الاثنين، ديسمبر 21، 2009

الحياة أم النمو؟ في احتمالات الكارثة المناخية

مقال صادر في "العرب" القطرية 20 ديسمبر.. بالمناسبة باستثناء البيروقراطية الحكومية ماذا حدث في تونس من تحركات في أوساط المجتمع المدني بمناسبة مؤتمر كوبنهاغن؟؟ في الوقت الذي ستكون فيه تونس من بين الدول الأكثر تضررا في المتوسط بتأثير الانحباس الحراري

"برغم التكتل الواسع الذي نجحت في تشكيله الدول "النامية" إلا أن مبادرات المجتمع المدني داخلها سواء من قبل منظمات بيئية أو أحزاب بيئية شديدة المحدودية في حين تستحوذ بيروقراطية الدولة على زمام المبادرة في هذا المجال."


http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=110529&issueNo=732&secId=15

الحياة أم النمو؟ في احتمالات الكارثة المناخية

طارق الكحلاوي

2009-12-20
لم يعد من الممكن حتى بالنسبة للتيارات الأشد محافظة عدم الاعتراف بحقيقة أساسية، وهي أن مستقبل مناخ الأرض ومن ثمّ مستقبل معيشة البشرية مرتهن ليس بظروف موضوعية، فحسب بل بخيارات البشرية الاستراتيجية في أكثر من مجال. حتى الضوضاء التي تمت إثارتها بين النواب الجمهوريين في الكونغرس منذ أسابيع قليلة في علاقة بتقارير داخلية بين علماء مناخ بريطانيين (بدت كأنها تدعو للمبالغة في الحديث عن ظاهرة الانحباس الحراري والنفخ فيها) توارت إلى الوراء أمام الشهادات الحاسمة من مصادر متنوعة حول خطورة الوضع المناخي الراهن. الدور الحاسم للخيار الإنساني يطرح مفارقة جديرة بالاهتمام لم يتم طرحها بهذه الحدة وبهذا الشمول فيما قبل: إلى أي حد يمكن للبشرية أن توفق بين استمرار النمو واستمرار الحياة؟

محاور الصراع في مؤتمر كوبنهاغن تركزت بالتحديد حول الرؤى المتضاربة لكل دولة على حدة أو كتل من الدول ذات المصالح المتقاربة أحياناً أخرى لهذه المفارقة. وحول هذه المفارقة تشكلت محاور الصراع والتكتلات المختلفة. هناك أولاً الصراع داخل مجموعة الدول الأكثر إنتاجا للتلوث. التركيز الأميركي على محور "الشفافية" كان يستهدف بلا شك السياسة الصينية إزاء تسيير ملف التلوث المتفاقم، ولا يمكن تجاهل علاقة هذا الموقف الأميركي برغبة الإدارة الأميركية أن تخفض الصين من حجم إنتاجها الصناعي وهو الموقف الذي تم الضغط في اتجاهه في القمة الصينية الأميركية منذ أسابيع قليلة. وفي هذا السياق يأتي إعلان الوفد الأميركي في كوبنهاغن بوضوح عن تحميل المسؤولية للقيادة الصينية في حالة الفشل في التوصل إلى اتفاق. الصين من جهتها بوصفها الأكثر إنتاجاً للتلوث بدت عازمة على الامتناع عن أي خطوة يمكن أن تفتح الباب أمام مراقبة دولية لأية التزامات تقوم بها في هذا الشأن.

نقطة الصراع الأساسية التي تفصل موقف كتلة الدول الأقل إنتاجاً للتلوث (أي "الدول النامية") وموقف الدول الأكثر إنتاجا للتلوث هي في نهاية الأمر متعلقة بترتيب الأولويات الكبرى وليس في التفاصيل. بالنسبة للأولى وهي المتركزة في الأغلب في مجالات حارة أو كذلك قريبة من المياه يصبح الرهان هو الحياة ذاتها وليس النمو، وذلك حتى برغم وعيها بالعلاقات المعقدة والمتقاطعة بينهما. بالنسبة للدول الأكثر إنتاجا للتلوث وفي ذات الوقت الأقل تأثرا نسبيا بالأزمة المناخية في الغالب تهيمن ذهنية المحافظة على الربح تحت شعار "المحافظة على النمو". يبدو ذلك بشكل خاص في الخلاف حول الحد الأقصى لتخفيض الارتفاع في درجات الحرارة بحلول سنة 2020. إذ في الوقت الذي لا تبدي فيه الدول الأكثر تلويثا استعدادا للالتزام بتخفيض الإنتاج من أجل ضمان ارتفاع في درجات الحرارة لا يتجاوز درجتين مئويتين بحلول سنة 2020 تبدي كتلة "الدول النامية" تشاؤما بالغا، خاصة أن بعض التقارير تشير إلى أنه إذا لم يتم الالتزام بتخفيض نسق ارتفاع درجات الحرارة في حد أقصى لا يتجاوز درجة ونصف الدرجة المئوية بحلول سنة 2020 فإن احتمال الكارثة خاصة بالنسبة لدول نامية كبيرة سيتوسع بشكل غير مسبوق. المشكل الحقيقي الآن وحسب التقارير الواردة يوم 18 ديسمبر هو أن الحد الأقصى المطروح من قبل الدول الأكثر تلويثا والمتمثل في درجتين مئويتين سيكون على الأرجح حدا نظريا وما سيحدث عمليا هو استمرار ارتفاع درجات الحرارة بنسبة 3 رجات مئوية أو حتى أكثر وهو ما سيشكل منطقة خطر حقيقية.
لنعرض جانبا من هذه الأرقام المستقبلية والصادرة عن مؤسسات ذات أهلية وليس عن منظمات بيئية مسيسة بأية حال.

1 - المشهد العام: التغييرات المناخية لن تصبح بحلول سنة 2020 غير مرئية تقاس بشكل متقطع بل ستعيد تشكيل المشهدين الطوبوغرافي والمناخي ومن ثمة ستترك آثارا مباشرة على تقاليد العيش في مستويات دولية وإقليمية ومحلية. مثلاً حتى في حالة تخفيض ارتفاع درجات الحرارة إلى مستوى درجة واحدة سنويا (وهو ما يعتبر أمراً مستحيلاً حسب المعطيات الراهنة) فإن القطبين الجنوبي والشمالي سيتعريان تماما من الجليد في أشهر الصيف. وبحلول سنة 2020 مثلاً لن تصبح قمة جبل كليمنجارو جليدية. في حالة الحفاظ على ارتفاع درجات الحرارة بما يفوق الدرجتين مئويتين فإن الآثار ستكون عميقة. درجات الحرارة في الصيف في مناطق شمالية مثل بريطانيا ستصبح بشكل معتاد في حدود أربعين درجة مئوية.

2 - تهديد الحياة البشرية: في حالة استمرار ارتفاع درجات الحرارة في مستوى درجتين مثلما تريد الدول الأكثر تلويثا أن تلتزم سيتعرض أكثر من 10 ملايين نسمة إلى احتمال فيضان مياه البحار على السواحل وستختفي من على وجه الأرض ثلث الكائنات الحية. في حالة استمرار الارتفاع في حدود لا يتجاوز الدرجة المئوية الواحدة (وهو صعب للغاية) فإن حرائق الغابات ستصبح أكثر تكرارا واعتيادا حتى في دول حوض البحر الأبيض المتوسط وأكثر من ثلاثمائة ألف شخص سيصبحون معرضين لأوبئة مثل الملاريا. في حالة بلوغ نسبة الدرجتين المئويتين أكثر من ستين مليون نسمة في القارة الإفريقية سيصبحون عرضة لوباء الملاريا. أما في حالة بلوغ الارتفاع نسبة ثلاث درجات مئوية فإننا ندخل إلى نقطة اللاعودة خاصة مع تهديد "رئة العالم" أي غابات الأمازون باحتمال حرائق تشمل مئات الكيلومترات المربعة من الأراضي.

3 - اتساع مساحات المجاعات: حسب تقرير لمنظمة "الفاو" ("الأغذية والزراعة" الأممية) فإن العجز في إنتاج الحبوب سيتفاقم بحلول سنة 2030 وسيصل إلى %13 مقارنة بحاجات الاستهلاك في "الدول النامية". هذا التفاقم يرجع بالتأكيد إلى تزايد الطلب الناتج عن النمو السكاني لكن سيكون أيضاً نتيجة مباشرة لانخفاض مساحات الإنتاج بتأثير الانحباس الحراري إذا استمر بالمعدل الراهن. في حالة استمرار درجات ارتفاع الحرارة في مستوى درجتين مئويتين فإن نصف المليار نسمة سيتعرضون لاحتمال المجاعة. في حال بلوغ نسبة الثلاث درجات مئوية سيحصل في هذه الحالة نقص بين 30 و%50 من كميات المياه المتوفرة في القارة الإفريقية وحتى في الحوض المتوسطي بما يعني موجات هجرات جماعية ضخمة من الجنوب نحو الشمال بما يعنيه ذلك من صراع غير مسبوق في مستوى حدته على أقل مقارنة بالعصور التاريخية المعروفة.

هذه التوقعات لا تحتوي على السيناريوهات السوريالية تقريبا، والتي لن تكون مستحيلة لو تم تخطي عتبة الثلاث درجات مئوية. في حالة الوصول في المدى الطويل إلى ارتفاع في حدود 4 درجات مئوية فإن الحياة البشرية ستصبح مستحيلة في بعض المناخات على الأرض، إذ ستصل درجات الحرارة في الصيف في مناطق في شمال أوروبا إلى مستوى 50 درجة مئوية وهو ما يؤشر على درجات الحرارة الخيالية الممكنة في نفس الفترة في المناطق الصحراوية الإفريقية مثلاً. كما أن ذوبان الجليد المتعاظم سيؤدي إلى ارتفاع مياه البحر بما يعني اختفاء دول كاملة (التي لديها سواحل في شكل شبه جزر) مثلا في البحر المتوسط مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا وتركيا. وبالتالي حتى سواحل عربية على المتوسط مثل منطقة الدلتا المصرية وأجزاء مهمة من الساحل البحري التونسي على سبيل الذكر لا الحصر ستصبح حينها مهددة بالاختفاء.

وهنا نأتي للنقطة الأخيرة. إذ برغم التكتل الواسع الذي نجحت في تشكيله الدول "النامية" إلا أن مبادرات المجتمع المدني داخلها سواء من قبل منظمات بيئية أو أحزاب بيئية شديدة المحدودية في حين تستحوذ بيروقراطية الدولة على زمام المبادرة في هذا المجال. وهو ما يضعنا أمام وضع مفارق آخر وهو أن المجالات الأكثر عرضة للأزمة المناخية هي التي تعرف الوعي المدني الأقل بخطورة المرحلة القادمة. يرجع ذلك إلى عدة عوامل بالتأكيد بعضها يتعلق بصعوبات الحياة الجمعياتية المدنية خارج فلك السلطة في حين يتعلق البعض الآخر بوضع الذهنية العامة بما في ذلك محدودية الثقافة البيئية، والأمّية، وحالة من الارتخاء والاستسلام لأقدار الطبيعة بما يعني استمرار الاعتقاد في عجز الإنسان عن التدخل في تسيير مآل المناخ والتحولات الطبيعية.

1 التعليقات:

bacchus يقول...

المشكل يا طارق أنّ الحديث عن الاحتباس الحراري بقي موضوع الندوات وموضوع النخبة لأنّه ببساطة يتمّ الكلام في الموضوع من خلال أرقام وتصوّرات وإحصائيات يفهمها البعض ولكنّ السواد الأعظم مشغول بالخبز ألا من طريقة لايصال الرسالة ببساطة أكثر فالجمعيات والبيرقراطيات وأنت تعلم كما أعلم أنا ونحن كلّنا ثمّة مسائل تسوى من خلف السّتار وإلاّ ما معنى أن تشتري دولة حقّ المشاركة في التلوّث من دولة أخرى لأنّها ليست صناعيّة. المشكل وفق ما أرى هو بثّ الوعي في الناس عبر أشرطة قصيرة أو نصوص بسيطة أمّا الجمعيات وغيرها لا أنكر دورها ولكنّ المسألة مسألة حراك أي البحث عمّا يجعل التحرّك جماعيّا