الأربعاء، ديسمبر 23، 2009

الحق و القوة و استبطان خطاب الخضوع

مقال صدر في "القدس العربي" بتاريخ 23 ديسمبر 2009
http://is.gd/5ztJi

الحق و القوة و استبطان خطاب الخضوع
طارق الكحلاوي

'الحق مسألة تتعلق فقط بالمتساوين في القوة، وبينما القوي يفعل ما يستطيع فإن الضعيف سيعاني ما يجب عليه أن يعاني' خطاب الأثينيين للميليين سنة 431 قبل الميلاد

'القوة هي التي تصنع الحق' نقلا عن سينيكا الأصغر (من بين آخرين) قبل سنة 60 ميلادية.

في السنة السادسة عشرة للحرب البلبونيزية، مثلما يروي المؤرخ الأثيني توسيديد بقليل من الحياد، أرسلت الامبراطورية الأثينية التي بصدد التشكل في آخر القرن الخامس قبل الميلاد مبعوثها للشقيق اليوناني الأصغر، دويلة 'ميلوس'. كانت رسالة المبعوث الأثيني شديدة القتامة والبرود أيضا، دعوة صريحة للاستسلام الكامل على أساس حجة وحيدة وهي التهديد بالإفناء الكامل. وهكذا وصلنا أحد أقدم النصوص المؤسسة لمنطق الامبراطورية عبر التاريخ. ليس من المهم في حقيقة الأمر ما إذا كان الحوار الشهير بيبن الأثينيين والميليين دقيقا أم لا أو حتى حقيقيا أم لا. لأن المحصلة التي صاغها القلم البارد لتوسيديد بكل عناية وفخامة والأهم من كل ذلك بدرامية تضاهي قطعة مسرحية يونانية كلاسيكية، إنما هي ذات الأفكار التي يستطيع خطاب الإخضاع الامبراطوري أن يستعملها في كل مكان وزمان.

سيكون من السذاجة لأي كان أن يصدق في عصر 'المجتمع الدولي' أن الصراع الامبراطوري قد تلاشى تحت وابل شعارات 'القوانين الدولية'. المؤسسات 'الدولية' الراهنة المنبثقة عن الصراعات الامبراطورية كانت ولا زالت بالأساس موجودة لتنسيق وتنظيم وكبح الصراع وليس لإنهائه، ومن ثمة الحفاظ على النظام الامبراطوري المعاصر وليس تعبيرا عن نهايته. غير أن بعض معطيات هذا الصراع تغيرت ومنها خطاب الإخضاع. لم يعد من 'اللائق' مثلا التهديد الصريح بالإفناء الكامل حتى في حالة الممارسة الواقعية للإفناء أو ما يشبهه. تم إخضاع خطاب الإخضاع وفقا لمعايير أكثر نعومة تتخفى ولا تتكشف، تنتهج البراءة ولا تحبذ التوحش. وفي الوقت الذي كان يمكن فيه لسينيكا الأصغر وقت تصنيع النموذج الامبراطوري الروماني في القرن الأول للميلاد أن يكرر بكل دعة ودون مساحيق الحكمة الامبراطورية بامتياز 'القوة هي التي تصنع الحق' (وليس العكس) فإن خطاب الإخضاع الراهن عاجز بكل معنى الكلمة عن النطق بذلك. ورغم ذلك لا يمكن تجاهل حقيقة أساسية: خطاب الإخضاع جزء لا يتجزأ من فعل وممارسة الإخضاع. وأقصى (وأيضا أقسى) تعبيرات الخضوع للإخضاع هو خطاب الخضوع المستنسخ لنسق خطاب الإخضاع.

استحضرت كل ذلك وأنا أستمع لرئيس السلطة الفلسطينية (العاجزة تحديدا عن ممارسة 'السلطة') في حوار تلفزي هذا الأسبوع عاود فيه بنبرة من الثقة الكبيرة وحتى السخرية أحيانا التأكيد على رؤيته لوضع الصراع الراهن. ليس المشكل هنا فداحة الخطب الذي يجعل السخرية اختيارا سمجا وليس لأن الثقة المفرطة في التعبير عن رؤية ما تعكس هشاشتها أكثر من عمقها، بل المشكل بالأساس في أن السيد عباس لا يقبل أن يناقش مسألة 'الحق' بدون إخضاعها لمسألة 'القوة' بمعناها الكلاسيكي. إذ عندما يقول رئيس 'منظمة التحرير الفلسطينية' بعد عشرات السنين من حمل السلاح ثم عشرات السنين من المفاوضات العقيمة (التي قاد بعضها بنفسه) أن 'تسلح الانتفاضة الثانية كان أكبر خطأ ارتكبناه كفلسطينيين... لأن الاسرائيليين أقوى' إنما في النهاية لا يسائل أشكال العمل المسلح الفلسطيني بقدر ما ينفي الحاجة إليه أصلا. هو في النهاية يدعو لإلقاء السلاح لأن الآخر أقوى. فقط، لا غير، نقطة إلى السطر.

السيد عباس الذي يحبذ بين كل جملتين أن يذكرنا أنه شخص 'واقعي' و'عقلاني' يطرح في المقابل خيار 'المقاومة الشعبية السلمية' كأنه بديل غير موجود وقائم يوميا منذ الانتفاضة الأولى في أقل الأحوال.
ويطرح خيار المفاوضات في هذا السياق تحديدا دون أن يحدثنا عما استطاع هو تحديدا أن يحققه عبر 'سلاح' المفاوضات. كان سيكون من الواقعية والعقلانية بكل تأكيد لو قدم السيد عباس نقدا ذاتيا وجردا نزيها لتجربته التفاوضية.

بكل تأكيد لا يمكن النظر إلى الموضوع بطريقة 'إما أبيض وإما أسود'---'إما مقاومة مسلحة وإما مقاومة سلمية'، أو 'إما مقاومة أو مساومة'.

لكن المصادرة الامبراطورية 'القوة تصنع الحق' ليست خاطئة تماما رغم كم سوء النوايا التي تتشبع بها، ومشكلة عباس أنه لم يستفد من أهم دروسها. تحقيق 'الحق' مسألة بلاغية إذا كان سيقتصر على الحجة الكلامية بما في ذلك الشعاراتية المجردة لـ'القانون الدولي'. ولن يتغير الأمر كثيرا لو يتم الاقتصار على 'مقاومة شعبية' لا تشعر الطرف الآخر المسلح من رأسه حتى اخمص قدميه بأن 'قوته' المستمدة من سلاحه لا يوجد إزاءها أي رادع. يستشهد الرئيس عباس (نقلا بشكل حرفي عن الرئيس أوباما) بنماذج 'المقاومة المدنية السلمية' لغاندي ومارتن لوثر كينغ. المقارنة مع تجربة المهاتما غاندي تتجاهل الطابع غير الاستيطاني والناعم نسبيا للاحتلال البريطاني. المقارنة مع تجربة النضال من أجل 'الحقوق المدنية' الأمريكية تتجاهل وضع التلاحم الواقع المتعدد الأعراق والذي كان دائما محركا أساسيا لسيرورة تحرير السود في الولايات المتحدة. ورغم كل ذلك ألم يجرب الفلسيطيني 'المقاومة الشعبية السلمية' بين سنتي 1948 و1965؟ ألم يجربها فلسيطينيو الداخل حتى نهاية الانتفاضة الأولى؟ ليس من الواقعية في شيء وليس من العقلانية في شيء انتقاء تجارب لا يمكن مقارنتها مع الوضع الفلسطيني لكي تصبح نماذج لـ'التحرير'. كما ليس من الواقعية ولا العقلانية في شيء تجاهل تجارب 'المقاومة الشعبية السلمية' الفلسطينية السابقة كأن عباس يقترح بديلا جديدا غير مسبوق.

والمفاوضات اللانهائية بدعوى 'اختلال موازين القوى' تستبطن أمرا من إثنين: إما الوعي بعبثية أي مفاوضات بدون الخضوع الكامل وإما العجز عن فهم ديناميكية مفهوم 'القوة' ذاته. التفاوض المجرد من أي استعمال لكل إمكانات القوة ليس خيار الضعيف بل هو تحديدا خيار الضعيف الذي يقرر أن يتجاهل الواقع البشري المعاصر والذي لم يعد فيه من الممكن تحديد 'القوة' من منظار تكنولوجي وكمي مجرد. إذا كان على السيد عباس التحلي حقا بشيء من العقلانية والواقعية فعليه أن يعترف قبل كل شيء بأننا في عصر تدرس في أفضل أكاديمياته العسكرية 'الحروب اللامتوازية' (أي الحروب بين 'القوي والضعيف') وفق مبدأ أساسي وهو استحالة حسم حروب من هذا النوع على أساس عسكري. أي أن مصدر 'القوة' الرئيسي بالنسبة لـ'القوي' في هذه الحالة أي المصدر العسكري هو منتف بالضرورة إذا قرر الضعيف حمل السلاح أيضا. في عصرنا هذا أصبح من الممكن لـ'قوة' الضعيف أن تنمو وتخلق واقعا جديدا تصبح فيه المفاوضات خيارا جديا. صناعة القوة في هذه الحالة طريق اساسي لإقرار الحق. وبهذا المعنى نعم سينيكا الأصغر مصيب إلى حد كبير: 'القوة تصنع الحق'.

بدون شك لا يمكن تجاهل فاعلية 'مقاومة شعبية سلمية'. غير أن تقييما نزيها وموضوعيا للتجربة الفلسطينية وتحديدا وفق المنظور الدولي والظروف الراهنة والتجربة البشرية لا يمكن أيضا أن يدعي بأي حال أن 'المقاومة المسلحة' خيار مضر أساسا مثلما يدعي باستمرار الرئيس عباس. هذا إذا كانت مجرد 'خيار' وليس نتيجة حتمية لا يمكن الفكاك منها وفقا تحديدا لحجم الممارسات العسكرية العدوانية للطرف الآخر.

الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن القبول 'الدولي' وحتى الاقليمي لوجود عباس بالتحديد كخليفة للرئيس عرفات قائم أساسا على قبوله بركيزة أساسية لخطاب الإخضاع أي القبول بالخضوع المسلح الكامل. التجرد الذاتي من أي سلاح، ومن ثمة التجرد الكامل من تنمية 'قوة' الضعيف في اتجاه خلخلة موازين القوى ومن ثمة إقامة طريق واقعي وعقلاني لمفاوضات جدية ليس نهجا واقعيا أو عقلانيا. بل هو استبطان آلي من الضعيف لخطاب الإخضاع من دون الاستفادة من درسه الأساسي. غير أن هناك فلسطينيين آخرين فهموا أو بدؤوا يفهمون تعقيد طبيعة الصراع والحاجة لوسائل خلاقة.
منذ أسابع قليلة أرسل لي أحد الأصدقاء رابط شريط فيديو لشاب نحيل جاء (مبعدا) أواخر الثمانينات إلى تونس يخطب في جمع من الطلبة التونسيين. كان ذلك مروان البرغوثي أحد قادة الحركة الطلابية الفلسطينية التي كانت رأس حربة الانتفاضة الأولى آنذاك. منذ ذلك الحين كان خطاب البرغوثي ينظر إلى الصراع بأبعاده الثلاثة هذه (مقاومة مسلحة/شعبية/مفاوضات) الذي صدم على الأرجح آنذاك المخيلة الثورية لمستمعيه. من الجهة الأخرى تتحدث حركة 'حماس' الآن عن 'المقاومة الرشيدة' ويمكن أن نستمع داخلها إلى أصوات لا تختلف جوهريا عن خطاب البرغوثي.

خاتمة نص توسيديد كانت الخاتمة المعتادة للصراعات الكلاسيكية القائمة على مبدأ 'الكثرة تغلب القلة' في العصور ما قبل الحديثة. غير أن ذلك لا ينطبق على عصرنا الراهن. في خاتمة نص توسيديد نقرأ بكل برود: 'الميليون استسلموا بعد حصار طويل للأثينيين الذين قتلوا كل الرجال البالغين وباعوا النساء والأطفال للنخاسين، ثم أرسلوا فيما بعد أثينيين للاستيطان هناك'. لم تعد تلك الخاتمة البديهية للصراعات الراهنة. على الرئيس عباس التوقف عن قراءة السيناريو الذي كتبه توسيديد وقراءة السيناريوهات الجديدة.

' أستاذ 'تاريخ الشرق الأوسط' في جامعة روتغرز الولايات المتحدة

1 التعليقات:

soukoun يقول...

رائع أنت في روعة ما تكتب