنتاجية المباشرة، وهو ما يجعل فهم التجربة الأوروبية ضروريا للغاية لمحاولة فهم ما يحصل في بعض التجارب الإصلاحية العربية، وقد تبلورت الرؤية الأوروبية عبر «اتفاقات بولونيا» أو «مسار بولونيا» (Bologna Process) سنة 1999، وتطبيقات محلية يهمنا منها بشكل خاص المثال الفرنسي (LMD) والذي يختصر (License-Master-Doctorat)، وهو الذي كان على ما يبدو النموذج المباشر لمنظومة «أمد»، إلى الحد الذي جعل البعض يتحدث عن «استنساخ» أو مجرد تعريب «منظومة أمد» للمشروع الفرنسي، وتستغرق هذه المنظومة الأوروبية بما في ذلك الفرنسية نظرياً ثماني سنوات، إذ يقع منح «الأستاذية» بعد ثلاث سنوات دراسية (السنة الدراسية 60 نقطة أو ما يعادل ما بين 1500 و1800 ساعة دراسة)، والماجستير سنتان والدكتوراه ثلاث سنوات، وبذلك تم تخفيض السنوات التي كانت مخصصة لـ «الأستاذية» في فرنسا بمعدل سنة دراسية ووقع إدماج «الأستاذية» القديمة مع «شهادة الدراسات المعمقة» تحت تسمية «الماجستير» وحصر «الدكتوراه» في ثلاث سنوات.

وكانت الخلاصة الرئيسية العملية -التي انتهت إليها الرؤية الأوروبية في قمة وزراء التعليم الأوروبيين سنة 1999- أن اعتماد المنظومة التعليمية الأميركية يجعل التعليم العالي الأوروبي قادرا على الاحتكاك ومن ثم الاستفادة منها وأيضا الانفتاح على سوق أوسع عالميا من الكفاءات العلمية، وبمعنى آخر فقد كان الإصلاح التعليمي الأوروبي بالأساس اعترافا وترسيخا لواقع المركزية الكونية كماً ونوعاً للمنظومة التعليمية الأميركية، لكن ما يهمنا هنا بالتحديد أن الفهم الأوروبي للنموذج الأميركي اتجه بشكل خاص نحو منافسة المنظومة الأميركية خاصة عبر التركيز على الفصل بين «التخصص المهني» و»التخصص الأكاديمي»، ويهدف الأول للتكوين الموجه بشكل مباشر وحصري نحو «الاقتصاد المباشر»، بينما يهدف الثاني للتكوين في اتجاه «البحث» و»التدريس الجامعي».
ثم وفي نفس الإطار يتم التركيز من حيث كمّ الطلبة والإطار التعليمي والموارد على «التخصص المهني»، لكن النيات الأوروبية للاقتداء بالتجربة الأميركية لا تعني أننا بصدد نفس النموذج التعليمي، ويجب هنا ملاحظة هنا أن المنظومة الأوروبية الجديدة التي تختزل سنوات الدراسة، وبرغم اقترابها من المنظومة الأميركية فإنها تستغرق أقل منها على مستوى السنوات، فمثلاً شهادة «الأستاذية» القديمة في الحالة الفرنسية تعادلها في المنظومة الأميركية «شهادة الباشلر» (Bachelor’s Degree) وهي تستغرق ثماني سداسيات أو أربع سنوات، في حين أن «الماجستير» الأميركي يستغرق سنة ونصف السنة بعد أربع السنوات الأولى، وفي المقابل يمكن لشهادة «الدكتوراه» الأميركية أن تستغرق حتى ثماني سنوات.

الأهم من ذلك أن المنظومة التعليمية الأميركية لا تتميز بفصل قسري بين «المهني» و»الأكاديمي»، إذ يمكن لأي طالب أن يغير خياراته ويعيد ترتيب أولوياته حسب تقدمه الدراسي، وهكذا مثلا يحق للطالب الأميركي أن يكون له تخصصان: أحدهما رئيسي والآخر ثانوي، كما يتم حثه على تنويع الدروس التي يتلقاها بما في ذلك خارج التخصصين الأول والثاني، وهكذا يقع الدفع مثلا بطلبة اختصاصات الطب والتجارة لأخذ دروس في «الإنسانيات»، وبذلك يقوم الطالب بتجريب مواهبه وتبقى خياراته مفتوحة على ذلك الأساس، وهو ما يجعله قادرا على التوجه نحو «البحث» إذا رأى في نفسه القدرة والرغبة في ذلك، ومن الواضح أن الفصل القسري بين هذه المسارات في النموذج الأوروبي هو الذي يمثل أحد أكبر مصادر الانتقاد فيه خاصة في الحالة الألمانية، وبالإضافة إلى كل ذلك فإن المنظومة التعليمية الأميركية لا يتم تقريرها بشكل مركزي إذ لا تخضع لميزانيات حكومية فحسب (فيدرالية أو ميزانيات الولايات) بل يوجد ثقل كبير لمصادر التمويل غير الحكومية، وهو إطار لا يمكن استنساخه في الحالة الأوروبية وفقا للظرف الراهن، إذاً كخلاصة أولى يجب التوقف عن الحديث عن «نموذج عولمي» أحادي مكرر بما في ذلك إثر الإصلاح التعليمي الأوروبي سنة 1999، وفي نفس الاتجاه لا يمكن أن نرى في منظومة «أمد» التونسية مثلا استنساخا كاملا للمنظومة الفرنسية، خاصة أنها احتوت مبادرات لم تحصل في هذه المنظومة، ويتعلق ذلك خاصة بدمج تخصصات يبدو أنه يتم النظر إليها من قبل وزارة الإشراف على أنها «أكاديمية» الطابع، مثلا دمج شهادتي التاريخ والجغرافيا بالنسبة لـ «الإنسانيات» والكيمياء والفيزياء بالنسبة لـ «العلوم»، وهو توجه يشدد أكثر في اختزال المسار «البحثي»، عدا عن أن قرارا بهذا الحجم والذي يمس الجانب المنهجي والتدريسي لا يمكن أن يتخذه التكنوقراط أو الإدارة بدون إشراك كامل للأكاديميين المشرفين على الجانب التعليمي، وهو ما لا يبدو حاصلا خاصة إذا نظرنا إلى ردود الفعل الرافضة مثلا لأساتذة التاريخ والجغرافيا.

ولكن بشكل عام، إذ كان اختزال السياق «البحثي» في مختلف هذه المنظومات «الإصلاحية» يهم كافة أقسام التعليم العالي فإنه يمس بدرجة أكبر قسم «الإنسانيات». اختصاص «الإنسانيات» (humanities)، أو حسب التعبير الفرنسي ذي الخلفية الوضعية والأكثر ثقة «العلوم الإنسانية» (sciences humaines)، والذي يضم مناهج وتخصصات مثل الفلسفة واللغات والآداب والتاريخ والجغرافيا وعلوم الآثار والأنثروبولوجيا يشهد مساءلة عبر العالم وليس الآن من حيث «مردوده الإنتاجي»، ويجب القول هنا إن هذه المساءلة ليست جديدة وتأتي في سياق دولي يمكن الإشارة إلى نقطة بدئه في بداية الثمانينيات في الولايات المتحدة خلال الأزمة الاقتصادية آنذاك. إذ تشير أرقام مؤسسة بحثية متخصصة في «الإنسانيات» في الجامعات الأميركية (Humanities Resource Center) أنه منذ ذلك الوقت انخفضت نسبة الطلبة والأساتذة المنضوين تحت «الإنسانيات» لتستقر في حدود نسبة %8 من مجموع الإطار التعليمي مقارنة بالنسب المرتفعة السابقة التي بلغت أوجها في الستينيات، وهناك جدال متصاعد في الولايات المتحدة حول «الإنسانيات» يزيد حدة خاصة عندما يتضح أن ظرف الأزمات الاقتصادية يمس بشكل أكبر هذا المجال، إذ على سبيل المثال أعلن ما يزيد عن عشر مؤسسات تعليمية وسط العام خاصة بعد اشتداد الأزمة الاقتصادية عن تراجعها عن انتداب أساتذة في اختصاصات مثل الفلسفة وعلوم الأديان، ووصل الأمر بجامعات كبيرة مثل «جامعة يال» أن أعلنت «تجميد» أية خطط لانتدابات جديدة خاصة في «الإنسانيات»، في حين أعلنت جمعية تهتم بتدريس اللغات أن الانتداب في هذا الاختصاص نزل هذه السنة إلى أدنى درجة له منذ ما يزيد عن الثلاثين عاماً، وفي هذا الإطار بالتحديد يعلن البعض «موت الإنسانيات» و»الأستاذ الأخير»، وهو عنوان أحد أكثر الكتب مبيعاً هذا العام لستانلي فيش (Stanley Fish) أستاذ الإنسانيات والكاتب في صحيفة «نيويورك تايمز»، وزادت الميزانية المقررة من قبل إدارة أوباما والتي تركز على تمويل «البحث العلمي» دون «الإنسانيات» في تأزيم هذا الجدال.

لكن طبعا كل ذلك لا يعني أننا بصدد اضمحلال هذا الاختصاص في الولايات المتحدة حيث تلعب المؤسسات البحثية في الجامعات الأميركية دورا كبيرا في صناعة الرأي العام وفي تمويل الإدارات الأميركية المتعاقبة بالخبرات الجامعية، وهنا فمن الواضح أن نقاش «موت الإنسانيات» يختلف من حيث الخلفية والواقع والإمكانات مع أوضاع أخرى يعيش فيها هذا المجال أصلا تهميشا من قبل الذهنية السائدة فما بالك في وضع أزمة اقتصادية.

0 التعليقات: