الأحد، سبتمبر 27، 2009

في ضرورة التعمق في معضلة «التحول الديمقراطي» (1)

مقال صادر في "العرب" القطرية بتاريخ 27 سبتمبر 2009

http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=98865&issueNo=646&secId=15

في ضرورة التعمق في معضلة «التحول الديمقراطي» (1)

طارق الكحلاوي

2009-09-27
جرت العادة على مشارف الحدث الانتخابي في السياق العربي بشكل عام، مع بعض الاستثناءات القليلة، أن تتضارب الآراء في المشهد العام بين مظاهر الاحتفالية واللامبالاة، وفي المشهد النخبوي بين المشاركة والمقاطعة. بعيدا عن هذا الجدال، تبدو لي الأسئلة الهيكلية، أي تلك التي تتجاوز النظر فيما هو حينيّ وراهن، بنفس الأهمية أو ربما أكثر. إذ هناك حاجة أكبر لاستقراء للوضع على مدى زمني طويل وفي سياق مقارن وبالاستعانة بدراسات في العلوم السياسية والتاريخ المعاصر تعمقت في موضوع التحول الديمقراطي. فالاستغراق فيما هو راهن سياسي وما يستتبعه من إنتاج وإعادة إنتاج البيانات المقتضبة ولغتها التقريرية التعبوية يمكن أن يعزل السياسي عن الجمهور بنفس القدر الذي يمكن أن ينعزل فيه المنظّر في برجه العاجي. إذ هناك حدان في هذه الحالة، ليس في التنظير التجريدي المحلق في الآفاق البعيدة فحسب، بل أيضا في مستوى الممارسة المجردة من أي قدرة على تجاوز التكرار واستفهام الهياكل العامة لما هو قائم لاحتمال تجاوزه.

منذ حوالي العامين بالتحديد (سبتمبر 2007) كتبت ما اعتقدت وما زلت أنه مقال أولي تقديمي في موضوع التحول الديمقراطي على أمل مَوْضَعَتِه في إطار الخصوصية العربية بما في ذلك التونسية. مقال أولي في مشروع أملت أن يكون أكبر، كان يجب أن تليه مقالات أخرى ولكن لم أنجز هذا المشروع الذي لا أعتقد أنه يمكن أن يتحقق بشكل فردي. في هذا المقال التقديمي حاولت طرح السؤال الهيكلي أعلاه من خلال مساءلة بعض الطروحات الكولونيالية والنيو-كولونيالية التي انتعشت بتأثير تجربة «بناء الديمقراطية في ظل الاحتلال» في العراق. والتي اتجهت للتشكيك في إمكان بناء ديمقراطية في المجال العربي-الإسلامي من دون إعادة تشكيل هويته الثقافية مع السياسية. الأفكار التي طرحتها حينها ما زالت في حاجة لإعادة المطارحة، وهي الأفكار الثلاث التالية: أولا، اقتراح مقاربة مفهومية «فارابية» (نسبة لأبي نصر الفارابي) يمكن أن تساعد على تفكيك الشرط المستديم للمجتمع ما قبل الديمقراطي (خاصة الارتباط الحميمي بين القاهر والمقهور). ثانيا، مقاربة تاريخانية لتجارب صناعة الديمقراطية. ثالثا وأخيرا، عرض استنتاجات أولية لمقاربة الوضع العربي بشكل خاص. وهي الأقسام التي ستكون محاور هذا المقال.

يبدأ الناشط السياسي، في هذه الحالة «الناشط الديمقراطي»، من مسلّمة قدرته على التغيير من خلال «توعية الشعب»، الذي هو، بطبيعة الحال، «غير واع». ومن ثم ينتظر «الشعب» فقط مبادرة الناشط للبدء في تقبل الوعي. في هذا العالم القائم على ثنائيات تبسيطية مثل ثنائية القائمين بالتوعية والمتلقين للتوعية، أو ثنائية الشعب المحروم من الوعي والناشط المختار لترويج الوعي، يتم في نهاية الأمر تجاوز واقع التفاعل الضمني والحتمي بين مختلف مكونات أي ظاهرة اجتماعية. وبالتحديد التفاعل الضروري والحتمي حتى بين من يبدو «مفعولاً به» (مقهور) من الناحية السياسية ومن هو «فاعل» (قاهر)، وبالتالي «الفاعلية» المتضمنة في السلبية الظاهرة لمن هو «غير واع». وبمعنى آخر تبدو المعادلة التي تجعل «الشعب» موضوعا تعبويا، لصاحب السلطة، أو لصاحب سلطة القول المعارض، المسوّغ الأساسي لجعله «الضحية». إذ هو، وفق هذا المنطق الميكانيكي، إما ضحية التعتيم وإما ضحية الدعاية التحريضية. غير أن علاقات الكتل الاجتماعية المنخرطة في الفعل السياسي أعقد من ذلك. نُكران هذه المعادلة التفاعلية يصب في نهاية الأمر في قراءة ذات بعد واحد، لا تفقه ديناميكية أي واقع حتى ضمن أوقات ثباته.

من بين الرؤى الجوهرانية، أي تلك التي تمنح «جوهراً» ثابتاً عبر الزمان لأي ظاهرة معينة، الرؤية التي ترى عدم قابلية شعب أو مجال جيوسياسي محدد لتحقيق الديمقراطية بما تعنيه من مؤسسات قيمية بما في ذلك حرية التعبير. وفي الوهلة الأولى تبدو هذه الرؤية ليس فقط جوهرانية ومن ثم غير واقعية من الزاوية التاريخية، بل أيضاً شديدة القسوة ومحبطة للآمال وحتى عنصرية. غير أنه من البلادة القفز لمثل هذه الاستنتاجات من دون الاعتراف أولا بأن «عدم القابلية للديمقراطية» هي أمر حقيقي وطبيعي طالما لم تتوافر ما يكفي من الأسباب حتى تتحقق. وهكذا هناك إمكان لأن يكون «جوهر ظاهرةٍ ما ثابتاً» حالما لم تتوافر العوامل الكافية لأن تعصف به الديناميكية التاريخية. فالأخيرة ليست أمراً اعتباطياً بقدر ما هي مشروطة وتتوقف ليس على فعل مانع الديمقراطية بل الأهم من ذلك على استعداد المعنيّ بتحققها. وبمعنى آخر عدم تحقق الديمقراطية لا ينشأ عن عامل القهر غير الديمقراطي فحسب بل بالأساس عن عامل عدم استعداد المقهور للتضحية بما هو عليه لكي يقتحم عالم غير المقهورين سياسيا.

يتيح لنا ذلك أن نقارب موضوع استدامة القهر زمنيا من جهة مختلفة عن الجهة الروتينية التي تضعنا أمام صراع (وهمي أحيانا كثيرة) بين القاهر ومقهوريه. حيث تبدو استدامة القهر ممكنة بالأساس ورغم التضاد المصلحي بين القاهر والمقهور بفضل توافر بنية مشتركة بينهما، أساس واحد يجمع فيه الطرفين على «عدالة» و «وجاهة» استدامة حالة القهر. يمكن اختزال هذه الظاهرة في مفهوم «اجتماع القاهر والمقهور». ورغم أن ذلك يبدو في غاية الغرابة وباعثا على الإحباط إلا أنه يمثل ظاهرة قديمة، ربما قدم الاجتماع البشري. وفي الحقيقة لن نحتاج لاكتشافات منهجية حديثة حتى نتوغل في هذا الموضوع الشائك. إذ يمكن أن نجد ما يكفي من الأفكار حول هذه المسألة في أحد كتب أبي نصر الفارابي (توفي 339 هجرية/950 ميلادية) أعتقد أنها ما زالت ذات جدوى حتى اليوم.

كتب الفارابي كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها» كواحد من تعليقاته المتواصلة على المقاربات النيو-أفلاطونية التي اعترضته عبر احتكاكه مع ما تبقى من مدرسة الإسكندرية في الفلسفة اليونانية. وطرح الفارابي رؤيته بناء على مبدأ جوهراني لمرحلة ما قبل المجتمع الديمقراطي (أو «الحديث») حيث «العدوان» مبدأ يتفوق على بقية «الخصائص الطبيعية» للشخصية البشرية ومن ثم تصبح آليات إقامة التوازن بين المعتدي والمعتدى عليه هي الصيغ الوحيدة الممكنة للتعايش الاجتماعي. وضمن هذا التصور، الذي أعيد إحياؤه في المنظومة الخلدونية فيما بعد، تمت مناقشة «مضادات المدينة الفاضلة» المتركزة في مفهوم جامع هو «المدينة الجاهلة». سأتوقف هنا تحديدا عند أحد وجوه الأخيرة وهي «مدينة التغلب» (و «المدينة الفاسقة» و «المدينة الضالة» من الوجوه الأخرى لـ «المدينة الجاهلة»). هنا تبدو كلمات الفارابي خارقة للعصور ومكتنزة لمعنى شديد الثبات وهو التعاون بين القاهر والمقهور لإعادة تشكيل معاني «العدل» و «الطبيعة» و «السعادة».

في هذا الاتجاه تبدو الفقرة التالية شديدة البلاغة للتأكيد على المعاني المفارقة التي تسود «المدينة الجاهلة» («ما قبل الديمقراطية» في قراءتنا هذه)، إذ يقول الفارابي:
«فالأقهر منها لما سواه يكون أتمّ وجودا. والغالب أبداً إما أن يبطل بعضه بعضا، لأنه في طباعه أن وجود ذلك الشيء نقص ومضرة في وجوده هو، وإما أن يستخدم بعضا ويستعبده، لأنه يرى في ذلك الشيء أن وجوده لأجله هو... وأن الإنسان الأقهر لكل ما يناويه هو الأسعد... وأنه لا ينبغي أن يكون مؤازره مساويا له، بل مقهورا؛ مثل أن يكون أقواهم بدنا وسلاحا يقهر واحدا، حتى صار ذلك مقهورا له قهر به واحدا آخر أو نفرا، ثم يقهر بأولئك آخرين، حتى يجمع له مؤازرين على الترتيب. فإذا اجتمعوا له صيرهم آلات يستعملهم فيما فيه هواه... فاستعباد القاهر للمقهور هو أيضا من العدل. وأن يفعل المقهور ما هو الأنفع للقاهر هو أيضا عدل. فهذه كلها هو العدل الطبيعي، وهي الفضيلة». (انتهى كلام الفارابي).

المعادلة الفارابية للقهر والاستعداد لتقبّل القهر السياسي التي تحكم المجتمعات ما قبل الديمقراطية ليست مجرد تهويمات فلسفية. فهي تجد تمظهراتها اليومية في الانخراط الجدي لجموع الرعايا في قبول الأمر الواقع للقاهر. وتطرح تساؤلات حقيقية حول منظومة الناشطين الديمقراطيين التي تركب مفاهيمها على مركزية الصراع السالب وذي البعد الأحادي بين القاهر والمقهور. في المقابل تبدو القراءة التاريخانية لصناعة الديمقراطية المدخل المنهجي الذي يمكن أن يضع قراءة الفارابي ضمن أطر واقعية، تخرج بها من الاحتمالات المحبطة للثبات التاريخي. فالصراع بين مكونات المعادلة الفارابية لا يمكن له أن يتجسد ويحقق تحولات سياسية فعلية دون توافر ما يكفي من الآمال الواقعية التي تجعل صراعا مماثلا مثمرا بحق لمصلحة «المقهور». إذ إن الشعوب لا تطرح سوى المسائل التي تقدر على حلها.

0 التعليقات: