الأحد، أفريل 26، 2009

بورقيبة المقال الثالث من ثلاثة

رابط


بورقيبة (3-3)
طارق الكحلاوي

«سياسة الكل أو بلاش هي التي أوصلتنا إلى هذه الحالة.. لو رفضنا الحل المنقوص كما رفض العرب التقسيم أو الكتاب الأبيض بعدها سيندمون عليه ويقولون يا ليتنا لو قبلنا لكانت حالنا أفضل مما هي عليه الآن» -بورقيبة، في أريحا، 3 مارس 1965.

أكبر وأوسع الأساطير البورقيبية انتشاراً تلك المتعلقة بنظرته إلى الصراع العربي- الإسرائيلي. هنا أيضاً يتعين علينا أن نشاهد واحدة من صورتين لا ثالثة لهما: من جهة أولى بورقيبة «العقلاني» و«الواقعي» و(إذا دخل المتملقون والممجدون المحترفون على الخط) «السابق لعصره» المجرد من السياسوية. ومن الجهة المقابلة تتراءى صورة «العميل» و«الخائن» وهي الرؤية التي تبناها خصومه حتى فترة قريبة جداً إن لم يكن إلى هذه اللحظة. ما يثير الانتباه ولكن أيضا الريبة وحتى الاشمئزاز (خاصة) نجاح الخطاب الدعائي المردد لشعارات «الحكمة» و«الواقعية» في التسلط حتى على رؤى مؤرخين محترمين أصبحوا في نهاية الأمر يتمثلون الخطاب الروتيني للبيروقراطية البورقيبية. فرغم الاحتفالية المبالغ فيها إعلامياً وحتى أكاديمياً بهذا الموضوع فإن القليل من البحوث استطاع مسح ما يكفي من المصادر الأرشيفية حتى يمكن الاستماع لخلاصاتها، ومن بين هذه الدراسات القليلة تلك التي نُشرت من قِبَل مايكل لاسكير (Michael Laskier) والطاهر الأسود.

يقع التأريخ للموقف البورقيبي في حل القضية الفلسطينية عادة بدءاً من الخطاب الذي ألقاه في أريحا في مارس 1965. ولكن هناك من يشير أيضاً إلى تواريخ سابقة بعض الشيء مثل خطابه غير المنشور في القمة العربية في يناير 1964 أو في أقصى الحالات وثيقة يتيمة أشار إليها عبدالجليل التميمي ترجع إلى سنة 1957. وجميعها يشير إلى نفس النقطة، أي: ميل بورقيبة للاعتراف بقرار التقسيم ومن ثَمَّ الاعتراف بإسرائيل كنقطة لبدء عملية «تحرير فلسطين» بشكل محصور بالفلسطينيين. وعموماً يقع تلخيص كل الانخراط البورقيبي في هذه النقطة في مقتطفات «خطاب أريحا» مع تقديمها كحِكم أزلية مفصولة عن أي معطيات سياسية خاصة ببورقيبة (كنبيّ قادم من بعيد). غير أننا نعرف الآن من خلال كمّ هائل من المصادر الأرشيفية خاصة المحفوظة بين الولايات المتحدة وإسرائيل أن تاريخ النظرة البورقيبية ليس أسبق من ذلك فحسب، بل الأهم أنها أكثر تعقيداً بكثير مما يريدنا البعض أن نتصور.

أصبح من الضروري أن يُروى السرد التاريخي لهذا الموضوع كالتالي: بدأ الاهتمام البورقيبي بإسرائيل في سياق التحضير للمعركة الدبلوماسية لاستقلال بلاده والتأسيس لتحالف دولي للضغط على الاحتلال الفرنسي. في يونيو 1952 تم أول لقاء بين مسؤول يمثل بورقيبة (الباهي الأدغم) وممثل إسرائيل في مقر الأمم المتحدة في نيويورك في إطار «طلب الدعم الإسرائيلي» لمطلب الاستقلال التونسي وفي الشهر نفسه صرح بورقيبة لجريدة «لوموند» الفرنسية بضرورة القيام بـ«تسوية سياسية» بين العرب وإسرائيل. وأكد بورقيبة الموقف نفسه عندما التقى لأول مرة شخصية مهمة في الدوائر الدولية الإسرائيلية ألك إيسترمان مدير مكتب لندن آنذاك لـ«المؤتمر اليهودي العالمي» في منفاه الباريسي سنة 1954. حسبما يتبين من وثائق لاحقة من مرحلة «الاستقلال الداخلي» خاصة منها تقرير يوثق (في شهر فبراير العام 1956) لقاء بورقيبة مع السفير الإسرائيلي في باريس ياكوف تسور. نصح الأخير بورقيبة بأن عليه «ضمان دعم اليهود الأميركيين للحصول على دعم اقتصادي أميركي». وتبدو هذه كلمة السر فيما يخص خلفية الموقف البورقيبي من الصراع العربي- الإسرائيلي منذ بدايته، أي حتى قبل الاستقلال. إسرائيل هي المفتاح للولايات المتحدة. المشكلة أن بداية هذه العلاقة (أي قبل الاستقلال) كانت مخيبة للآمال بما أن الإسرائيليين رفضوا التعامل مع الطلب التونسي بسبب استمرار مراهنتهم على الاحتلال الفرنسي كضمان لتواصل تهجير اليهود التونسيين إلى إسرائيل القائم على قدم وساق آنذاك وبإشراف «الموساد» ذاته (حسب وثائق لاسكيير) في مختلف المدن التونسية.

بعد الاستقلال كان (أيضاً) الاهتمام البورقيبي بإسرائيل مرتبطاً ظرفاً ومضموناً بالرغبة في الحصول أساساً على مساعدات اقتصادية أميركية وهو هدف معلن تمت الإشارة إليه قبل الاستقلال خلال اللقاء مع تسور في فبراير 1956. في لقاء بين السفيرين التونسي والإسرائيلي في باريس في أكتوبر 1956 تم الاتفاق على «تعاون اقتصادي بين البلدين». لكن التطورات التي أدت إلى اصطفاف بورقيبة إلى جانب الثورة الجزائرية و«معركة الجلاء» و«الجلاء الزراعي» يبدو أنها خلقت نوعاً من الفتور بين الجانبين وهو الأمر المنعكس في تقلص كبير للوثائق الأرشيفية الخاصة بالموضوع حتى سنة 1965.

الأشهر السابقة واللاحقة على «خطاب أريحا» في مارس 1965 تمثل الظرفية الأهم لتفسير الموقف البورقيبي خلال زيارته «الشرق أوسطية». قطع المساعدات الفرنسية، خاصة بعد إعلان «الجلاء الزراعي» في شهر مايو سنة 1964، أدى إلى اهتمام بورقيبة بتنويع مصادر المساعدات الدولية وعدم الارتهان للمصدر الفرنسي. كان ذلك يعني الرجوع إلى الورقة الأميركية وبالتالي الرجوع إلى الورقة الإسرائيلية. الوثائق تشير إلى التسلسل الآتي للأحداث: تشير مذكرة (اطلعت عليها بشكل مباشر) بتاريخ 18 ديسمبر سنة 1964 إلى ملاحظات من قِبَل مسؤول الخارجية الكولونيل روبرت كومر على ضوء لقاء مسؤول أميركي مرتقب مع وزير الخارجية التونسي بورقيبة الابن، تشير إلى عدم استعداد أميركي لزيادة المساعدات الاقتصادية لتونس بل واحتمال تخفيضها، بالإضافة إلى تذمر أميركي بأن «المعتدلين» في شمال إفريقيا لا يبدون علنيا دفاعا عن تشابك مصالحهم مع المصالح الأميركية. ثم تنقل وثيقة أخرى إثر «خطاب أريحا» بشهرين (مايو 1965) محتوى زيارة وزير الخارجية بورقيبة الابن إلى واشنطن طلبت إثرها الولايات المتحدة التوسط لتونس لضمان دعم مالي من الحكومتين الفرنسية والألمانية الاتحادية بقيمة 20 مليون دولار. وتشير الوثائق إلى أن الموافقة الإسرائيلية على الاستجابة للمطالب الأميركية كانت في إطار أملها أن تسهم الحكومة التونسية في تشجيع حكومات عربية «معتدلة» أخرى من أجل «إفشال أو تخريب الجهود المصرية والسورية للوحدة العربية». تواصل الوثائق التي يكثر عددها خلال هذه الفترة الحديث عن تقارب بين الطرفين استمر بشكل متسارع وحثيث طيلة سنة 1966 ليصل حتى مجالات أمنية وأيضا دعم إسرائيلي لترشيح بورقيبة لنيل جائزة نوبل عبر مقترح تقدمت به رسميا (جامعة البرازيل) بالإضافة إلى تعاون اقتصادي مس جميع المجالات، خاصة منها القطاع السياحي الناشئ. لكن ذلك كله يبدو أنه وصل لمأزق مع نشوء حرب يونيو 1967، خاصة أن موقف بورقيبة كان داعما لمصر وبقية الأقطار العربية. من الضروري الإشارة إلى أنه خلال كل هذه المدة رفض بورقيبة التصريح بهذه العلاقات وحرص على سريتها مثلما هو مسجل بالوثائق. كما أنه رفض عقد «اتفاقية سلام» منفردة بل إنه وقف مع «جبهة الرفض العربي» إثر اتفاقية «كامب ديفيد».

يحيلنا ذلك على وضعية معقدة لا يمكن وصفها بتوصيفات أحادية البعد من نوع «إما أبيض وإما أسود». بالنسبة لبورقيبة المحدد الرئيس لمدى ونوع انخراطه في الصراع العربي- الإسرائيلي كان يخضع بالأساس لما يرى أنه «مصلحة وطنية عليا»، وبالتالي لا يخضع للحسابات التبسيطية لـ«العمالة»؛ إذ يرفض التماهي بين «مصلحة بناء الدولة الوطنية- القطرية» و«المصلحة القومية العربية». من جهة أخرى لم تكن المقاربة البورقيبية نصيحة مجانية من حكيم سياسي تعبر عن «واقعية» و«عقلانية» في علاقة بالملف الفلسطيني بقدر ما كانت تعبر عن الهاجس الذرائعي لبورقيبة الخاضع لما يرى أنه «مصلحة تونسية» تتمثل في التموقع (سياسيا واقتصاديا) ضمن الاستراتيجية الأميركية في المنطقة عبر المفتاح الإسرائيلي. في المقابل من غير الدقيق وصف الرؤية الأخرى الناصرية تحديدا بأنها كانت «غير واقعية» أو«غير عقلانية» أو أيضا أنها كانت مقتنعة بموقف بورقيبة ولكنها لا تقدر على مواجهة شعبها، إذ مثلما أشار أحمد بن صالح في أكثر من مرة إلى أن اعتراض عبدالناصر على رؤية بورقيبة لم يكن على حكمة مبدأ التفاوض و«خذ وطالب» ولكن على ضرورة التفاوض من «منطلق قوة» أي بعد تحقيق نجاحات عسكرية. ومن الواضح الآن أنه حتى التنازل من دون مقابل في تلك المرحلة والقبول بالتقسيم لم يكن مقبولاً من الطرف الآخر حتى يكون وضعاً يمكن «أخذه» لكي تتم «المطالبة» بما هو أفضل لاحقاً.

1 التعليقات:

AntikoR يقول...

عسلامة طارق ..

نشكرك على المقال الثريّ .. أنا من رأيي أنه يوجد صفة ثالثة يمكن أن نصف بها برقيبة .. فبين "عميل" و "حكيم" يمنكنا أن نجد نقطة التقاء من شأنها أن تصالح المواطن التونسي و العربي مع هذاالرجل.. بأن نقول أنّه كان يتقن العمل الديبلوماسي ..

بغضّ النظر عمّا إذا كان الزعيم محقّا في خياراته.. فمن الإنصاف أن نقول أنّه كان متحمّلا لمسؤوليته عن تلك الخيارات ..إذ لم يتوارى وراء شعارات أثبت الزمن أنّها كانت سببا في إلحاق الهزيمة تلو الأخرى بالشعوب العربيّة..و إذا كان البعض يرى أنه كان "عميلا" لإنّي أضنّ أنّ الرّجل لم يكن "غدّارا" بالمعنى التونسي للكلمة ..

و بالنسبة إلى القضيّة الفلسطينيّة .. فإنّنا نلاحظ أنّه لا مفرّ من العمل الديبلوماسي من أجل "الخلاص" نظرا لما تعانيه الشعوب العربيّة اليوم (كما بالأمس) من ضعف و استفقار لأسباب النجاح في الميادين كافّة بما في ذلك الميدان العسكري.. و الإشكال الحقيقي للأسف هو أن يكون الميدان الديبلوماسي أيضا في حالة يرثى لها.