الأحد، أكتوبر 14، 2007

من أجل الجلاء... من الماء أيضا


اليوم، 15 أكتوبر 2007، تكون قد مرت 44 سنة على ذكرى جلاء آخر قوات الاحتلال الفرنسي عن التراب الوطني. كان ذلك يوما مشهودا. فعلى الرغم من سوء تقدير الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في طريقة تنظيم و إدارة المواجهة العسكرية في معركة بنزرت (و ليس سوء التقدير في قرار المواجهة في ذاته مثلما يلمح البعض الآن) فإن حدث الجلاء لم يكن ممكنا لولا التضحيات المباشرة (في بنزرت و ساقية سيدي يوسف و غيرها) و غير المباشرة (دعم الحركة التحررية الجزائرية) التي قدمها التونسيون لتطهير أرض البلاد من أقدام احتلال غاشم لا يجب أن ننساه، مهما كانت الظروف، و لهذا يجب أن نتوقف دائما في مثل هذه المناسبات للذكرى و تعلم الدرس.

و لعل تصادف مرور هذه الذكرى مع حدوث الفيضانات الأخيرة في مدينة تونس و بعض ضواحيها و ما انجر عن ذلك من قتلى و مفقودين يجعل ذكرى الجلاء مناسبة للتوقف عند سؤال مركزي: لماذا كان من الضروري أن يحدث الجلاء الكامل و من ثمة أن يبني التونسيون دولة الاستقلال؟

أطرح هذا السؤال مع التشديد على أن أي تسييس لهذا الحادث المؤسف، بمعنى أي طرح لهذا الموضوع بغرض تصفية حسابات هذا الطرف مع ذاك لا يبدو غير حكيم فحسب و لكنه أيضا لا يحترم ذكرى ضحايا هذه المأساة. غير أنه، و مقابل التسييس، هناك مجال آخرواسع تفرضه حقوق و واجبات المواطنة و التي بدورها لم تكن من الممكن أن تتحقق لولا أحداث وطنية كبيرة خاتمتها جلاء القوات الفرنسية منذ 44 سنة.

ألا يفرض مشروع بناء "دولة الاستقلال" ليس فقط العمل على تحقيقه بل كذلك الجدل و التساؤل و الحوار الجدي حول ما لم يقع تحقيقه؟ و عندما تحدث فيضانات في مركز عاصمة البلاد وضواحيها بشكل متكرر أليس من حق و واجب أي مواطن تونسي أن يسأل و يطالب بالتحقيق الجدي في أسباب ذلك؟

ألا يصبح التساؤل أكثر إلحاحا عندما تتجنب القيام به وسيلة إعلامية بصرية عمومية يقع تمويلها من أموال دافعي الضرائب مثل قناة "تونس 7" عندما تفضل اللجوء الى بث تقارير تطمينية على منوال التقرير الاخباري المسائي ليوم 14 أكتوبر ("مشاريع المخطط الحادي عشر" و "أهمية الأمطار في جندوبة و سوسة") عوض القيام بتحقيقات صحفية تليق بالدور المفترض منها؟

قبل الاستمرار و قبل الاشارة لبعض الصحافة التونسية خاصة عندما تقوم بدورها (مثلما سأشير أسفله) من غير الممكن أن نتجاوز السؤال البديهي و الأولي الذي يكمن في مقدمة كل لسان يندفع نحو التبرير و الاعتذارية: هل كان ما حصل أمرا مقضيا؟ هل أن ما حصل كان نتيجة لتقلبات مناخية كبيرة حصرا و فقط؟ أم أن مجال التدخل البشري كان متاحا و لكن لم يحصل؟

إن الارتكان الى الراحة المعنوية المصطنعة عبر مقولات مثل "هذا ما قدر ربي و ما فعل" لا تظلم مقاصد المتن الديني فحسب بل أيضا تتجاهل طريقة رد الفعل البشري الطبيعي في نماذج مأساوية أخرى. فهل يمكن مقارنة مأساة بحجم إعصار "كاترينا" مع الأمطار الخريفية (مهما كانت قوتها) التي هطلت مرتين في ظرف الأسابيع الأخيرة على تونس؟ و رغم ذلك هلى توقف الداخل الأمريكي إعلاما و منظمات و كونغرسا عن التساؤل عما كان يمكن القيام به من جهة التدخل البشري و لم يحصل؟ ألم يقع التأكيد أنه حتى في مأساة مناخية استثنائية بذلك الحجم أنه كان هناك مجال للفعل و المنع و الحد و التقليل؟

ما من شك أن مشاريع عديدة تم تنفيذها في السنين الأخيرة في مجال البنية التحتية. غير أن ذلك لا يعني أن ما تم تحقيقه كان كافيا.. أو الأهم من ذلك أن لا أحد يتحمل المسؤولية فيما جرى... و لكن حتى لا يقول أي من المسؤولين أن الإعلام لم يقم بالتنبيه لما يمكن أن يمنع أو يحد من تأثير الفيضانات الأخيرة، يجب أن أستعرض مجموعة من المقالات و التقارير التي وردت في جريدة تونسية ليست معادية للأطراف المسؤولة (جريدة الصباح تحديدا) منذ بداية شهر سبتمبر فحسب حول موضوع عدم تلاؤم البنية التحتية الراهنة في العاصمة أمام التكرر (الذي أصبح مملا الآن) لفيضانات الخريف. حيث لا يكفي أن يتم إقامة مشاريع البنية التحتية بل يجب أيضا إقامتها بالشكل الذي يسمح بحماية مستعمليها من الغرق في الأوحال عدى الموت فيها.

في تقرير (في الصباح) بتاريخ 5 سبتمبر الجاري حذرت الصحيفة في مقال بعنوان "أمطار الخريف على الأبواب" من الطوفان القادم بشكل يبدو أنه تحذير روتيني مكرر و بعد تسؤلات موجهة الى "وزارة التجهيز و الاسكان و التهئية الترابية" تمنت الصحيفة "حتى لا تغرق العاصمة مجددا في المياه و الأوحال"... ثم حصل المحظور و تحققت مخاوف الصباح في أواخر شهر سبتمبر.. و لم يكن من الممكن عندها لأحد أن يلوم الصحفي محمد قلبي عندما يتساءل بسخرية في "لمحته" اليومية: " «ماذا فعلت البلديات وديوان التطهير قبل الفيضانات الأخيرة؟». ...هذا ما تساءلت عنه «الصّباح» بحرية كبيرة. مع أن الجواب بسيط لا يستحق التفكير... ويمكن أن نقول بإيجاز ماذا فعلت البلديات وديوان التطهير. لقد قضّوا الصائفة في الدّعاء إلى اللّه أن يمرّ الخريف سلامات... لكنه لم يستجب لدعائهم، فكانت الفيضانات!" (الصباح عدد 28 سبتمبر الجاري)

فهل كانت معلومات و تنبؤات جريدة تونسية حول تلاؤم البنية التحتية مع احتمال الفيضانات أكثر دقة من معلومات و تنبؤات الوزارة المعنية بنفس الملف؟

بعد ذلك عاودت الصباح طرح الملف في مقال بعنوان "ماذا عن الـ216 مشروعا لحماية المدن من الفيضانات؟" (الصباح 2 أكتوبر الجاري) أين وجهت تساؤلات حول دور المشاريع التي تم القيام بها تحديدا لمواجهة مشكل الفيضانات في "المدن" التونسية منذ سنة 1987 و التي تم التركيز عليها في تقارير إخبارية رسمية سابقة.. فهل كان هناك أي مشروع منها موجه لحماية مدينة المدن التونسية، العاصمة تونس؟

غير أن أهم سلسلة التقارير التي خصصتها الصباح لهذا الموضوع كان بتاريخ 6 أكتوبر الجاري عندما غطت اجتماعا لمجلس مدينة تونس (المجلس البلدي لتونس الكبرى). و لعله من الإفادة عرض فقرات هذه التقرير المخصصة تحديدا لموضوع الفيضانات دون زيادة أو نقصان... و دون تعليق:

" ولعلّ أهم الملفات التي عرضت خلال هذا المجلس تلك التي تتصل بمخلفات الأمطار الأخيرة.. وفي هذا الصدد بين السيد عباس محسن أن التصرف المحكم في مياه الأمطار يقتضي تأسيس ديوان لهذا الغرض أو الترفيع في الموارد المالية لفائدة ديوان التطهير حتى يتمكن من معالجة المسألة على النحو المطلوب..

وتمت الإشارة في مذكّرة حول نشاط بلدية تونس في مجال النظافة إلى أن مصالح إدارة النظافة خلال شهري أوت وسبتمبر قامت بالتعاون مع مصالح الديوان الوطني للتطهير والإدارة الجهوية للتجهيز والإسكان بتنفيذ برنامج متعلق بالاستعداد لأمطار الخريف وخصصت فرقا بمختلف الدوائر البلدية لجهر الأودية ومجاري مياه الأمطار وتنظيف البالوعات ومحيطها.. وتم التأكيد أنه تبعا لذلك لم تشكل الأودية ومجاري المياه نقاطا سوداء خلال الأمطار التي نزلت يوم 24 سبتمبر الماضي.

أما تجمع المياه في عدد من المناطق وتراكم الأتربة والأوحال بالشوارع والأنهج فمرّده السيول الناتجة عن الأمطار الغزيرة والتي جرفت كميات هامة من الأتربة من المرتفعات مثل الجبل الأحمر ورأس الطابية والبلفيدير وكرش الغابة والرابطة والسيدة المنوبية مما تسبب في انسداد البالوعات في وقت قصير وهو ما يفسر أن أكثر المناطق تضررا تلك القريبة من المرتفعات المذكورة أي العمران وباب سويقة ولافايات والمنار والطريق الوطنية رقم واحد والطريق إيكس 3 وهي وضعية تكررت كثيرا خلال السنوات الأخيرة وتتطلب تدخلا وحلولا جذرية على المستوى الوطني وبمشاركة كل الأطراف المعنية وذلك على غرار الطريق الوطنية رقم 9 ومحيط سبخة السيجومي. وتم التأكيد على أن مصالح النظافة بادرت بالتدخل الفوري وذلك بتركيز فرق من العملة بمختلف المستودعات للتدخل عند الحاجة وتوفير آلات لضخ المياه من الأماكن المتضررة وهي تقوم حاليا ومنذ يوم 25 سبتمبر أي بعد الفيضانات بيوم بجرف وإزالة الأوحال المتراكمة بالشوارع والأنهج والساحات بالتعاون مع مصالح إدارة الطرقات....

وصادق المجلس البلدي على المسائل المالية المعروضة عليه وهي تتعلق بالحساب المالي للبلدية خلال سنوات 2003 و2005 وتنقيح ميزانية التنمية خلال سنة 2006 وتنقيح ميزانية التنمية خلال سنة 2007.. ولكنّ بعد المصادقة لاحظ أحد المستشارين أن عملية المصادقة تقتضي اكتمال النصاب في المجلس ولكن النصاب لم يكتمل في جلسة يوم أمس.. وتعليقا على هذه الملاحظة بين السيد عباس محسن أنه لا يمكن إيقاف عمل المجلس البلدي بسبب تغيّب عدد من المستشارين البلديين لأنه يجب ألا يتم تأخير موعد النظر في مثل هذه المسائل..

وبرّر رئيس البلدية تغيب عدد من المستشارين عن مواكبة أشغال المجلس بأنهم يسهرون خلال شهر رمضان لأنهم يواكبون الأنشطة الثقافية المقامة في المدينة ليلا.. "

إن كل تساؤلات جريدة الصباح، التي لا يمكن لأحد أن يفترض حتى من باب المزاح أنها "تصطاد في الماء العكر"، هذه التساؤلات كانت بديهية و لا تحتاج عبقرية خاصة. حيث قامت صحيفة الصباح بالحد الأدنى من دورها المهني و لا تستحق شكرا على ذلك. و جميع هذه التساؤلات و التنبؤات تؤكد أمرا أساسيا: أنه كان من المعروف بالنسبة للمطلعين و لو بشكل عرضي على ملف الفيضانات في مدينة تونس و ضواحيها و مداخلها و منذ سنوات أن هناك ليس فقط خللا كبيرا بل إمكانية للتدخل... غير أن شيئا من ذلك لم يتحقق. في المقابل تكرر الفيضان و لا يجب أن يكون مفاجئا أن يوجد قتلى و مفقودون هذه المرة.

كان من المفترض أن يحتفل التونسيون اليوم، بما في ذلك عائلات قتلى و مفقودي الفيضانات الأخيرة، بالعيد الرابع و الأربعين للجلاء. غير أن جلاء قوات الاحتلال سيكون فاقدا لجزء من معناه لو لم تحقق "دولة الاستقلال" جزءا من مهامها الرئيسية. و من بينها "الجلاء من الماء". فلو تم تحديد المسؤوليات و فتح نقاش عام وشفاف مكتوب و سمعي و بصري حول هذا الملف و من ثمة الإسراع في تطويق أسباب تكرار هذه المأساة، هل سنعيش مجددا "فيضانات خريف 2008" في العام القادم ؟ ربما... و لكن سنكون قد قمنا حينها على الأقل بالحد الضروري من التدخل البشري. فهذا المسار و هذه الروح هي تحديدا ما يشكل المغزى من تحرير البلاد

0 التعليقات: