الأحد، سبتمبر 06، 2009

أحمد بن صالح المقال السابع و الأخير

مقال صدر في "العرب" القطرية بتاريخ 6 سبتمبر... المقال الأخير حول بن صالح


http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=96464&issueNo=624&secId=15

أحمد بن صالح (7)

طارق الكحلاوي

2009-09-06
بعد الحلقات الست السابقة لم تبدأ بعد أهم قصص وحكايات أحمد بن صالح وأيضا التاريخ المعاصر لتونس، قصة بناء الدولة الناشئة. وهي القصة التي تستحق كتبا ومقامها ليس بالتأكيد مقال رأي. ولهذا السبب تحديدا ستتوقف قصة بن صالح مع هذه الحلقة في هذا المقام على أمل أن تستأنف في سياقها الأكثر طبيعية، سياق الكتابة الأكاديمية. إحدى القصص التي تستحق كتبا مفردة هي قصة «التعاضد». إذ إزاء هذه التجربة التي طبعت ستينيات القرن الماضي تقف الذاكرة التونسية خارج التاريخ، ما زالت تعيش ضمن الذاكرة الشفوية ولم تجد طريقها بعدُ إلى مجال التوثيق المكتوب التاريخي الذي يضع المصادر المعاصرة، خاصة الأرشيفية موضع الصدارة ويهمش القراءات المؤدلجة والمسيّسة.

تراكم عوامل وأوضاع معقدة خلق ظروفا سادت فيها رواية شفوية سلبية في الذاكرة التونسية تجاه تجربة «التعاضد» التي كان مهندسها الأساس بن صالح. لم نستمع في المقابل بما فيه الكفاية إلى رواية كوادر الدولة الذين أسهموا مع بن صالح في إطلاق وتسيير «التعاضد»، يمكن حصر هذه العوامل والأوضاع في اتجاهين، الأول خليط من رواية شعبية مستقاة من بعض المناطق أو الفئات التي عارضت «التعاضد» وموقف تيارات يسارية مختلفة المرجعيات الإيديولوجية («ماركسية لينينية» إلى «بعثية») رأت في التجربة مشروعا «مزيفا» يستبدل «الاشتراكية الحقيقية» بأخرى «صورية». الثاني اتجاه الرواية الرسمية التي روجت بانتظام رواية تبسيطية للتجربة بدوافع مؤدلجة ومسيّسة. فنجد رئيس البلاد يعلن أنه كان بمثابة المخدوع وأنه لم يكن يعرف «ما يجري». ويتم وضع نتائج التجربة ضمن سياق التقييمات الشمولية والإطلاقية وتحت عناوين مختصرة وغير جدية بالتالي مثل «التجربة الكارثية». رواية دعائية، غير جديدة عن الدولة الناشئة ولن تكون الأخيرة، تصف التجربة بعبارات تحيل على أيام التجربة السوفيتية في بناء «الضيعات الاشتراكية» (بشقيها «الكولخوزي» أو «التعاضدي» و «السوفخوزي» أو «السوفيتي») وما تعنيه من «عنف ثوري» ومرجعية «شيوعية».

«الشيوعية» تحديدا اتهام وجه من قِبَل بعض قيادات الحزب إلى بن صالح حسب الأخير منذ «مؤتمر صفاقس»، ومن قبل نفس الشخوص التي ستناصبه العداء مع حلول نهاية الستينيات مثل عبدالله فرحات. وهو الاتهام الذي يتعامل معه بن صالح بسخرية كلما تعرض إلى تجربة «التعاضد». أشار أكثر من مرة إلى أنه باسم الحكومة التونسية استطاع التحصل أواسط الستينيات على أول قرض يخص القطاع الفلاحي من قبل «البنك الدولي» بملايين الدولارات في الوقت الذي كانت ترفض فيه هذه المؤسسة المالية الدولية منح قروض خاصة بهذا القطاع للدول الفقيرة. كيف، يقول بن صالح باستهزاء، يمكن لمؤسسة رأسمالية بامتياز أن تمول مشروعا «شيوعيا»؟

بن صالح لا يزال يحمل حساسية خاصة لموضوع «المرجعية» هذا. مرجعية النموذج والتجربة «السويدية» تغيب عن الكثيرين عندما يتم طرح التجربة التعاضدية التونسية. التجربة الاسكندنافية أصبح من الواضح الآن أنها تجربة نموذجية بجميع المقاييس في سياق النظام الرأسمالي، إلى الحد الذي يجعل البعض يصفها بأنها «أنسنة» للرأسمالية، كانت بالنسبة لبن صالح مخبرا للتدرب على «التنمية الاقتصادية» بشكل مباشر وفي ظروف لعبت فيها الصدفة دورا أساسيا (وجود بن صالح في بروكسيل ممثلا لـ «اتحاد الشغل» مع قيادات نقابية اسكندنافية وقريبا نسبيا من ستوكهولم التي سافر إليها). يؤكد بن صالح في هذا السياق رفضه آنذاك اعتماد مرجعية المحتل السابق في البناء الاقتصادي. يشير إلى الانتقادات التي وُجهت إليه من داخل الحزب وبالتحديد من قبل نخبة «إفرنجية» كما يقول أو متفرنسة متوجهة إليه بالقول: «ما دخلنا في السويد؟». يفاخر بن صالح بأن الفرنسيين أنفسهم في النهاية اضطروا للتعلم من التجربة السويدية في المرحلة الديغولوية. ويتذكر بتلذذ تلقين أولف بالم، رئيس الوزراء السويدي ذائع الصيت، والذي يعتز بن صالح بصداقتهما الكبيرة، للجمهور الفرنسي وعلى التلفاز دروس التجربة السويدية.

لكن فلسفة بن صالح لدواعي تجربة «التعاضد» تتعلق أيضا حسب روايته بظروف الداخل، خاصة ما رأى فيه من نوايا الاستثراء من قِبَل بعض نخب الاستقلال وبالتحديد من خلال وضع الأيدي على الأراضي. يقول بن صالح في جرد مختصر لنتائج سياسته: «البعض اعتقد أن الاستقلال زردة» (حفلة أكل) وأن «التعاضديات أنقذنا بها الأراضي من هؤلاء». يفند كذلك الاتهامات بأنه وقع إرغام جميع الفلاحين بالانضمام للتعاضديات ويتفاخر في هذا السياق بمبادرته إنشاء 40 صندوقاً تعاونياً للقروض (تقديم القروض الصغيرة التي يتم النظر إليها بكثير من المديح هذه الأيام) بالنسبة لـ «الفلاحين الذين لا يستطيعون الدخول في التعاضد».

من الصعب تقييم حصيلة التجربة الآن. لكن لن أمل من القول والتكرار أنه من المؤكد أن تاريخها لم يُكتب بعدُ. قبل الخروج من أحد اللقاءات مع بن صالح قدم لي مقالا للأستاذ في جامعة دنفر الأميركية خلال الستينيات شارل ميكو (Charles Micaud) يتحدث فيه عن تجربة بن صالح. وبن صالح عموما شديد الحساسية والاهتمام بالتقييم الأكاديمي لتجربته. يشير بفخر إلى علاقته القوية بالباحث الفرنسي جاك بارك وبإنشائه وحدة تحليل سوسيولوجي في وزارة الاقتصاد لتتبع آثار التجربة «التعاضدية».

مقال ميكو يحيلنا على نقاش دار في الستينيات وبداية السبعينيات في الإطار الأكاديمي الأميركي بين رؤيتين في علاقة بتقييم التجربة التونسية في البناء الاقتصادي وعلاقتها بالتوازنات السياسية داخل السلطة خاصة إزاء الصورة المهيمنة لبورقيبة. يمثل الرؤية الأولى ميكو في حين يمثل الرؤية الثانية دوغلاس أشفورد (Douglas Ashford) الأستاذ في جامعة كورنيل. مقالات الاثنين التي كانت معاصرة لتجربة السلطة والحكم لبورقيبة وبن صالح بدت مهتمة بسؤال مركزي مفاده: إلى أي مدى يمكن اعتبار بن صالح والسياسات التي نجح في إيصالها إلى مواقع السلطة التنفيذية امتداداً لـ :البورقيبية»؟

يعرف الاثنان «البورقيبية» ضمنيا بأنها الرؤية «البراغماتية» والتي تجعل ضرورات الواقع هي التي تملي السياسة وليست أي مرجعيات أيديولوجية محددة. بالنسبة لميكو يظهر بن صالح كمنفذ ذكي ومرن للبورقيبية. في المقابل يتحدث أشفورد عن بن صالح بوصفه «متمردا» على الرؤية البورقيبية؛ لأنه يؤكد ضرورة التمسك بمرجعية «اجتماعية» مهما كانت الظروف. من الواضح أن أي تقييم جدي لتجربة بن صالح «التعاضدية» في حاجة للرجوع إلى أسئلة الستينيات هذه بالإضافة إلى جرد وتصفيف وتحليل كل الوثائق الأرشيفية المتاحة حول تجربة ربما ننسى أحيانا أن الكثير من المؤسسات التي أنجبتها (دواوين الزيت والقموح، المؤسسات السياحية الأولى التي أسست لقطاع السياحة، الكثير من التعاضديات الباقية حتى اليوم... إلخ) كانت ولا تزال رموزا للدولة ما بعد الكولونيالية. وضمن هذا السياق بالتحديد، وعلى الأقل كأحد المساهمين في بناء هذه الدولة، بمساوئها وإيجابياتها، وبعيدا عن الهيمنة الأسطورية البورقيبية، يتحسر بن صالح كثيرا عندما يرى مناسبة رسمية تتعرض لتاريخ المؤسسة الرسمية ولا تشير إليه بأي شيء. كان ذلك مثلا حاله عندما شاهد خلال هذا الصيف عرضا في التلفاز للبرلمان عن تاريخ القوانين والتشريعات الأهم في تاريخ البلاد والتي لم تتم خلالها الإشارة إلى أي من القوانين التي أسهم في إحداثها أو المؤسسات التي أسهم في تأسيسها مثل «صندوق الضمان الاجتماعي».

أشار عليَّ بعض الأصدقاء بأني «تعاطفت أكثر من اللازم مع الرجل». تعاطفت نعم، ولكن لست متأكدا أني أفهم ما يقصدونه بعبارة «أكثر من اللازم»؛ إذ إزاء الهيمنة الطويلة للصورة البورقيبية على تاريخ الدولة ما بعد الكولونيالية فإن أية صور أخرى يجب أن تأخذ سنوات حتى تستقر في موقعها الذي تستحقه. ليس بن صالح بكل تأكيد ملاكا، كما لن يروي إلا حكايته هو ولن يتذكر إلا ما يريده هو. غير أنه لا يمكن أن ننازعه حقه في سردها، وألا نستكثر عليه تكراره إياها. هذا إلى أن نستطيع أن نكتب الدراسات التاريخية المحققة التي تستفيد من كل الروايات المتاحة وأيضا من المصادر المكتوبة المتاحة. وذلك هو حق بلادنا علينا، وهو الحق الذي يتعالى على حقوق الأفراد فيها مهما علا شأنهم أو نقص.

1 التعليقات:

IL PADRINO يقول...

مقال رائع
كنت دائم التساؤل عن تلك الحقبة
شكرا