الثلاثاء، أفريل 28، 2009

تكذيب و اعتذار

تبين الآن بشكل قاطع أن الخبر الذي أشرت اليه سابقا (هنا) حول "وفاة الدكتور الطاهر الهمامي" خبر غير صحيح.... اتصل بي بعض الاخوة من المقربين من الاستاذ الطاهر هذا اليوم و كذبوا الخبر مع تأكيدهم أنه لايزال في العناية المركزة في أحد المصحات الاسبانية... أردت تكذيب الخبر لكن كان هناك تخوف من هؤلاء الاصدقاء من مزيد تعقيد الموضوع... لكن منذ قليل أصدر السيد حمة الهمامي (شقيق الدكتور الطاهر الهمامي و الوجه السياسي المعروف) تكذيبا رسميا ورد عبر قائمة المراسلات الاخبارية "بديل عاجل" هذا نصه


يتوجّه حمّة الهمامي بالشكر الجزيل إلى كل الذين عبّروا عن انشغالهم للحالة الصحية لشقيقه الشاعر والجامعي الدكتور الطاهر الهمامي، ويعلمهم أنه ما زال يخضع للعلاج بقسم العناية المركّزة بأحد مستشفيات العاصمة الإسبانية مدريد حيث حلّ منذ مدّة في زيارة خاصة. حمّة الهمامي

يجب أن أقول أن مصدر الخبر كان بعض الاصدقاء من الذين من المفترض أنهم يعرفون خبرا من هذا النوع .. و تمت الاشارة اليه في فايسبوك... لكن رغم ذلك لا يوجد أي تبرير في إيراد خبر يمكن أن يؤذي مشاعر عائلة الدكتور الطاهر الذي نعزه كثيرا و نتأثر بالضرورة بخبر من هذا النوع الذي كان مفاجئا.. إذ رغم ورود أخبار عن دخوله أحد المصحات الاسبانية آخر الاسبوع لم نتوقع أن يتدهور الأمر بسرعة... على هذا الاساس أقدم اعتذاري لعائلة الدكتور الطاهر خاصة بسبب مساهمة التدوينة التي كتبتها مع مواقع اخرى في الانترنت في رواج هذا الخبر بسرعة... و نتمنى له التعافي و تحسن حاله الصحية و الخروج من العناية المركزة و العودة الى تراب الوطن في أقرب وقت.. فالرجل لايزال في عز عنفوانه... و هذه فرصة لتذكر الرجل تكريمه عبر تذكر أعماله و مواقفه المشرفة

تحيين:
تأكد الآن أن الاستاذ الطاهر الهمامي توفي يوم 2 ماي الجاري.. رحم الله الرجل

الأحد، أفريل 26، 2009

بورقيبة المقال الثالث من ثلاثة

رابط


بورقيبة (3-3)
طارق الكحلاوي

«سياسة الكل أو بلاش هي التي أوصلتنا إلى هذه الحالة.. لو رفضنا الحل المنقوص كما رفض العرب التقسيم أو الكتاب الأبيض بعدها سيندمون عليه ويقولون يا ليتنا لو قبلنا لكانت حالنا أفضل مما هي عليه الآن» -بورقيبة، في أريحا، 3 مارس 1965.

أكبر وأوسع الأساطير البورقيبية انتشاراً تلك المتعلقة بنظرته إلى الصراع العربي- الإسرائيلي. هنا أيضاً يتعين علينا أن نشاهد واحدة من صورتين لا ثالثة لهما: من جهة أولى بورقيبة «العقلاني» و«الواقعي» و(إذا دخل المتملقون والممجدون المحترفون على الخط) «السابق لعصره» المجرد من السياسوية. ومن الجهة المقابلة تتراءى صورة «العميل» و«الخائن» وهي الرؤية التي تبناها خصومه حتى فترة قريبة جداً إن لم يكن إلى هذه اللحظة. ما يثير الانتباه ولكن أيضا الريبة وحتى الاشمئزاز (خاصة) نجاح الخطاب الدعائي المردد لشعارات «الحكمة» و«الواقعية» في التسلط حتى على رؤى مؤرخين محترمين أصبحوا في نهاية الأمر يتمثلون الخطاب الروتيني للبيروقراطية البورقيبية. فرغم الاحتفالية المبالغ فيها إعلامياً وحتى أكاديمياً بهذا الموضوع فإن القليل من البحوث استطاع مسح ما يكفي من المصادر الأرشيفية حتى يمكن الاستماع لخلاصاتها، ومن بين هذه الدراسات القليلة تلك التي نُشرت من قِبَل مايكل لاسكير (Michael Laskier) والطاهر الأسود.

يقع التأريخ للموقف البورقيبي في حل القضية الفلسطينية عادة بدءاً من الخطاب الذي ألقاه في أريحا في مارس 1965. ولكن هناك من يشير أيضاً إلى تواريخ سابقة بعض الشيء مثل خطابه غير المنشور في القمة العربية في يناير 1964 أو في أقصى الحالات وثيقة يتيمة أشار إليها عبدالجليل التميمي ترجع إلى سنة 1957. وجميعها يشير إلى نفس النقطة، أي: ميل بورقيبة للاعتراف بقرار التقسيم ومن ثَمَّ الاعتراف بإسرائيل كنقطة لبدء عملية «تحرير فلسطين» بشكل محصور بالفلسطينيين. وعموماً يقع تلخيص كل الانخراط البورقيبي في هذه النقطة في مقتطفات «خطاب أريحا» مع تقديمها كحِكم أزلية مفصولة عن أي معطيات سياسية خاصة ببورقيبة (كنبيّ قادم من بعيد). غير أننا نعرف الآن من خلال كمّ هائل من المصادر الأرشيفية خاصة المحفوظة بين الولايات المتحدة وإسرائيل أن تاريخ النظرة البورقيبية ليس أسبق من ذلك فحسب، بل الأهم أنها أكثر تعقيداً بكثير مما يريدنا البعض أن نتصور.

أصبح من الضروري أن يُروى السرد التاريخي لهذا الموضوع كالتالي: بدأ الاهتمام البورقيبي بإسرائيل في سياق التحضير للمعركة الدبلوماسية لاستقلال بلاده والتأسيس لتحالف دولي للضغط على الاحتلال الفرنسي. في يونيو 1952 تم أول لقاء بين مسؤول يمثل بورقيبة (الباهي الأدغم) وممثل إسرائيل في مقر الأمم المتحدة في نيويورك في إطار «طلب الدعم الإسرائيلي» لمطلب الاستقلال التونسي وفي الشهر نفسه صرح بورقيبة لجريدة «لوموند» الفرنسية بضرورة القيام بـ«تسوية سياسية» بين العرب وإسرائيل. وأكد بورقيبة الموقف نفسه عندما التقى لأول مرة شخصية مهمة في الدوائر الدولية الإسرائيلية ألك إيسترمان مدير مكتب لندن آنذاك لـ«المؤتمر اليهودي العالمي» في منفاه الباريسي سنة 1954. حسبما يتبين من وثائق لاحقة من مرحلة «الاستقلال الداخلي» خاصة منها تقرير يوثق (في شهر فبراير العام 1956) لقاء بورقيبة مع السفير الإسرائيلي في باريس ياكوف تسور. نصح الأخير بورقيبة بأن عليه «ضمان دعم اليهود الأميركيين للحصول على دعم اقتصادي أميركي». وتبدو هذه كلمة السر فيما يخص خلفية الموقف البورقيبي من الصراع العربي- الإسرائيلي منذ بدايته، أي حتى قبل الاستقلال. إسرائيل هي المفتاح للولايات المتحدة. المشكلة أن بداية هذه العلاقة (أي قبل الاستقلال) كانت مخيبة للآمال بما أن الإسرائيليين رفضوا التعامل مع الطلب التونسي بسبب استمرار مراهنتهم على الاحتلال الفرنسي كضمان لتواصل تهجير اليهود التونسيين إلى إسرائيل القائم على قدم وساق آنذاك وبإشراف «الموساد» ذاته (حسب وثائق لاسكيير) في مختلف المدن التونسية.

بعد الاستقلال كان (أيضاً) الاهتمام البورقيبي بإسرائيل مرتبطاً ظرفاً ومضموناً بالرغبة في الحصول أساساً على مساعدات اقتصادية أميركية وهو هدف معلن تمت الإشارة إليه قبل الاستقلال خلال اللقاء مع تسور في فبراير 1956. في لقاء بين السفيرين التونسي والإسرائيلي في باريس في أكتوبر 1956 تم الاتفاق على «تعاون اقتصادي بين البلدين». لكن التطورات التي أدت إلى اصطفاف بورقيبة إلى جانب الثورة الجزائرية و«معركة الجلاء» و«الجلاء الزراعي» يبدو أنها خلقت نوعاً من الفتور بين الجانبين وهو الأمر المنعكس في تقلص كبير للوثائق الأرشيفية الخاصة بالموضوع حتى سنة 1965.

الأشهر السابقة واللاحقة على «خطاب أريحا» في مارس 1965 تمثل الظرفية الأهم لتفسير الموقف البورقيبي خلال زيارته «الشرق أوسطية». قطع المساعدات الفرنسية، خاصة بعد إعلان «الجلاء الزراعي» في شهر مايو سنة 1964، أدى إلى اهتمام بورقيبة بتنويع مصادر المساعدات الدولية وعدم الارتهان للمصدر الفرنسي. كان ذلك يعني الرجوع إلى الورقة الأميركية وبالتالي الرجوع إلى الورقة الإسرائيلية. الوثائق تشير إلى التسلسل الآتي للأحداث: تشير مذكرة (اطلعت عليها بشكل مباشر) بتاريخ 18 ديسمبر سنة 1964 إلى ملاحظات من قِبَل مسؤول الخارجية الكولونيل روبرت كومر على ضوء لقاء مسؤول أميركي مرتقب مع وزير الخارجية التونسي بورقيبة الابن، تشير إلى عدم استعداد أميركي لزيادة المساعدات الاقتصادية لتونس بل واحتمال تخفيضها، بالإضافة إلى تذمر أميركي بأن «المعتدلين» في شمال إفريقيا لا يبدون علنيا دفاعا عن تشابك مصالحهم مع المصالح الأميركية. ثم تنقل وثيقة أخرى إثر «خطاب أريحا» بشهرين (مايو 1965) محتوى زيارة وزير الخارجية بورقيبة الابن إلى واشنطن طلبت إثرها الولايات المتحدة التوسط لتونس لضمان دعم مالي من الحكومتين الفرنسية والألمانية الاتحادية بقيمة 20 مليون دولار. وتشير الوثائق إلى أن الموافقة الإسرائيلية على الاستجابة للمطالب الأميركية كانت في إطار أملها أن تسهم الحكومة التونسية في تشجيع حكومات عربية «معتدلة» أخرى من أجل «إفشال أو تخريب الجهود المصرية والسورية للوحدة العربية». تواصل الوثائق التي يكثر عددها خلال هذه الفترة الحديث عن تقارب بين الطرفين استمر بشكل متسارع وحثيث طيلة سنة 1966 ليصل حتى مجالات أمنية وأيضا دعم إسرائيلي لترشيح بورقيبة لنيل جائزة نوبل عبر مقترح تقدمت به رسميا (جامعة البرازيل) بالإضافة إلى تعاون اقتصادي مس جميع المجالات، خاصة منها القطاع السياحي الناشئ. لكن ذلك كله يبدو أنه وصل لمأزق مع نشوء حرب يونيو 1967، خاصة أن موقف بورقيبة كان داعما لمصر وبقية الأقطار العربية. من الضروري الإشارة إلى أنه خلال كل هذه المدة رفض بورقيبة التصريح بهذه العلاقات وحرص على سريتها مثلما هو مسجل بالوثائق. كما أنه رفض عقد «اتفاقية سلام» منفردة بل إنه وقف مع «جبهة الرفض العربي» إثر اتفاقية «كامب ديفيد».

يحيلنا ذلك على وضعية معقدة لا يمكن وصفها بتوصيفات أحادية البعد من نوع «إما أبيض وإما أسود». بالنسبة لبورقيبة المحدد الرئيس لمدى ونوع انخراطه في الصراع العربي- الإسرائيلي كان يخضع بالأساس لما يرى أنه «مصلحة وطنية عليا»، وبالتالي لا يخضع للحسابات التبسيطية لـ«العمالة»؛ إذ يرفض التماهي بين «مصلحة بناء الدولة الوطنية- القطرية» و«المصلحة القومية العربية». من جهة أخرى لم تكن المقاربة البورقيبية نصيحة مجانية من حكيم سياسي تعبر عن «واقعية» و«عقلانية» في علاقة بالملف الفلسطيني بقدر ما كانت تعبر عن الهاجس الذرائعي لبورقيبة الخاضع لما يرى أنه «مصلحة تونسية» تتمثل في التموقع (سياسيا واقتصاديا) ضمن الاستراتيجية الأميركية في المنطقة عبر المفتاح الإسرائيلي. في المقابل من غير الدقيق وصف الرؤية الأخرى الناصرية تحديدا بأنها كانت «غير واقعية» أو«غير عقلانية» أو أيضا أنها كانت مقتنعة بموقف بورقيبة ولكنها لا تقدر على مواجهة شعبها، إذ مثلما أشار أحمد بن صالح في أكثر من مرة إلى أن اعتراض عبدالناصر على رؤية بورقيبة لم يكن على حكمة مبدأ التفاوض و«خذ وطالب» ولكن على ضرورة التفاوض من «منطلق قوة» أي بعد تحقيق نجاحات عسكرية. ومن الواضح الآن أنه حتى التنازل من دون مقابل في تلك المرحلة والقبول بالتقسيم لم يكن مقبولاً من الطرف الآخر حتى يكون وضعاً يمكن «أخذه» لكي تتم «المطالبة» بما هو أفضل لاحقاً.

الجمعة، أفريل 24، 2009

تونس الحديثة

لكن لماذا من المهم بالنسبة لتونس الحديثة و بالنسبة (خاصة) للبرنامج التعليمي للأكاديمية السياسية للتجمع ممن ستتزوج الآنسة هيفاء وهبي؟

الاثنين، أفريل 20، 2009

بورقيبة المقال الثاني من ثلاثة

المقال الأول هنا


المقال الثاني صدر (هنا) في "العرب" القطرية في 19 أفريل 2009

بــورقيبة (2-3)

طارق الكحلاوي
"التحديث يطرح دائما التحدي ذاته، أي حقن روح عقلانية ووضعية يقف أمامها الإسلام عاجزا تماما"
دانيال ليرنر (Daniel Lerner)، "تجاوز المجتمع التقليدي" (1958)

تلعب الأساطير دائما دورا يتجاوز أبطالها، حيث تصبح أداة لا تعيد خلق الأوهام فحسب، بل أيضا تصنع الوقائع، أو في أقل الأحوال تتجاوب مع رغبات واقعية لتوفر لها مشروعية ما. هكذا هي البورقيبية الآن، ميراث للتأصيل السياسي وحتى الفكري لمن ضجر من الابتعاد عن «أصول وطنية» في استثماره للعمل السياسي. الأمر المفارق أن البورقيبية تستعيد نجوميتها من قبل ضحاياها، وبالتحديد من خلال إعادة إنتاجهم لأحد أهم أركانها.. أن سيرة الزعيم هي سيرة الوطن، وأن في سيرته يمكن أن نجد البنى المؤسسة للمستقبل. ومرة أخرى يجب علينا أن نستمع إلى سرد جوهراني-تطوري لـ «تاريخ الوطن»، حيث هناك جوهر «نتقدم» نحوه، وبورقيبة هو مرحلة تحقق فيها هذا الجوهر «التجديدي». ومن بين «الأساطير المؤسسة» للبورقيبية والمستعملة في السياق الراهن كرأسمال سياسي بطرق معقدة أو شعبوية، هناك نموذجان يستحقان التفكيك، أسطورة البورقيبية «الحداثية-العلمانية» وأسطورة البورقيبية التي كانت «حكيمة» و «ريادية» في طرح «حل الدولتين» فيما يخص الصراع العربي-الإسرائيلي. سأتعرض هنا إلى الأولى لأترك الثانية إلى المقال القادم.
في صيف 2004 التقيت طيف بورقيبة حيث لم أكن أتوقع لقاءه. كانت زيارتي الأولى إلى اسطنبول ذلك الصيف في سياق الإعداد لرسالة الدكتوراه، والتي قادتني إلى مخطوطات نادرة محفوظة في مكتبات عامة وخاصة. وفي أحد الأطر من النوع الأخير، التقيت بمجموعة من المسنين الأتراك المتدينين والمحبين للمعرفة خاصة ذات الخلفية التاريخية الإسلامية. وفي الوقت الذي كنت أتوقع فيه حوارا حول مخطوطات ابن حوقل، انهالت علي ألسن أصدقائي الجدد تكرر أمرا واحدا بعربية طفولية: «ما رأيك في بورقيبة؟» كان من الطبيعي أن يستذكر مسنون أتراك في بداية القرن 21 سيرة تونس بسيرة الزعيم الراحل. ما كان مثيرا للانتباه في المقابل، هو شغفهم الكبير بتجرؤ بورقيبة في قول ما كانوا يرغبون قوله عاليا عندما زار تركيا سنة 1965 وألقى خطابه الشهير أمام البرلمان يوم 25 مارس منتقدا فيه توجهات أتاتورك في إلغاء الخلافة العثمانية و «فرض اللائكية» واستنساخ التجربة التحديثية الفرنسية. سرد لي أصدقائي الشيوخ بحيوية لافتة ما ترسب لديهم من تلك الزيارة. لم يكن هؤلاء المسنون الأتراك إسلاميين، بل كانوا أتاتوركيين شديدي الاعتزاز بـ «مؤسس الدولة» (الذي كانت صوره تؤثث أركان المكتبة)، لكن كانوا منتقدين لرؤية الزعيم التركي الراحل لعلاقة الدولة بالدين. نعرف الآن أن هؤلاء كانوا في الواقع تعبيرا عن جيل تركي جديد أعاد تعريف الأتاتوركية بصمت منذ خمسينيات القرن الماضي، لتصبح إيديولوجيا الدولة الوطنية، ولكن لتعيد تعريف تركيا من خلال غالبيتها المسلمة في مواجهة «الخطر الشيوعي» الداهم من الشمال. كل ما قام به بورقيبة آنذاك هو التصريح بواقعية التوجهات التركية الجديدة.

كان بورقيبة بالنسبة لهؤلاء «زعيما مسلما» بالأساس يدافع عن دور رسمي للدين. كانت تلك الصورة مفاجئة بالضرورة حتى بالنسبة لتونسي لا ينظر إلى بورقيبة من زاوية علاقته بالدين، فما بالك إذا أضفنا إلى ذلك كل الميراث المتعلق بتصادم بورقيبة مع «الإجماع الديني» مثلما حصل في حادثة إباحة إفطار رمضان في إطار «الجهاد الاقتصادي» (فبراير 1960). لكن هي صورة متعارضة بالأساس مع صورة «الزعيم اللائكي» المنتشرة الآن كالفطر. بعيدا عن التمثلات الانطباعية نعرف الآن ما يكفي من المعطيات (مثلا مثلما بينت بعض مداخلات ندوة «الحبيب بورقيبة وإنشاء الدولة الوطنية» سنة 1999 وندوات أخرى بعدها لـ «مركز التميمي» وكذلك كتاب «الزعامة والإمامة» للصحافي لطفي الحجي) التي تشير إلى أن بورقيبة لم يقم بأي إصلاحات اجتماعية عبر مؤسسات الدولة من دون الحرص على «تأصيلها» بأي شكل من الأشكال من الزاوية الدينية. أول وأهم المدونات القانونية التي دفع بها إلى الأمام -أي «مجلة الأحوال الشخصية» (1956)- لم تكن سوى صياغة جديدة لـ «لائحة الأحكام الشرعية» التي أشرف على صياغتها الشيخ محمد العزيز جعيط منذ سنة 1948 وشارك في إحيائها بعد الاستقلال وزير العدل أحمد المستيري. وبرغم أن المجلة كانت مثيرة لجدل واسع فور إعلانها خاصة من قبل أوساط شيوخ الدين التونسيين، وبمعزل عن الجدل حول مدى «تطابقها مع الشرع»، فإنه من اللافت دفاع القانونيين التونسيين آنذاك عنها من زاوية «تطابقها مع روح الإسلام» (خاصة في مقالات في «مجلة القضاء والتشريع» التونسية).
ليس من الصعب ملاحظة حرص بورقيبة الدائم على التعامل مع المسائل الدينية من داخل المنظومة الدينية وليس من خارجها. كان يرغب في التصرف ليس كـ «مصلح ديني» فحسب، بل كرجل الدين الأول في البلاد، رغم عدم توفره على ما يكفي من الأدوات المعرفية للمتفقهين الدينيين للقيام بذلك، وهو ما وضعه بشكل متكرر أمام صدام عنيف مع الأوساط الدينية. الخطاب الذي جلب إليه تكفير مشايخ محافظين (18 مارس 1974) كان بالأساس في سياق يحاول التركيز على الهوية الإسلامية لتونس زمن صعود تيارات يسارية راديكالية في البلاد. إذ التركيز الوارد في الخطاب على خطورة «التطاحن» وضرورة الحفاظ على «الشخصية التونسية» المتماهية مع الإسلام الذي أنهى التطاحن القبلي العربي كانت قراءة مسيسة ومتدينة في الوقت نفسه للواقع السياسي التونسي منتصف السبعينيات، تحاول في نهاية الأمر تصوير الصراع السياسي القائم آنذاك ضمن سياقات التطاحن القبلي المضاد للإسلام. لكن الأهم أنه من العنوان (الإسلام دين عمل واجتهاد) إلى مقتطفات الخطاب بما في ذلك الاستشهاد المتكرر بما قدمه بورقيبة على أنه سيرة وأحداث خاصة بالرسول في سياق التأكيد على رؤى تتعلق بالحاضر، هي في الجوهر لا تختلف بأي حال عن خطاب «الإمام-الأمير»، وهو نموذج في الحكم لم يتكرر كثيرا عبر التاريخ الإسلامي لكن يمثل -يا للمفارقة- أقصى تمظهرات الدولة الدينية، بمعزل عما إذا كان توصيفنا لهذا الخطاب «إصلاحيا» أو «رجعيا» أو «خارجا عن أصول الشريعة». هذا الوضع جعل بورقيبة بديلا أو وسيطا من موقع الرئيس عن سلطة رجل الدين. ومن اللافت أن إدراج مادة الدستور الأولى («تونس دولة دينها الإسلام») تم على إثر توافق توصل إليه بورقيبة بين رأي الشيخ محمد الشاذلي النيفر (الذي طالب بإدراج جملة «تونس دولة عربية إسلامية») ورأي الباهي الأدغم الذي اعترض على هذه الصيغة (مراعاة للمجتمع الدولي)، وذلك حسب شهادة مصطفى الفيلالي في جلسة في «بيت الحكمة» منذ حوالي العام (نقلا عن جريدة «الصباح» التونسية 8 مايو 2008). وفي الواقع لم يقم بورقيبة بما هو غير متوقع عندما تمسك وحتى رفاقه بتصريف الدولة وحتى احتكارها للشأن الديني.

أسطورة «بورقيبة اللائكي» هي جزء من أسطورة «بورقيبة الحداثي». ويجب التوقف هنا عند تمييز منهجي ضروري بين «نية التحديث» و «تحقق الحداثة». كان بورقيبة يمارس نسخته الخاصة لـ «نظرية التحديث» (modernization theory) التي ازدهرت بشكل خاص في نهاية خمسينيات القرن الماضي. دانيال ليرنر (المذكور أعلاه) أحد أهم مهندسيها، كان تعريفه للحداثة خاصة في المجال العربي (مجال اختصاص ليرنر) يقتضي بشكل رئيسي استعمال آلة الدولة بشكل قسري لاستنساخ حداثة تعتبر أن المشكل الرئيسي الذي يسمح بتحققها هو نقض التأثير الديني. كان أتاتورك نموذج هذه الرؤية. الفرق الوحيد أن بورقيبة لم ينقض سلطة القول الديني بقدر ما حاول توظيفها لـ «إصلاحه». لكن في كل الأحوال، ومثلما توصل النقد ما بعد الحداثي لـ «نظرية التحديث»، خاصة مع أزمة الدول العربية ما بعد الكولونيالية في نهاية الثمانينيات، كان هذا «تحديثا ساذجا». إذ كان في نهاية الأمر متناقضا في الجوهر مع فلسفته الحداثية بمجرد تعويله على مفهوم قهري لسلطة الدولة يصل حتى تهميش التسيير الديمقراطي ويصطنع «تطورا» تشريعيا غير مؤسس على سلطة الاختيار الديمقراطي ليفسح المجال لـ «الرجوع إلى الوراء» في أي وقت. والنموذج البورقيبي للدولة «الحداثية» لم يكن قسريا ومستبعدا للتسيير الديمقراطي فحسب (تحت شعار «الحرية المنظمة»)، بل كان مشخصنا بشكل فارق، يسترجع أكثر نماذج عبادة الشخصية الكاريكاتورية. وذلك ما لا نحتاج حتى أن نفصل فيه.

الاثنين، أفريل 13، 2009

بورقيبة المقال الأول من ثلاث

نص أول من ثلاث نصوص على خلفية ذكرى رحيل بورقيبة... فيه الذاتي قدر ما فيه من الموضوعي

رابط المقال
صورة المقال
نص المقال
بـورقــيــبــة (1-3)

طارق الكحلاوي

إذا كان هناك أمر يستحق التنويه في أي بداية لحكاية الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة (وقد مررنا للتو بذكرى رحيله يوم 6 أبريل 2000) يجب أن يكون التنصيص على استحالة تنميط الرجل أو حشره في توصيف ذي بعد أحادي. لكن، مثل غيري الكثير على ما أعتقد، كان عليّ أن أمر بمخاضات مختلفة حتى أفهم ذلك.
كنت من الجيل الذي كان بعضه -إن لم يكن كله- شاهداً على بورقيبة المهترئ، العجائبي، المتكرر إلى حد الضجر قبل وبعد وخلال نشرات الأخبار، في بورتريهات المحلات الفخمة وبيع الفواكه الجافة وحتى أعمدة النور، وأيضا الخرائب. بورقيبة الخطيب «صباحاً مساءً.. ويوم الأحد»، والضاحك أحياناً، الباكي أحياناً أخرى. وجه متقلب محفور بالقديم والعتيق، يتحرك كآلة صدئة، يتكلم بحشرجات تقبل التأويل، حتى تخاله شبح نفسه. هو اسم تونس، أو هكذا أراد أن يكون وأراده أن يكون من تبقى من مريديه. كان اسم الشارع والمقهى والملعب والميناء والمطار ومحطة الحافلات وعربات النقل الريفي. اسم البنايات الرسمية والمنتجعات الترفيهية والجسور. اسم بطولة كرة القدم وكأسها ومنافسات الألعاب المدرسية وإنجازات الفرق الوطنية للرياضات الفردية والجماعية. اسم كتاب التاريخ والجغرافيا. اسم الحركة الوطنية وأعياد البلاد. اسم الشعر الشعبي والأغاني الوطنية والعاطفية إن لزم الأمر. اسم «الجهاد الأكبر» و «الأصغر» على السواء. واسم خطب رئيس الوزراء وبيانات الحزب والحكومة والمنظمات الشعبية والجريدة الرسمية وبداية البثّين التلفزيوني والإذاعي ونهايتهما. كان اسم النكات وأدب السخرية السياسية «تحت الأرضي». واسم هجاء أجيال المعارضين. كان خانقاً. كابوساً لا يشير شيء لنهايته.
كنت تجاوزت الثلاثة عشر ربيعاً بأيام قليلة عندما أيقظني والدي صباح اليوم السابع من شهر نوفمبر العام 1987 ليخبرني أن بورقيبة أزيح من السلطة. اعتقدت للوهلة الأولى أن ذلك امتداد لحلم وردي كنت مستغرقاً فيه ساعات الصباح الأولى، إذ كان بورقيبة شيئاً من أشياء الحياة في تونس. برغم كل الأعاصير السياسية وحيوية القوى «الإصلاحية» و «الثورية» على السواء التي عجت بها البلاد في الثمانينيات لم يكن من السهل تصور سلطة في تونس بدون بورقيبة، ولو أن تلك كانت أمنية شديدة الشيوع. أذكر في تلك الأشهر أني قرأت إحدى الروايات الأكثر جاذبية لغابريال غارثيا ماركيز «خريف البطريارق»، حيث ذلك الحاكم المخرف الذي عمر قروناً حتى أصبح جزءاً من قصره البائد واصطبلاته المقفرة وحتى طحالب البلاد. كان من الصعب ألا أرى في صورة الرئيس الراحل تلك الصورة الأسطورية لحاكم أبدي يبيد الحياة قبل رحيله.
الخبر الموالي الذي أسر لي به الوالد هو غياب سيارة المراقبة «الأمنية» التي كانت ترابط بشكل روتيني أمام المنزل معظم سنوات الثمانينيات وحتى قبلها. عندها فقط، وبرؤية العين، فهمت أن الرجل رحل من السلطة. إذ طيف بورقيبة، بالنسبة لصبي مثلي آنذاك، كان طيف سيارات بدون لوحات رقمية، ورجال عابسين يرافقوننا بكل الجدية اللازمة أينما نذهب حتى أوقات السباحة في شاطئ المدينة. كان طيفه حاضراً في زيارات الليل، وأب ملاحق ومعطل عن العمل وفي السجن أحياناً أخرى لنشاطه النقابي والسياسي. كان طيف فقر الأحياء القصديرية وموتى أحداث 26 يناير العام 78 ويناير 1984. كان طيف السجن والسجان، والعصا الغليظة. كان ذلك «بورقيبتي» أنا.. ولم أكن وحدي.
لم يكن ذلك التمثل مزيفاً، لكن كان منقوصاً أو مختزلاً. الآن أبتسم بمرارة عندما أشاهد ما يبدو للوهلة الأولى أنه «نوستالجيا بورقيبية» لدى شبيبة تائهة تبحث في غرف الدردشة والمدونات و «الفيس بوك» ومواقع تقاسم أشرطة الفيديو عن بديل للحاضر من الماضي. ينهض من هذا المدخل بالتحديد بورقيبة من جديد مثل العنقاء. أشعر بسخرية الأقدار عندما أرى أجيالاً «ما بعد بورقيبية» تنحت صورة أحادية فردية لبورقيبة وردي الملامح، «حداثي»، «عبقري»، «سابق لزمانه»، يلامس النبوة تقريباً. لكن أليس «بورقيبتي» أنا أيضاً من نفس الطينة الأحادية الطابع؟
بورقيبة المذموم بالمطلق والممدوح بالمطلق على السواء هو بورقيبة الأسطورة. بورقيبة «أنا» التونسي الفردية. هو بورقيبة الذي ننحته من زوايانا الذاتية تبعاً للظروف السياسية والفكرية التي نخضع لها أو نتمثل خضوعنا لها. وعلى الرغم أن ذلك أمر بديهي إلا أنه يصعب نطقه لمن عاش في زمنٍ بورقيبي أو ما بعد بورقيبي. إذ سيرة الرجل ذات منعطفات حادة ومواقف حادة ولهجة ولغة حادة تدفع بسهولة نحو ردود الفعل الحادة. لكن في السنوات الأخيرة أيضاً بدأ يحضر بصوره المفارقة حتى لدى ألدّ معارضيه. مثل هذه الصورة المفارقة مثلاً هي التي انطبعت لديّ في إحدى السنوات القريبة الماضية خلال زيارة لرئيس الوزراء التونسي السابق، الذي لا تقل صورته أسطورية، أحمد بن صالح، والذي كان في وقت ما أقرب مقربيه قبل أن يصبح أبعد المبعدين عنه في وقت لاحق. بكل الحيوية الممكنة وبصوت بطيء وبعينين متقدتين وصف بن صالح بأدق التفاصيل أحداثاً عاشها مع الزعيم الراحل. لفت انتباهي بشكل خاص صوته المتأثر وهو يصف زيارة قام بها بورقيبة إلى قرية «المكنين» زمن الاحتلال الفرنسي في وقت حصار أمني خانق. كيف ترجل الرجل سيارته وسط سوق القرية ووقف على كرسي وبدأ يخطب في تحدٍ للقوة المحتلة وأجهزتها المحلية عن ضرورة الاستقلال وسط دهشة الجميع حتى معاونه الشاب بن صالح. الأخير الذي ذاق الكثير من اللحظات المرة على أيدي الرئيس الراحل لم تنتقِ ذاكرته القوية صوراً أحادية الطابع لغريمه السياسي الراحل. لم يستطع أن ينسى الصورة الفسيفسائية لبورقيبة.
من حسن الحظ أننا نعيش الآن زمن القراءات المتعددة لبورقيبة وليس زمن قراءاته الأحادية فحسب. بدأ زمن المؤرخ الذي يمحو ببطء ولكن بثبات أيضاً الصورة الأسطورية لبورقيبة. وفي هذا السياق يلعب منذ سنوات أستاذ أجيال من المؤرخين التونسيين السيد عبدالجليل التميمي دوراً محورياً من خلال «مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات» في إعادة الاستكشاف التاريخية لبورقيبة. إذ أشرفت المؤسسة الأخيرة، وهي من الأطر التونسية غير الحكومية النادرة التي تقوم بعمل جدي في مجال الإنسانيات، على ندوات علمية جمعت مؤرخي تونس المعاصرة وعلى جلسات تم فيها «استنطاق» شهود قريبين من البورقيبية زمناً ورؤية وقامت بنشر كل ذلك في عدد من الكتب خاصة منذ سنة 2000. ترافق ذلك مع نشر سلسلة كتب لصحافيين ومذكرات شهود آخرين بدأت تتلمس بشكل متزايد الطبيعة المعقدة للرئيس الراحل.
لكن في الوقت نفسه يسترجع بعض التونسيين بورقيبة، خصوصاً في ذكرى رحيله، في صوره المختزلة الأحادية وفي أحيان كثيرة كمخلص لم نكتشف حقيقته إلا بشكل متأخر. يعود كمشروع لتغيير الحاضر، مضفياً مشروعية محلية وتاريخية على سياقات فكرية وسياسية في حاجة للمشروعية تحت غطاء كثيف من الشعاراتية «التقدمية» و «الحداثية». وبهذا المعنى فإن نقد «الأساطير المؤسسة» لبورقيبة والبورقيبية تبدو مهمة محورية ليس للمؤرخ فحسب بل أيضا للتونسي المستغرق في مهام الراهن.


الاثنين، أفريل 06، 2009

تونس و انتخابات الجزائر

مقالي الأخير (هنا) تعليقا على الانتخابات الرئاسية الجزائرية و مغزاها بالنسبة للتطورات (أو "التعطلات") القادمة في المنطقة المغاربية.. فيما يلي نص المقال في الأصل لأنه وقع إعادة توضيب عند النشر اختفت فيها النقاط و بقيت الفواصل

و هذه صورته







انتخابات الجزائر و اتجاه المنطقة المغاربية

طارق الكحلاوي

تقام في يوم 9 أفريل الجاري الانتخابات الرئاسية الجزائرية. و بقطع النظر عن النتائج (المتوقعة على كل حال) و المعاني السياسية لهذه الانتخابات ننظر كتونسيين عادة مثل بقية مواطني دول المغرب إلى الوضع في الشقيقة الجزائر بانتباه خاص. فقد كانت لدينا دائما علاقة معقدة مع الشقيق الأكبر (كما و حجما) القابع في اتجاه الغرب. مزيج من الاحترام و الحب و لكن أيضا الخشية و أحيانا التبرم بمعزل عن التنوع السياسي و الفكري في الساحة التونسية. مشاعر الاحترام و الحب تجد تعبيراتها في تاريخ التخوم المشتركة، و ليس الحدود المشتركة، التي تفصل بين القطرين. إذ من النادر أن يتمثل تاريخ العشائر "التونسية-الجزائرية" المقيمة تاريخيا على مدى الحدود السياسية الحديثة علاقة انفصال. في قرى و مدن ولايتي الكاف و جندوبة التونسيتين نجد مقدمات الطبيعة و البشر ذاتها التي تميز مدون و قرى ولايات سوق أهراس و الطرف و عنابة الجزائرية. و ذات الانطباع في ولايات الجنوب المتاخمة. حتى الحدود السياسية بمعناها المحدد، و ليس الضبابي المميز لعهد دول المخزن، و التي تشكلت عبر اتفاقيات متسلسلة خاصة عهد الإيالات العثمانية بحلول القرن السابع عشر كانت دائما محل إعادة مراجعة. مشاعر الحب و الاحترام المتبادل كانا بالقوة و العنفوان الذي يتجاوز ماهو سياسي. نظام بورقية ما بعد الكولونيالي و بالرغم من قيامه على أنقاض صراع مع التيار العروبي "اليوسفي" بالتحديد حول سؤال "هل تستقل تونس من دون استقلال الجزائر؟" و بالرغم من علاقاته الصعبة و المتوترة مع بعض قادة الثورة الجزائرية اختار استراتيجيا دعم "الثورة الجزائرية" بكل الوسائل بما في ذلك تهريب السلاح و حماية المقاومين المحتمين بالقدوم إلى تونس. هذا الخيار المبدئي الذي عهد الزعيم التونسي الراحل بتفاصيل تنفيذه إلى القيادي النقابي التاريخي أحمد التليلي، أصيل منطقة قفصة المحاذية للجزائر، كان من بين الأسباب الأساسية (بالاضافة الى الذرائعية البورقيبية) في العلاقة شديدة التوتر بين بورقيبة و شارل ديغول إلى الحد الذي دخلت فيه العلاقة بين تونس و فرنسا سنوات من المشادات و حتى سيل الدماء (غارة "ساقية سيدي يوسف"، و حتى أجواء "معركة بنزرت" ذاتها).

في المقابل خيمت في بعض الأحيان أجواء من الخشية و التبرم بين الطرفين خاصة منذ ترسيم حدود مقننة في المرحلة العثمانية و تشكل جهازين سياسيين سيكونان أساس الدولتين القطريتين اللتين ستقومان على أنقاض الاحتلال الفرنسي. إذ لم يكن أي داي أو باي يخسر صراع السلطة في "تونس المحروسة" إلا و يطلب الدعم من دايات الجزائر الأقوياء عسكرا و مالا. و هكذا كان الكثير من التاريخ السياسي لهذين الجهازين السياسيين المتمركزين بين تونس و الجزائر هو تاريخ تدخل الطرف الجزائري لتعديل كفة الصراع السياسي في تونس. لكن كلما قدم جيش الدايات الجزائريين إلا و جلب معه عبر المنطقة الشمالية الغربية حتى أطراف مدينة تونس الكثير من الفوضى. مشاعر الريبة و التبرم تبرز أيضا في مراحل الأزمات السياسية مثلما حدث في ثمانينات القرن الماضي عندما بدأت هذه المشاعر لدى الجزائر الرسمية زمن صعود التيار الاسلامي التونسي و انتقلت الى تونس الرسمية عند صعود التيار الاسلامي الجزائري.

و عموما فإن الجزائر هي "مصر المغرب". و هي قطر محوري بين دول المغرب إلى الحد الذي مهما كانت فيه المشاعر السياسية مفارقة فإن الوضع في الجزائر يمكن أن يحسم الميزات العامة للوضع في منطقة المغرب ككل. و بمعزل عن كل الخلافات التي تميز علاقة النظام الجزائري ببقية الأنظمة المغاربية تبدو الاتجاهات التي تميز الجزائر هي الاتجاهات العامة للمنطقة و لو ربما في أشكالها الأكثر حدة. و هكذا كان للانفتاح السياسي الذي ميز الجزائر في نهاية ثمانينات القرن الماضي و للتجربة الديمقراطية غير المسبوقة خلاله أثرا عاما في الدفع بأجواء متقاربة و ليس بالضرورة مماثلة في المنطقة المغاربية. مثلما كان لمرحلة الصراع العنيف بين السلطة الجزائرية و التيارات المنفلتة من عقال "جبهة الانقاذ الاسلامي" الجزائرية إثر إنهاء التجربة الديمقراطية أثرا حاسما في الدخول في مرحلة حسم أمني شامل بين بقية الأنظمة المغاربية و تياراتها الاسلامية أو بعض أهم تياراتها الاسلامية في أقل الأحوال.

الانتخابات الجزائرية الرئاسية القادمة ضمن هذا السياق لا تحمل تجديدا لكنها تحمل على الأرجح ملامح تراجع آخر في توجه الجزائر نحو نظام سياسي تعددي بما يعني مزيد تعميق أزمة النظام التعددي في المنطقة ككل. و هنا لا يمكن الحديث عن تركيبة الوضع الجزائري بأي صيغ تعميمية. فهو وضع معقد بكل تأكيد. إذ لا نجد الصيغ غير الادماجية و ذات اللون الواحد. فبعد كل شيئ توجد تعددية حزبية حقيقية في الجزائر بوجود أحزاب فاعلة و معبرة عن قطاعات واسعة في الشارع و ممثلة لخلفيات فكرية و سياسية متعارضة أحيانا بما في ذلك في المشهد البرلماني منها "الوطنية الاسلامية" و "الاسلامية" و "الوطنية القومية العربية" و "الوطنية القبايلية" و "القبايلية الانفصالية" و "الوطنية اليسارية" و "اليسارية الفرنكفولية" (Francophiles). هذا في اطار استمرار إقصاء رموز الطرف الاسلامي الرئيسي المرهق من سنوات الحرب الأهلية و غياب منطقة القبايل عن التمثيل السياسي في السلطة. و عموما تبدو أحد إشكاليات الوضع في الجزائر محدودية معالجة ملف "المصالحة الوطنية" من زاوية سياسية بما يؤثر على التوجه العام للوضع في اتجاه يستبعد تدريجيا المشاركة السياسية. إذ أن توافقا وطنيا حقيقيا يستوعب أسباب الأزمة يذوب تدريجيا خلف شعار "التوافق الوطني".

و في هذا السياق يفصل الكتابين و الأكاديميين الجزائريين أحمد أغروت و يحيى زبير، في مقال (بتاريخ 1 أفريل) حول الانتخابات الراهنة في النشرية الأميركية (Middle East Report)، الملامح العامة التي تشير إلى أننا بصدد تركز السلطة شكليا و عمليا إلى حد ما في مؤسسة الرئاسة و بالتحديد في شخص الرئيس بوتفليقة بشكل يجعلها بنفس تركيبة الكثير من الأنظمة المجاورة في شمال افريقيا. فلسفة التعديل الدستوري الأخير و الذي يستعيض عن مبدأ التداول على الرئاسة بمبدأ علوية "الرغبة الشعبية" بما في ذلك "الرغبة" في التجديد غير المحدود عمليا للرئيس بوتفليقة، و الطريقة المرتجلة التي تم بها حدث دستوري بهذه الأهمية تشير إلى سلبية عامة تجاه هذه الانتخابات. التعديل الذي تم فيما يبدو و في بداية الأمر على الضد من رغبة بعض القيادات العسكرية المؤثرة (مثلما فهم من رفض رئيس الوزراء الأسبق أويحيى "المقرب منها" للتعديل) أدى إلى بروز "التحالف الرئاسي" الحزبي ("الوطني الاسلامي") بوصفه القوة الوحيدة الدافعة نحو التعديل. و حسب أغروت و زبير فإن التوافق اللاحق مع المؤسسة العسكرية هو الذي "أعطى الضوء الأخضر" لتحقق التعديل وفقا مفاهمات غير معروفة ربما تضع "خطوطا حمراء" أمام صلاحيات الرئيس. و هكذا وفقا لهذا الطرح فإننا بصدد الدفع أكثر نحو إعادة إنتاج تركيبة ما قبل الانفتاح السياسي لأواخر الثمانينات حيث وجود المؤسسة العسكرية المتواري يحدد بشكل مستمر هوية مؤسسة الرئاسة و طبيعة أدائها ضمن سياقات غير مؤسساتية و غامضة. و من ثمة نحن إزاء مفارقة التضاد بين واقع التعدد الحزبي الحقيقي مقابل تعطل إمكانية التداول على السلطة بسبب الرجوع إلى التركيبة التي ترعرع فيها الرئيس بوتفليقة أي ما قبل سنة 1988. و لو أن الأخير لا يملك وسائل و كاريزما الرئيس الراحل بومدين مثلما يسعى دائما لأسباب شخصية و تاريخية بل يقترب من خصائص الرئيس بن جديد الأقل تميزا و فرادة. لكن الأهم أن هذا الاتجاه الجزائري يعني أن ملامح منطقة المغرب لا تتجه في ملف التركيبة السياسية للأنظمة القائمة نحو مرحلة أكثر إدماجية و تعددا. فاتباع الجزائر للتركيبة السياسية لجيرانها يعني أنه لن تكون في المستقبل القريب نموذجا للتجديد السياسي في المنطقة. كما أنه لن يحل الأسباب العميقة لأزمتي السياسة و العنف في الجزائر و من ثمة إحلال توافق وطني جدي فيها. و مثل هذا الأفق يجب أن يستدعي مشاعر الخشية و التبرم من قبل بقية مواطني دول المغرب.





السبت، أفريل 04، 2009

في الاسلاموفوبيا.. المقال السابع

الحلقة الأخيرة في سلسلة هذه المقالات... على أمل العودة إلى الموضوع في مقال مطول و مسترسل



الرابط و صورة المقال

و نص المقال

في الاسلاموفوبيا (7)

طارق الكحلاوي

إذا حاول بعض "إسلامفوبيي الخدمة" مثل ابن الوراق الاقتراب من "الاسلاموفوبيا الاكاديمية" و لو إسميا و شعاراتيا فإن أكثرهم بروزا من زاوية دعائية هم الذين تبنوا رؤى و طرائق "الاسلاموفوبيا الشعبوية" لاستعدادهم التلقائي للتفاعل مع الخطاب التبسيطي الدعائي للاسلاموفوبيا في شكلها الغربي. الفرق بين الاثنين، "الاسلاموفوبيا الاكاديمية" و تلك "الشعبوية"، هو فرق في الشكل و من ثمة في المضمون. "الاسلاموفوبيا الشعبوية" تعتمد الانتقائية و التعميمية و اللاتاريخية بأشكال فجة تستبعد أبسط القواعد المنهجية في تحليل موضوعي في اختصاص الانسانيات أي قواعد التحليل الأكاديمي. هي أيضا تحرص على خطاب سياسوي فج يأخذ التوظيف الانتقائي لكتاب مثل أبن الوراق إلى مستوياته الأقصى و يضع الاسلاموفوبيا ضمن سياقها الأكثر واقعية أي السياق السياسي. إذ المفردات السياسية هي الساقين الذين يكشفان الدواعي التاريخية لوجود الاسلاموفوبيا في كل ظرفية زمنية و مكانية محددة. في عصرنا الراهن يتركز الخطاب السياسي للاسلاموفوبيا في موضوعة الدعم الآلي للسياسات الاسرائيلية و ليس فقط لـ"حق إسرائيل في الوجود". و مؤتمر "قمة الاسلام العلماني"، المشار إليه منذ الحلقة الثالثة من سلسلة هذه المقالات، نموذج لهذه الأرضية السياسية المشتركة بين أنواع مختلفة من "إسلاموفوبي الخدمة" حيث يبرز الموقف الموالي لإسرائيل كمشروع سياسي في المنطقة بوصفه موقفا جامعا.

مثلما أشرت سابقا هناك علاقة بين مؤتمر "قمة الاسلام العلماني" المنعقد في مدينة سانت بيترسبورغ (ولاية فلوريدا الأميركية) في شهر مارس من العام 2007 و الذي لعب فيه ابن الوراق دورا تنظيميا بارزا بالوسط النيومحافظ و كذلك "اللوبي الاسرائيلي الليكودي" السائد أميركيا. الوجه التنظيمي للعلاقة هو مشاركة "القمة الاستخبارية الدولية" ذات الارتباطات المعروفة بالوسطين النيومحافظ و الاسرائيلي و حتى بعض أوساط المافيا الروسية في تنظيم المؤتمر (أنظر مثلا صحيفة "سانت بيترسبورغ تايمز" التي غطت وقائع المؤتمر 6 مارس 2007). غير أن العلاقة أكثر وضوحا عند التمعن في قائمة المشاركين و في مضامين المداخلات التي تضمنها المؤتمر.

من بين المشاركات في المؤتمر الأميركية و السورية الأصل وفاء سلطان و التي تتبنى روتينيا موقفا إسلاموفوبيا واضحا يتميز بكافة خصائص "الاسلاموفوبيا الشعبوية": "الاسلام هو المشكل" و "بربري"، هذا عدى إعلانها أن "الحروب الصليبية جاءت ردا على تعاليم الاسلام" الأمر المخالف لحقائق تاريخية يعرفها أي طالب مبتدئ في الموضوع بما يعكس الاستعداد الآلي للتعميم و التبسيط الفج الذي يستفز حتى من يمكن أن يكون في صفها من المسلمين (ربما من الأفضل التعرف على عمق هذه الرؤية الاسلاموفوبية الفجة لسلطان من خلال الاطلاع على مقال هشام حسب اللله الاميركي من أصل مصري و المعروف بعدائه القوي لـ"الاسلام السياسي" و الذي عبر في مقال في مارس 2006 عن صدمته من مواقف سلطان بعد أن كان متعاطفا معها، أنظر موقع "altmuslim.com" 13 مارس 2006). و رغم رغبة البعض في تقديمها على أنها "إصلاحية مسلمة" (مجلة "التايم" 30 أفريل 2006) فإن سلطان تؤكد بشكل متواصل أنها بصدد "محاربة الاسلام و ليس الاسلام السياسي فحسب" (مثلما أشارت في كلمة ألقتها في ندوة "رستورياشين وييكاند" التي ينظمها سنويا النيومحافظ هوورويتز في الجلسة المعنونة "النساء في الاسلام" في نوفمبر 2007). السيدة سلطان التي تقدم نفسها عادة "دكتورة وفاء سلطان" لا يوجد حول تاريخها و طريقة انتقالها للولايات المتحدة معلومات واضحة، خاصة أن بعض الأحداث التاريخية التي أشارت إليها مثل مقتل أحد أساتذتها في الحرم الجامعي لجامعة حلب سنة 1979 بوصفها حادثة محورية في حياتها تم التشكيك في حصولها من قبل شهود عيان سوريين (موقع "إين فووكوس نيوز" عدد مارس 2007). لكن سلطان معروفة ليس بدافعها الروتيني عن السياسيات الاسرائيلية بما في ذلك الحرب الأخيرة على غزة فحسب بل أيضا بارتباطها بالشبكة الدعائية الاسرائيلية. إذ البروز الاعلامي لسلطان لم يتم في السياق الغربي إلا إثر إعادة التوظيب (عبر الترجمة للانجليزية و القص الانتقائي) لفيديو مواجهتها في برنامج الاتجاه المعاكس" مع إبراهيم الخولي (21 فيفري 2006) . في مجمل تصريحات و مواقف سلطان يثير طابعها السياسي الانتباه خاصة مثلا عندما تعتبر أن الاسلام هو "أصل الارهاب"، و مثلما اشارت في أكثر من مرة (بما في ذلك في حلقة برنامج "الاتجاه المعاكس" المشار إليها) أن "ليس هناك يهودي فجر نفسه في مطعم ألماني" و هو التصريح الذي لقي ترويجا إسرائيليا دعائيا خاصا (مثل الحوار الذي أجرته معها "الاذاعة القومية الاسرائيلية" في 13 مارس 2006). لكن الملفت بشكل خاص هو الدور الذي لعبه مركز إعلامي يرأسه قيادي سابق في "الموساد" (مركز "ميمري" الاعلامي) في الترويج للبروز الاعلامي لسلطان خاصة عبر التوظيب الانتقائي و الترجمة المشكوك في صحتها لحلقة "الاتجاه المعكس" (الدور الدعائي السياسوي الذي يلعبه هذا المركز لقي اهتماما اعلاميا متزايدا في السنوات الأخيرة و هو ما انعكس في سجال مشهور بين براين ويتيكار الصحفي في جريدة "الغارديان" البريطانية و مدير "مميري" ييغال كارمون في جانفي سنة 2003). كما أن سلطان تشارك مع كارمون في محاضرات مشتركة بما في ذلك تعليقا على حلقة "الاتجاه المعاكس" التي روجت لها "ميمري" (بوسطن 6 نوفمبر 2007).

غير أن موقف سلطان من السياسات الاسرائيلية متماثلة في الأساس مع بقية المشاركين في المؤتمر باختلاف خلفياتهم الفكرية بما في ذلك الذين لا يتبنون بالضرورة مواقف إسلاموفوبية معلنة على الأقل (و هو ما يفسر اللهجة الحذرة لـ"إعلان سانت بيترسبورغ" الذي تخلص إليه المؤتمر). من مثال الألوسي السياسي العراقي الذي برز خاصة بزياراته إلى إسرائيل و تعرضه للمساءلة من قبل مختلف القوى السياسية العراقية على تنوعها على هذا الأساس. إلى الأميركي ذي الأصل الإيراني أمير طاهري و الذي يعتبر ليس داعما للسياسات الاسرائيلية فحسب بل أحد أقطاب النيومحافظين في الولايات المتحدة. إلى توفيق حميد العضو السابق في "الجماعة الاسلامية" المصرية و الذي دافع في مقال أخير مثلا على الحرب الأخيرة على غزة بما أن المسؤولية تقع على الفلسطينيين (صحيفة "الجيروزاليم بوست" 31 ديسمبر 2008). إلى مجدي علام الايطالي ذي الأصل المصري الذي انتقل من الاسلام إلى الكاثوليكية و الذي يدعي أنه يتعرض لتهديدات "تنظيمات فلسطينية إرهابية" مما دفع الحكومة الايطالية لتوفير حماية أمنية له و ذلك أن "دعمه لإسرائيل" بسبب "أن أصل ايديولوجيا الكراهية و العنف و الموت هو التمييز ضد إسرائيل" على حد قوله (تقرير "الاسوسياتد بريس" 22 مارس 2008). غير أن أكثر الأمثلة مباشراتية و تخصصا دعما لإسرائيل من بين المشاركين في "قمة الاسلام العلماني" الأميركية المصرية الأصل نوني درويش مؤسسة جمعية مجهرية تسمى "عرب من أجل إسرائيل" و التي انتقلت من الاسلام الى الانجيلية و معروفة بكتابات اسلاموفوبية أكثر فجاجة و تبسيطا من سلطان ذاتها.