الجمعة، جوان 01، 2007

مقاربة "المغرب الكبير" ضمن إشكاليات مجتمع المدونين

Le 1er Juin Je blogue pour le Maghreb Uni




لن أكتب بهذه المناسبة مقالا كلاسيكيا. سأكتفي بطرح موضوع "المغرب الكبير" من زاوية الإشكاليات التي تم إثارتها في النقاشات بين المدونين التونسيين عوض إلقاء مجموعة من الأفكار الجامدة. فـ"المغرب الكبير" بالنسبة لي هو إشكالية واقعية يحتاج أن يتشكل في إطار نقاشاتنا الواقعية. و بالرغم من أني على قناعة أن مجتمع المدونين لا يعكس بأي شكل من الأشكال مجتمعنا الواقعي، بقدر ما هو مجتمع إفتراضي لا يفعل إلا أن يضخم بعض خصائص مجتمعنا الواقعي، إلا أنه الإطار الواقعي الذي ضمنه نقوم بكتابة "تدوينة 1 جوان". و بهذا المعنى فإن إشكاليات مجتمع المدونين بالنسبة لي هي المعنية الأولى بالإنتباه عند كتابة هذه التدوينة.

علي في البداية أن أقول أني أكتب هذه التدوينة و أنا بعيد آلاف الأميال عن بلدي الأم. كما أني بعيد الكثير من السنوات عن زمن النشاط الحركي السياسي. و الحقيقة لن أكتب ما سأكتب الآن لو رجعت ثمان أو تسع سنوات و بالتأكيد سيكون الأمر مختلفا بشدة لو رجعت خمس عشر سنة الى الوراء حيث كانت الأحلام أكبر بكثير من الممكن. هذا الإطار الذاتي مهم للغاية بالنسبة لي. و لكنه مهم أيضا كمدخل عام. حيث أن ذلك دليل تجريبي على أن مفاهيمنا لموضوع "المغرب الكبير" أو غيره يمكن أن تتغير، لكن ذلك لا يعني أن نتوقف عن إدراك أهمية تحقيق أهداف مماثلة. و لهذا السبب تحديدا، و على العكس ربما مما يمكن أن أفكر به في أيام الحمية السياسية، لا أرى أي فائدة من هذه التدوينة سوى أنها فرصة لنتناقش بكل جدية حول موضوع "المغرب الكبير". فالإكتفاء بالتعبير عن الرغبة العاطفية في وجود "مغرب موحد" لن يقدم أي شيئ. مقابل ذلك إذا فهم بشكل أفضل حتى عشرون شخصا كل على حدة و بطريقته ماذا يعني مفهوم "المغرب الكبير" بالنسبة له فإن ذلك أكثر فائدة للجميع. و الفائدة أيضا حاصلة حتى في حالة إختلافنا حيث أن ذلك، فقط إن تم على أساس حجج جدية، يعني أننا تقدمنا و لو سنتمترا واحدا عما كنا عليه قبل كتابة التدوينة. تصبح "تدوينة 1 جوان" في هذه الحالة ليس مجرد صرخة أو تظاهرة من الشعارات العمومية بل فاصلا زمنيا بين فهم أقل عمقا و فهم أكثر عمقا لمعنى "المغرب الكبير". و لهذا السبب أنا أدون اليوم.

في الهوية الوطنية و المجال المغاربي

من الإشكاليات التي لاحظت ترددها بقوة في مداخلات بعض المدونين هو وجود إنفصال تاريخي بين الهويات الوطنية (التونسية، الجزائرية،....) المشكلة للمجال المغاربي. علي هنا أن أتوقف عند تداخل إصطلاحي يشير الى الكثير من الغموض في أذهان البعض. حيث يخلط هؤلاء بين "الهوية القومية" و الهوية الوطنية. و هناك إستمرارا في الإعتقاد عن قصد و عن غير قصد (أي بتأثير العادة) في أن هناك "قومية تونسية". و في الحقيقة أصبح هناك إجماعا تونسيا (على مستوى النخبة السياسية) أن ذلك مجرد إختلاق بورقيبي لأسباب سياسوية في الأساس و لم يعد هناك أي خلط في هذا الشأن لدى مختلف أطياف الطبفة السياسية التونسية بما في ذلك الحاكمة حيث فهم الجميع أن هناك فرقا موضوعيا بين وطنيتنا التونسية و إنتمائنا القومي العربي. و لهذا تم إدخال الكثير من التحويرات حتى على مستوى الخطاب العام و الإداري (علي سبيل المثال تم تغيير "بطاقة التعريف القومية" إلي "بطاقة التعريف الوطنية").

إن نقاش هذه الإشكالية ليس مجرد ترف فكري. بل هو مسألة عملية للغاية. إذ يجب على الجميع أن يعلم أن شكوك بعض المدونين في هويتهم الوطنية و علاقتها بهويتهم القومية ترجعنا سنوات إلى الوراء و تضيع علينا مزيدا من الوقت في نقاشات بيزنطية قضى التونسيون في الصراع حولها عشريات عديدة. و من المثير أن بعض المدونين يعتقدون على ما يبدو أنهم هم من سيؤسس مفهوم "المغرب الكبير" في الوقت الذي بدأت فيه النقاشات حول هذا الموضوع من زمن بعيد. و على كل حال فإن هناك إجماعا مغاربيا على تسميته في الوقت الراهن بـ"المغرب العربي" ليس إعلاميا فحسب بل أيضا على المستوى الرسمي و المؤسساتي من خلال مؤسسة "إتحاد دول المغرب العربي". و من الضروري التأكيد هنا على أن شللية هذه المؤسسة في الوقت الراهن لا يعني أنها ليست مكسبا قائم الذات. حيث يجب النظر لإتفاق زرالدة سنة 1988 و الذي انبثق منه "إتحاد دول المغرب العربي" كخطوة الى الأمام يمكن أن توفر علينا الكثير من الوقت في حالة وجود نوايا لإعادة إحياء أي مستوى في التعاون و الشراكة المغاربية. و لهذا لدواعي عملية في أقل الأحوال من الحكمة بالنسبة للمدونين التونسيين المهتمين بالموضوع مقاربة موضوع هوية "المغرب الكبير" بشيء من التواضع و عوض الإنطلاق من الصفر عليهم محاولة المشاركة للبناء على أساس ما هو موجود و ليس القيام بسلوك عنتري يتخيل أن ما يقوم به لم يسبقه فيه أحد خاصة أنه توجد أصلا إتفاقيات و تشريعات قائمة تنتظر التفعيل.

و هنا آتي للمسألة المبدئية. و بشكل عام يجب أن أقول منذ البداية أن الهوية القومية العربية للـ"المغرب الكبير" لا يجب أن تؤدي ضرورة لمسخ الأقليات البربرية القائمة حقها في تعلم لغتها و الحفاظ على تراثها الخصوصي. فالتوازن بين الهوية القومية لأي بلد كان في العالم و أقلياته هي مسألة متحققة و ممكنة في كثير من الأمثلة. و في الحقيقة لا يجب القيام بذلك فقط لأسباب سياسية (أي إسكات مصادر الإحتجاج في القبايل الجزائرية مثلا حيث هناك رفض لتصرف الحكومة المركزية الموصوفة بأنها "عنصرية" لدواعي حقيقية و لكن أيضا أحيانا لأسباب سياسوية) بل يجب إستباق كل ما يمكن أن يشعر السكان البربر بأنهم هامشيون فممارسة حقوقهم بدون تمييز حقهم الطبيعي وفقا لجميع الشرائع. و من جهة أخرى حان الوقت بالنسبة لبعض المدونين للتخلي عن أفكار ساذجة و تقليدية من نوع أن الإنتماء القومي هو إنتماء إثني أو حتى لغوي فحسب. إن الأقليات البربرية تبنت في كثير من المناطق خاصة ليبيا و تونس و المغرب ليس مجرد اللغة العربية بل أيضا ثقافة بكاملها يطابعها الديني و لكن أيضا الحضاري. و لهذا تحديدا تفهم بعض الأطراف السياسية في القبايل التي تملك أجندات لا تهتم كثيرا بمصلحة الوحدة الوطنية الجزائرية أن فصل بربر الجزائر عن عربها لا يمر فقط عبر كتابة اللهجات البربرية بالأحرف اللاتينية (بعد أن كانت تكتب لقرون عديدة بالأحرف العربية، و هو ما أعرفه شخصيا من خلال المكتبات الخاصة في جزيرة جربة مثلا) بل يمر أيضا عبر تحويلهم للمسيحية. و بالرغم من أني أعتقد إن لكل كائن الحق في اختيار عقيدته إلا أن أمثلة مثل هذه تطرح بجدية مسألة تسييس العقيدة و علاقة ذلك بالأمن الوطني لأي بلد كان. لقد أثبت السكان البربر تاريخيا أنهم يفهمون الفرق بين الدفاع عن حقوقهم كأقليات و الإنحراط في مسار البناء الوطني في أقطارهم. النموذج المغربي يبعث على الإهتمام. حيث السكان البربر يمثلون جزءا هاما من التركيبة السكانية إلا أنهم لم ينخرطوا حتى خلال المرحلة الإستعمارية الفرنسية الإسبانية في أي نشاط من شأنه أن يعيد النظر في الهوية العربية (الحضارية و الثقافية) الجامعة للمغاربة. و كان الإنسجام مثيرا للإنتباه حيث كان من قادة الثورة في بعض الأحيان قيادات بربرية مثل عبد الكريم الخطابي (من بربر جبال الريف) و الذي كان بالمناسبة قياديا قوميا عربيا وقت كان يقود من القاهرة (بعد نفيه) تجمعا من أجل تحرير و استقلال الأقطار المغاربية (يمثل حركات التحرر الوطني بما في ذلك حزب الدستور الجديد) و المعروف بـ"مكتب المغرب العربي"، و هو ما يمكن أن يفاجئ البعض ممن يرون تباينا ضروريا بين العروبة و الخلفية البربرية. و من المهم هنا أن نتذكر أن القيادات الوطنية التونسية (بما في ذلك بورقيبة قبل دخوله في صراع مع جمال عبد الناصر) كانت ترى إرتباطا بين تحقيق الإستقلال و تحقيق مجال مغاربي مشترك (مهما كانت صيغته). و لهذا فقد إنخرطت القيادات الوطنية التونسية منذ البداية (قبل الحرب العالمية الأولى) في التشكيلات المتعاقبة التي نادت بـ"وحدة المغرب العربي". و هكذا كان الحلم الوطني للإستقلال متزامنا و في نفس إطار حلم الوحدة المغاربي. و لهذا أرجو من أي مدون "وطني غيور" أن ينظر لنفسه في إطار هذا التراكم التاريخي الذي كان دوما جزءا من هويتنا الوطنية في مسار تشكلها الحديث و ليس منعزلا عنها.

و في الحقيقة يجب أن نعتبر أنفسنا محظوظين في المجال المغاربي حيث أن الإنسجام البربري العربي كان ممكنا و قويا منذ قرون عديدة (بالمناسبة مسار "تعريب البربر" سبق "الزحف الهلالي" على عكس الفكرة الشائعة) بالموازاة (و أيضا بفضل) الإنسجام الديني المذهبي إذ كان المجال المغاربي و منذ فترة طويلة (أساسا من القرن حادي عشر ميلادي) في غالبيته العظمى مسلما ينحو للمذهب المالكي مع مسحة قوية من التصوف. قلت يجب أن نعتبر أنفسنا محظوظين خاصة في ظل الإضطراب الطائفي الذي تشهده مناطق عربية أخرى. و في الحقيقة يأتي كل هذا في ظل تشكل تاريخي أمكن لانسجام مماثل من الإستقرار و التمكن. و هنا أختم هذه النقطة بالمسألة التي بدأت بها. و هي أن تشكل هوياتنا الوطنية الحديثة لم يكن بالتأكيد مصطنعا. و على العكس من قناعاتي السابقة و قناعات الكثير من أصدقائي فإني لا أميل للرأي القائل أن هويتنا الوطنية التونسية (أو غيرها الجزائرية و المغربية...) كانت بالأساس حديثة و نتيجة "حدود مصطنعة خلقها الإستعمار". من الممكن أن يكون ذلك السيناريو الذي حصل في المشرق العربي (إتفاقية سايكس بيكو). و لكن في المجال المغاربي تشكلت الصيغ السياسية الحالية في صيغة مشابهة للدولة الترابية الحديثة بشكل تراكمي و سابق لحلول الإستعمار أواخر القرن التاسع عشر. فمنذ حوالي القرن الثالث عشر و إثر إنقسام الدولة الموحدية (و هي آخر كيان سياسي مغاربي موحد) اتجهت المجالات السياسية عموما للتمركز بين "إفريقية" (تقريبا المجال التونسي) و "المغرب الأوسط" (المجال الجزائري) و "المغرب الأقصى" (المغرب الحالي) و "طرابلس الغرب" (ليبيا)... و أصبح ذلك شديد الوضوح منذ القرن السادس عشر بحلول العثمانيين حيث ورثوا التقسيمات المجالية السابقة و عمقو في استقرارها و تمايزها بالرغم من الضغط القادم من إسطنبول في بداية الأمر لتوحيد إيالاتها. على أن ذلك لا يعني أن هذه المجالات السياسية إتخذت هوية قومة جامعة بالرغم من ذلك. و للأسف مازال البعض (في كثير من الأحيان عن جهل بالغ بأبسط المعطيات التاريخية) يردد المقولة المتمثلة في أن تونس كانت محل ترحال قدوم قوميات عديدة (فينيقيين، رومان، وندال، بيونطيين، عرب، ترك، فرنسيين) و يتم ضع هؤلاء جميعا في نفس المرتبة بداعي أنها جميعها "حالات إستعمارية". في حين أن المعطيات الموضوعية تشير بوشوح الى أن العرب وحدهم إثر الفتوحات الإسلامية من نجحو في إستمالة و تعريب السكان المحليين (ليس لغويا فحسب بل أيضا حضاريا) و الأمر الذي فشل فيه جميع الآخرين. حيث لا يوجد أي مجال جغرافي في حالة جامدة أزلية... بمعنى آخر لا توجد و لا يمكن أن توجد تونس أزلية و أبدية مختلفة هكذا بالفطرة عما يحيطها. فتلك ليست فكرة ساذجة فحسب بل تعبر عن الكثير من الاحتقار للمنهج العلمي و العقلاني في تقييم تاريخ الشعوب.

إذا أعتقد أن أفضل ما يفعله بعض المدونين غير المتأكدين من هويتهم الوطنية و معانيها التاريخية أن يبنو في تواضع على أساس من سبقهم و من صاغ بعد صراع طويل مجمل هذه المفاهيم. و مرة أخرى ليس من العملية (أي حتى في حالة عدم إقتناع البعض بالهوية العربية للـ"المغرب الكبير") فسخ الإجماع السياسي و الرسمي الحاصل لكي نضيع الوقت في نقاشات بيزنطية جديدة منهجها الأفكار السطحية و المتسرعة. و في جميع الأحوال لن يؤثر هؤلاء بشيئ حسب إعقادي حيث أن مجتمع المدونين هذا، و كما قلت سابقا غير مرة، يسبح في جزء منه في بحر عريض من الأوهام و العزلة عن مجتمعه الواقعي. و لهذا لن يستطيع أن يغير شيئا في الأخير حتى لو أراد... كل ما يستطيع فعله أن يعطل نفسه عن خدمة مجتمعه. ملاحظة أخيرة في هذا الإطار: لا يهمني بأي لغة يكتب المدونون تدويناتهم الذاتية من أخل "المغرب الكبير"... لكن ألا يبعث على الإستغراب أن الغالبية كتبت اليوم بالفرنسية أي بلغة لن يفهمها مثلا الليبيون و كذلك بلغة لا يتكلمها غالبية مواطني الأقطار المغاربية


"المغرب الكبير": لماذا و ماذا يمكن أن يتحقق الآن

بعيدا إذا عن الشعارات العامة المحلقة بعيدا من الضروري مقاربة موضوع "المغرب الكبير" ليس من زوايا إرادية (اي ماذا نريد أن نفعل) بقدر ما يجب مقاربته من زاوية موضوعية (ماذا يمكن أن نفعل). حيث أننا مرتبطون بظرفية تاريخية تقيد رغباتنا و أحلامنا. و لهذا يجب أن نحلم بقدر ما تسمح به أعمارنا. و من البداية أعتقد أنه مهما كانت الصيغة التي نرغب في تحقيقها يجب علينا كتونسيين، و أعتقد أن هذا أمر بديهي، أن لا نرهن كلية أي تنمية إقتصادية بالمشروع المغاربي. حيث الحقائق الموضوعية تشير بقوة الى أن كثير من الأمور هي خارج سيطرتنا. فتونس بلد مغاربي صغير حجما و إمكانا بالرغم من كل ما يستطيع أن يحققه على المدى القصير و المتوسط. و لهذا إذا واصلت أقطار مغاربية أكثر تأثيرا مثل الجزائر و المغرب صراعها البوهيمي من أجل فسفاط الصحراء الغربية (أو حتى صراعها من أجل العناد السياسي بكل بساطة) فإننا لا يمكن أن ننتظر و نوقف سيرنا حتى يتم تصفية هذا الخلاف. و بمعنى أخر فإن الرغبة في مشروغ مغاربي لا يمكن أن تعني التخلي عن مشاريع التنمية الوطنية كما يمكن أن يفكر البعض. ذلك أمر بديهي إلى درجة لا يمكن معها فهم بعض المدونين عندما يرون التفكير في "المغرب الكبير" تشويشا على مسارات التنمية الوطنية.

يبدو سؤال "لماذا المغرب الكبير؟" بديهيا إلى درجة يمكن أن نفشل فيها عن إدراك أي جواب عملي. و هنا سأكتفي بالتعرض لدواعي دقيقة حتى لا أسبح في العموميات المعتادة. من المحفزات الشائعة تلك الإقتصادية أي تحديدا منافع تحقيق "سوق مغاربية مشتركة" أو في أقل الأحوال إتفاق تفاضلي في التبادل التجاري الحر. و هذه مسألة تبدو مدللة على نفسها إلى درجة يمكن أن تغالط مفاهيمنا و تحبسنا في شعارات عامة. فمن البديهي مثلا أن أقطارنا لن تتوقف على النمو، حسب الأرقام الحالية على الأقل، حتى في حالة لم تتحقق أي صيغة توحيدية مغاربية مهما كانت (إقتصادية أو سياسية...). غير أن تلك مقاربة تقرأ النمو رقميا و حينيا و بشكل يصور أقطارنا بمعزل عن التطورات الدولية و ليس في بعده الاستراتيجي العام. للنظر لهذه النقطة بشكل أدق يمكن أن نطرح في إطار المقارنة السؤال التالي: كيف سيكون نمو فرنسا أو ألمانيا بشكل إنفرادي بمعزل عن تجربة السوق الأوروبية المشتركة؟ هل كان من الممكن أن يسترجع كل منهما عافيته و يواصل النمو بالشاكلة الراهنة إثر الحرب العالمية الثانية خارج الإطار الأوروبي (مع منطلقه: مشروع مارشال)؟ يمكن أن نضيف على كل ذلك عوامل الظرف الراهن و التي بصدد إعادة تشكيل معاني المنافسة الصناعية و التجارية خاصة مع ظهور الأسواق الإستهلاكية و الإنتاجية الدراكونية من الصين إلى الهند إلى الإتحاد الأوروبي.... و هنا آتي للفكرة الأولى التي تبدو لي أنها أصبحت مثل الشجرة التي تخفي الغابة. حيث و في إطار البرهنة المطمئنة يقع الالتجاء بسرعة إلى أكثر الأفكار التي يبدو أنها ستحسم موضوع "السوق المغاربية المشتركة" و هي وجود مجتمع كبير من المستهلكين (100 مليون بحلول 2012) و هذا في اعتقادي ليس نقطة قوة هذه السوق المفترضة بل أن الفرص التي ستمنح لحرية تنقل التجار و المصنعين المحليين تبدو أهم عوامل هذه السوق. إن حرية تنقل رؤوس الأموال و خاصة من خلال تشريعات تفاضلية تمنح إمتيازات خاصة لتنقل رؤوس الأموال المغاربية هو المحرك الأكثر أهمية في تنشيط الحياة الإقتصادية و التأسيس لمرحلة بنوية جديدة في المستوى الإقتصادي. الإستهلاك سيكون مضرا بدون قواعد إستثمارية ربحية محلية. تلك قاعدة نظرية لا تحتاج لتدخل علماء الإقتصاد. الإستثمار الأجنبي (غير المغاربي) يصبح ذي فائدة محلية و أيضا راغبا في المجيئ إلا عند وجود شركاء محليين أقوياء. و من الواضح هنا أن تحول منطقتنا إلى جاذب قوي لمستثمرين أقوياء يصبح أسهل في حال توفر إمكانية تسويق حرة مغاربيا لديهم كما هو الحال في هذا المثال.

غير أن المحفزات الإقتصادية لا يمكن أن تعمل وحدها. و هي أيضا مرتبطة بأطر إجتماعية و ثقافية. و هنا يبدو قطاع الإعلام في مفترق الطرق بين المحفزات الإقتصادية و تلك الثقافية. فإلى حد الآن لم تنشأ لدينا إمبراطوريات و شبكات إعلامية واسعة (على غرار أقطار المشرق العربي) يمكن أن تستخدم للدعاية للمنتوج المحلي في سوق واسعة في إطار يجلب المواطنين المغاربيين من خلال منتوج ثقافي (درامي، رياضي...) يستثمر الخصوصيات الثقافية المشتركة. هنا تبدو بعض مقترحات المدونين على بساطتها في غاية الأهمية. حيث سيكون تأثير بطولة (رابطة أبكال مغاربية) في كرة القدم شديد التأثير في التنشيط الخلفي و الدعائي طويل الأمد. يمكن إلقاء نظرة على الدور السياسي و الإقتصادي و الثقافي المميز لكأس رابطة الأبطال الأوروبية حتى نرى الأبعاد غير الكروية لهذه المسابقات.

و في الحقيقة و بالرغم من الفوائد الممكنة لتحقيق وحدة سياسية بأي شكل كان في الظرف الراهن فإن لا أحد يبدو مهتما بذلك. و من الطبيعي أن نرى أن مشروع وحدة سياسية هو مشروع طوباوي في الظرف السياسي الراهن. و لهذا لا أفهم إرتعاش بعض المدونين من صيغة "المغرب الموحد" حيث لا أعرف أي مشروع مطروح على المستوى السياسي أو الرسمي يقترح إنشاء وحدة سياسية فورية أو غير فورية. فمشروع "إتحاد دول المغرب العربي" و هو الأرضية التي عليها إجماع الآن (رغم المعوقات السياسية الحينية) تطرح تنسيقا سياسيا متصاعدا و لا تطرح بأي شكل من الأشكال وحدة سياسية.

تبرز في هذا الإطار المعضلة السياسة. و من الواضح أن ذلك ينقلنا للسؤال الموالي: كيف يمكن تحقق "المغرب الكبير" في الظرف الراهن. و هذا أولا و أخيرا إشكال سياسي. بداية من الواضح أننا في مرحلة تاريخية غير مسبوقة من ناحية الظرفية السياسية الدولية. فقبل سقوط الإتحاد السوفياتي كان هناك الكثير من الإشارات الحمر دوليا (خاصة من قبل الولايات المتحدة) أمام أي شكل من أشكال الوحدة المغربية ثنائيا أو جماعيا، سياسيا أو اقتصاديا حتى. و ذلك يبدو مفهوما تماما حيث كانت المشاريع المقترحة (بما في ذلك المشاريع المرتجلة و الإستعراضية للقيادة الليبية المتحالفة آنذاك مع "الصديق" السوفياتي) ذات أهداف سياسية بالأساس في مواجهة "المشاريع الإمبريالية". غير أن الوضع السياسي الراهن يطرح حافزا سياسيا قويا حيث أصبحت القوى الدولية الأساسية (و تحديدا اللاعبين الأساسيين في منطقتنا الولايات المتحدة و فرنسا) يدفعون في اتجاه أي شكل من أشكال التقارب و خاصة "سوق مشتركة". و هذا يطرح بقوة مسألة الإمكانية. حيث من غيرالمتوقع أن نرى ولادة طبيعية (غير قيصرية أو بيسماركية بمعنى آخر) لوحدة مغاربية في حال إعتراض القوى الدولية المهيمنة. غير أن الظرفية السياسية الراهنة بينت كذلك أن العوامل السياسية الخارجية مهما كان قوتها لا يمكن أن تتغلب على العوامل السياسية الداخلية. علينا هنا أن نرجع قليلا للوراء. حيث توقف المسار المغاربي كان ناتجا بشكل مباشر عن توقف المسار الإنتخابي في الجزائر و ما تلى ذلك من أزمة دموية و مدمرة مازالت فلولها متواصلة في جبال القبايل و المشرق حتى الآن من قبل جماعات أصبحت لها بدورها إستراتيجيات مغربية مما يعكس "العصر المغاربي" الذي نعيشه. و في الحقيقة لم تكن عودة مشكلة الصحراء الكبرى سوى رد فعل على تنامي الشكوك الأمنية بين الجارين الجزائري و المغربي إثر إندلاع العنف في الجزائر. و هكذا ليست مشكلة الصحراء قدرا مستعصي الحل بقدر ماهو نتيجة لظروف أكثر تعقيدا لم يتم حسمها حتى هذه اللحظة خاصة في المجال الجزائري.

غير أنه من المفارقات المثيرة أن إرهابيي "بلاد المغرب الإسلامي" و تحديدا ما يظهر بشكل متصاعد أنه رغبة في توسيع مجال العنف التكفيري الأبله ضد جميع الأنظمة يوفر في الحقيقة فرصة سياسية جديدة لتقريب قسري للنخب السياسية الحاكمة في أقل الأحوال بدافع الهاجس الأمني. و هكذا فإن ما أدى لتوقف المسار المغاربي بدءا و عزل الجزائر و من ثمة أفشل إمكان التنقل المغاربي الحر هو تحديدا العامل الذي يمكن أن يطرح تقاربا سياسيا ضروريا. عندها ستتوارى إشكالية الصحراء الكبرى مثلما توارت في زرالدة سنة 1988.
و هنا من الضروري الإشارة إلى تونس. حيث أنه بات من الواضح أن هناك حماسا يشمل جميع الأطياف السياسية في الحكم و خارجه في علاقة بمشاريع الشراكة المغاربية. و هذا وحده على ما أعتقد يعكس درجة التعلق التونسي التاريخي بالمشروع المغاربي. مرة أخرى كمؤشر واقعي قوي بالنسبة للمتعلقين بـ"تونس فقط" على تلازم تمثل الهوية الوطنية التونسية مع الطموحات المغاربية.

آتي هنا للنقطة الأخيرة و هي أيضا متعلقة بالجانب السياسي. حيث تبدو لدى البعض (مدونين أو غيرهم) هواجس حول أن "المغرب الكبير" غير ممكن التحقق في حال "غياب مغرب كبير ديمقراطي". تتمثل هذه الرؤية نسقا مختلفا في الأولويات لا يرى إمكانا لأي تقارب مغاربي بمعزل عن تحقق حد أدنى من الديمقراطية في كل بلد على حدة. و تلك ستكون رؤية واقعية في حال كان هناك تلازما حتميا بين قضية النمو و قضية المشاركة السياسة الديمقراطية. و على الرغم من رغبتي العاطفية في وجود تلازم مماثل إلا أن الوقائع الموضوعية تشير إلى وضع مخالف. و لا يبدو أكثر الأمثلة الراهنة المعاكسة لذلك أقوى من النموذج الصيني الذي يحقق أعلى نسب النمو تاريخيا في وجود بنية سياسية في غاية الجمود تغيب فيها أي أطر للتعبير السياسي الحر. في الجهة المقابلة تبدو بعض الأقطار الإفريقية مثل السينيغال و النيجر و نيجيريا في حالة إقتصادية مثيرة للشفقة بالرغم من إستقرار المسار الديمقراطي فيها. إن ذلك لا يعني بكل تأكيد غياب أي نوع من العلاقة بين البنيتين. و لكن حتى فرانسيس فوكوياما، و هو الذي قدم أكثر الرؤى تماسكا في اتجاه البرهنة على ترابط بين عامل إنتشار الديمقراطية (الليبرالية السياسية) و عامل النمو الإقتصادي و الرفاهية (الليبرالية الاقتصادية)، كان حريصا على الإشارة، بتأثير خلفيته الهيجلية، إلى غياب تلازم ميكانيكي و حتمي بينهما. و في الوقت الراهن يبدو من الواضح أن هناك "تطورا غير متكافئ" في مسار الدمقرطة (في استعارة للمفهوم اللينيني في المستوى الإقتصادي) في المجال المغاربي. لكن ذلك سيكون عقبة في حالة ما قررت أحد الأقطار رفض عقد أي اتفاقيات شراكة في حال تواصل شتمها في صحافة قطر آخر يمر بمرحلة إنفتاح إعلامي. و هو الأمر الذي لم يحصل و لا أعتقد أنه سيحصل.

أرجو على كل حال أن نستثمر "ما بعد 1 جوان" منتدى "المغرب" الذي أنشأه بيغ تراب بوي في اتجاه مواصلة نقاش أكثر عمقا.

في النهاية لا يمكن ألا أختم ببعض الشعارات في انسجام مع مجتمع المدونين الذي أنا منهم في كل الأحوال:

يحيا "المغرب الكبير" و يحيا مجتمع المدونين (التونسيين و المغاربيين عموما) مؤمنا و لكن أيضا مفكرا في المسألة المغاربية

و يحيا بيغ تراب بوي، "الأخ القايد"، و مجمع المدونين في السراء و الضراء

13 التعليقات:

آدم الصالحي يقول...

مقال جيد أخي طارق؛ أتمنى ان تواصل الكتابة في مسألة تاريخ تكون الاقطار المغاربية و كيف وصلنا الى الحدود الحالية؛ سيكون ذلك مهما جدا

Bouha يقول...

J'ai commancé a lire le post mais c'etait trooooooooooooop long et sans photos ni espaces pour reposer les yeux, alors je l'ai pas terminé.... dommage, je suis sur que c'est hyper interessant !

Téméraire V5.0 يقول...

Très Bon article, j'adhére à la plupart des idées exposées dans ta note.

Citoyen يقول...

و" تلك ستكون رؤية واقعية في حال كان هناك تلازما حتميا بين قضية النمو و قضية المشاركة السياسة الديمقراطية

الرؤية تستمدّ واقعيتها من الوقائع التاريخية فالمشاركة السياسية وكيفية هذه المشاركة كانت العامل المحدد لإفشال العديد من محاولات إيجاد تجمعات إقليميةأو مغامرات وحدوية.أماأن تفنّد عدم واقعيةالرؤية بناءا على عدم التلازم الحتمي بين قضية التنمية وقضية المشاركة السياسيةفإني أعتبرك غير مصيب خاصة بالإعتماد على مثال الصين ،فالصين قامت بخطوات عملاقة في مجال اقتصادالسوق ولايمكن القول ان ذلك لم يصاحبه المشاركة السياسيةفالمشاركة السياسية ترجمت باقتصاد السوق والفئات التي لها مصلحة شاركت مشاركة فعالة فمثال الصين يدعم عكس ما أردت إثباته.فروسياتوحى بأن ليس بها جمود ولم تحقق نموا مثل الصين لان الفئات التي لها مصلحة في اقتصادالسوق لم تستطع ترجمة مشاركتها السياسية في مجال الإقتصاد فأصيب بالوهن. فعن اي مشاركة سياسية نتحدث ؟وحين يقع تحديد ذلك سيمكن لنا الحديث عن علاقة التنمية بالديمقراطية.وإن لم يكن كذلك فعلينا الترحم على نظام بينوشي وفرانكو

Big Trap Boy يقول...

شكرا طارق على هذا المقال، كنت متأكدا أني سوف أستفيد من تدوينتك وفعلا قرأت مقالا متميزا واستفدت


مازال عندي ما أضيف في موضوع المغرب العربي الكبير وسوف يستمر النقاش إنشالله

عاشت الثورة التراب بويية ، عاش الزعيم إلى الأبد

:D

Tarek طارق يقول...

آدم: في الحقيقة أنا بصدد إنتظار الوقت المناسب للكتابة بشكل معمق في هذا الموضوع... و هو موضوع في غاية الحساسية و الأهمية بالنسبة لي
بوها: أعرف أني أطلت... لكن ذلك كان خارج إرادتي... يسعدني أنك قرأت حتى جزءا منه...
تيميرير: سعيد أننا على اتفاق
سيتويان/مواطن: أنا لم أنفي إمكانية وجود علاقة بين المستويين لكني لا أعتقد أن الواقع يشير الى أنها علاقة ضرورية و دائمة... أعتقد أن تلك رؤية طوباوية و إرادوية... أعتقد أن تحليلك للوضع السياسي في الصين مثير للإستغراب لأنه على الضد من إجماع حقوقي دولي في هذا الخصوص... من البديهي أن "المشاركة الإقتصادية" الصينية هي محدودة للغاية عدى أنه لا يمكن ترجمتها لمشاركة سياسية و هو الأمر الحاصل واقعيا... و مثلما اشرت هذا ما تؤكده جميع المنظمات الحقوقية في هذا الشأن بدون إستثناء
بيغ تراب بوي: مرحبا بخويا... الثورة البيغترابوية ماليلها معنى من غير الدور الريادي إلي يقوم بيه "الاخ القايد"....

Anonymous يقول...

ما أحلى السّم في الدسم

النسر الأسود يقول...

يعطيك الصحّة يا طارق..أقنعت وأفحمت

:-)

Tarek طارق يقول...

أهلا خويا غسان... نقرا في التقارير متاعك في الموقف خاصة مرصد الإعلانات... برافو

Zied- زياد يقول...

Bravo Tarek !

Citoyen يقول...

j'ai commenté cet article sur mon blog

Tarek طارق يقول...

شكرا زياد...
الأخ سيتوايان/المواطن: تركت تعليقا في مدونتك... و كما ذكرت سأقوم بتدوينة في خصوص هذا الموضوع في الأيام القادمة

yassan يقول...

J’ai lu votre article, je regrette votre ignorance aigue des réalités de notres pays.
J’ai décidé de t’écrire seulement parce que du prétend être démocrate, des milliers d’autre ne l'aurait pas fait pas parce qu’ils auraient considéré tes idées banales et archaïques .d’abord tu dit que les berbères sont minoritaires, qui t’a dit ça ? Tu as sillonné les pays, les pleines, les cymes et les montagnes ? T’a compté les gens pour sortir un tel verdict, ou t’es basé sur les dits des arabocranes comme toi ?
Tu as sauté pour dire que les berbères défendent le latin dans la transcription de la langue amazigh et immédiatement tu parles de la conversion au christianisme ! N’oublie pas bobo qu’en peut compter plus de fideles dans une mosquée au pays berbère que dans t’a tunisie entière.
Dommage ton exile, tes connaissances médiocres et tes sources d’information limités a Aljazeera et idem te ferment les yeux de voir une réalité pourtant rayonnante.
Sachez monsieur que l’identité profonde de ce que vous appelez Maghreb Arabe n’est autre que tamazight. Si non je ne vois pas ce qui me lie moi au fond de ce Maroc que je connaît bien a un bédouin yeminit d’origine qui habite a zouirat ou a ce béni hilalien qui habite les faubourgs d’Alaghouat.
Je m’arrête la pour ne pas me qualifier de je ne sais pas quoi .